لا ترغب سيندي تشمالي كوشرين وزوجها بادي كوكران في إعادة بناء شقتهما في بيروت. كذلك لا يسعيان إلى استبدال سيارتهما المحطمة أو إعادة بناء مطعمهما المدمر، فكثير من أهل بيروت يريدون الهجرة من لبنان وهي واحدة منهم.
إنهم يريدون الذهاب بعيداً عن المدينة التي لم يتغير فيها شيء منذ الانفجار العنيف في 4 أغسطس/آب 2020 – بعيداً عن المدينة التي انفجر فيها حوالي 2500 طن من نترات الأمونيوم، مما أدى إلى تدمير منازل 300 ألف شخص، إلى جانب أحلام الكثيرين.
منذ ذلك الحين، لم تجد البلاد سوى القليل من السلام، حيث تؤدي الانفجارات أو الحرائق الأسبوعية تقريباً إلى إثارة الصدمة من جديد، حسبما ورد في شبكة Deutsche Welle الألمانية.
تقول الزوجة سيندي: "سنترك بيروت إلى الأبد. فأنا لا أود قضاء المزيد من الوقت في هذا البلد". وتريد الأسرة الهجرة إلى أيرلندا لأن بادي زوجها له جذور أيرلندية وكذلك إيطالية ولبنانية – وبالتالي فهو يحمل الجنسية الأيرلندية اللبنانية المزدوجة. أما سيندي فهي لبنانية.
قررنا البقاء رغم كل ما رأيناه
تقول السيدة البالغة من العمر 40 عاماً "لقد أمضيت حياتي كلها هنا وشهدت الكثير من الأحداث: الحرب الأهلية، والعديد من جرائم القتل والآن الأزمة الاقتصادية. لقد عشنا في كثير من الأحيان في حالة من عدم اليقين والخوف". لكن كان هناك دائماً شيء ما يجعلها تقرر البقاء في المدينة حيث يتعلق قلبها ببيروت في النهاية.
لأكثر من عقد من الزمان، كانت سيندي وزوجها البالغ من العمر 44 عاماً يديران مطعماً في المنطقة التي عانت من وطأة الانفجار الذي حدث في أغسطس/آب 2020. وتقول سيندي "المطعم يقع في منطقة الجميزة بين الأنقاض والرماد. ولدي شعور بأن شيئاً أسوأ سيحدث هنا".
على مدى العقود الماضية، شهد لبنان عدة مراحل من الهجرة بسبب انعدام الأمن أو الحرب أو الأزمات، كما حدث خلال الحرب الأهلية من 1975 إلى 1990 والسنوات التي أعقبتها، أو خلال فترة الاضطرابات السياسية بين 2005 و2008. تشير التقديرات إلى أن ما بين 10
و14