بعد ماراثون من التفاوض الذي لم تُعلن تفاصيله توصلت الحكومة اليمنية من جهة والحوثيون من جهة أخرى إلى صفقة مكّنت كل طرف منهما إلى استقبال عدد من أسراه لدى الطرف الآخر، بدأت الخميس 15 أكتوبر/تشرين الأول 2020، على إثرها أطلق نحو 700 أسير من الطرفين.
وأُطلق سراح 710 أسرى، بينهم سعوديون وسودانيون، في أكبر صفقة تبادل في اليمن بين الحكومة والحوثيين منذ بدء الحرب، برعاية الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر.
في 27 سبتمبر/أيلول الماضي، اتفقت الحكومة والحوثيون في جنيف بسويسرا على تبادل 1081 أسيراً، برعاية الأمم المتحدة والصليب الأحمر.
هذا الاتفاق قد يُفتح باب الأمل لوقف الحرب الدائرة منذ 2015، بين السعودية التي تقود تحالفاً عربياً ينفذ عمليات عسكرية في اليمن دعماً للقوات الموالية للحكومة، في مواجهة الحوثيين المدعومين من إيران.
في هذا التقرير سنحاول استعراض الأسباب التي قد تدفع الأطراف المتحاربة إلى التوصل لحل سياسي يوقف نزيف الدماء في البلاد.
1– السعودية والسقوط في مستنقع اليمن
عندما أعلن الأمير محمد بن سلمان عام 2015 عن عملية عاصفة الحزم حين كان يشغل منصب ولي ولي العهد، كانت التقارير تشير إلى أن عودة الحكومة المعترف بها دولياً في اليمن لن تستغرق وقتاً طويلاً، فربما أسابيع ويعود الحوثيون من حيث أتوا، لكن لم يتحقق هذا الأمر، بل بالعكس بين الحين والآخر تصل صواريخ الحوثي إلى قلب الرياض، وإلى مناطق هي أشد أهمية من العاصمة السياسية، مثل أرامكو التي تمثل شريان الحياة الاقتصادية للمملكة بالكامل.
فالعملية العسكرية التي مازالت مستمرة باتت تستنزف الخزينة السعودية بشكل كبير، فبحسب تقارير فإن التكلفة الشهرية للحرب تتجاوز 2 مليار دولار، والتي وصلت إلى نحو 100 مليار دولار دفعتها الرياض منذ إعلان الحرب، فيما بقي الوضع على حالته الأولى، بل أسوأ بعد سقوط عدد كبير من الضحايا من المدنيين، ناهيك عن تفكك اليمن، وباتت أصوات تنادي بالانفصال عنه مثل المجلس الانتقالي الجنوبي الذي تقف وراء طموحاته الإمارات، التي على ما يبدو هي الرابح الوحيد من الحرب.
هذه الحرب التي كانت ستقدم محمد بن سلمان على أنه المخلص من "أشرار" إيران أصبحت تمثل مستنقعاً كبيراً له بعد تفكك التحالف الذي انطلق عام 2015، حتى بات الآن يقتصر على السعودية فقط ودول أخرى لا تقدم حتى الاستشارة للرياض في هذه الحرب الطاحنة، ومن ثم فإن فرصة تبادل الأسرى الحالية قد تكون بداية لانسحاب سعودي ولو رمزياً من هذا المستنقع.
2- القلق من خسارة ترامب
لا تخطئ عين التراجع الذي مني به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الأسابيع الأخيرة أمام منافسه الشرش جو بايدن، الذي قد يحقق المفاجأة ويفوز في الانتخابات التي لم يتبق عليها إلا أيام معدودة. فخسارة الرئيس الأمريكي في هذه الانتخابات قد تمثل ضربة كبيرة لكل حلفائه في المنطقة، وخاصة محمد بن سلمان، الذي "حماه" ترامب أكثر من مرة، بحسب قول الرئيس الأمريكي، كان آخرها في "جريمة" قتل وتقطيع الصحفي المعارض جمال خاشقجي في قنصلية السعودية في إسطنبول.
ففي حال رحل ترامب فإن موقف الإدارة الأمريكية لن يكون متساهلاً مع طموحات محمد بن سلمان، وخاصة تلك المتعلقة بالحرب في اليمن، ومن ثم قد يفتح باب حظر بيع السلاح المستخدم في الحرب من قِبل واشنطن للرياض، أو على الأقل قصرها على أسلحة بعينها قد لا تفيد كثيراً في هذه المعركة، وأيضاً فتح ملف حقوق الإنسان الذي يزعج كثيراً السعودية وربما يفتح عليها أبوباً مغلقة أخرى مثل تعويضات ضحايا أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001.
فالتوقيت الآن يعد في غاية الأهمية بالنسبة للسعودية، التي تحاول الحفاظ على ما تبقى من سمعتها والخروج من اليمن بأي ثمن، ولو كان ذلك في مقابل بقاء صنعاء بيد الحوثي أو اللجوء إلى حيلة سياسية تبقي جماعة أنصار الله في العاصمة اليمنية، فهذه الصفقة والتي تعد الأكبر بين "السعودية" المتمثلة في حكومة هادي التي تقيم في الرياض وبين الحوثيين قد تفتح الباب أمام التوصل لحل سياسي أو أي طريقة تدفع السعودية إلى الخروج.
3- آخر طرق الحرب.. السلام!
لم تحسم الحروب القضايا السياسية في الأغلب، بل هي بداية للدخول في عمليات التفاوض، فأغلب الحروب التي اندلعت في العالم طويت صفحتها عند الجلوس على طاولة المفاوضات، فما يحدث في اليمن ليس بعيداً عن هذه الفرضية، فرغم مرور أكثر من 5 أعوام على الحرب فإن السلام لم يتحقق، بل بالعكس، فالحوثيون حلفاء إيران باتوا أقوى من أي وقت مضى بعد هذه الحرب، فيما بقيت الحكومة المعترف بها دولياً في مكانها لم تقدم جديداً، بل بالعكس الكثير من اليمنيين باتوا ينظرون إليها بعين الريبة، لاسيما أن القرارات التي تتخذها هذه الحكومة تأتي من فنادق الرياض وليس من أراضي يمنية، كما أن المواطن اليمني الفقير هو من يدفع الثمن.
أيضاً إيران التي يروج ولي العهد أنها ستتعلم الدرس من هذه الحرب لم تعد تكترث لتلك التصريحات، وهي بين الحين والآخر تلقن السعودية الدرس عبر ضربات بيد الحوثيين تارة، وتارة أخرى بيد ميليشيات تابعة لهم في العراق، مثلما حدث في استهداف خزانات النفط التابعة لعملاق النفط السعودي أرامكو منذ عام في منطقة البقيق عبر طائرات مسيرة وصواريخ كروز خرجت من قواعد تابعة للحشد الشعبي بالعراق، كلفت الرياض الكثير من المال والسمعة أيضاً.
فهذا يعني أن هذه العملية العسكرية لم تفد السعودية ولا الحكومة الشرعية في اليمن، بل كان أحد الرابحين من هذه الحرب الدموية هم الحوثيون أنفسهم.
ومن ثم قد تكون الفرصة جاءت للتوصل لحل سياسي أو لطريقة ما تحفظ ما تبقى من ماء وجه المملكة، بالخروج من اليمن وربما هذه الصفقة قد تكون البداية.
4- فرصة أخرى لمحمد بن سلمان الملك القادم
منذ تعيينه بمنصب ولي ولي العهد، قبل 5 سنوات، وعَيْن الأمير محمد بن سلمان على منصب الملك، الذي هو قاب قوسين أو أدنى منه بسبب مرض الملك سلمان، بعدما أصبح نجله هو الآمر الناهي في المملكة، بعد إزاحة الرجلين القويين محمد بن نايف، ولي العهد السابق، وإيداعه السجن، والأمير أحمد بن عبدالعزيز، شقيق الملك الحالي وأحد أبناء الملك المؤسس الذين هم على قيد الحياة.
معركة التخلص من الخصوم التي بدأها محمد بن سلمان منذ 2017، بالإطاحة بولي العهد السابق محمد بن نايف ربما قد تكون وصلت لنهايتها، إلا أن المجتمع الدولي في نفسه غصة من قبول محمد بن سلمان والتعامل معه بعد واقعة تقطيع أوصال جمال خاشقجي، وأيضاً بسبب الضحايا المدنيين في اليمن الذي يسقطون كل يوم.
فواقعة خاشقجي رغم عدم وجود دليل واضح -غير الذي تعرفه الاستخبارات الأمريكية- فإن محمد بن سلمان على وشك الخروج منها، خاصة بعد الأحكام "الرمزية" التي صدرت ضد فرقة الاغتيالات التي نفّذت العملية، وربما نظرة دول العالم تجاه محمد بن سلمان باتت تتحسن بعض الشيء، بسبب الأموال التي يضخها لجماعات الضغط في الأروقة الأمريكية، ومن ثم لم يتبق إلا الحرب في اليمن، والتي قد يغفر له العالم باقي الزلات إذا ما قرر وقفها بطريقة ما، ومن ثم يتوج ملكاً في حال رحيل والده في أي وقت، أو حتى قبل رحيله، بحجة عدم قدرة الملك سلمان على القيام بمهامه.
واقعة تبادل الأسرى التي تعد الأضخم ربما قد تساعد على بدء مشاورات جادة بين الأطراف في اليمن وتحت رعاية سعودية، وتتحول الرياض من طرف في المعركة إلى طرف في الحل، وهذا ما ستكشفه الأيام المقبلة.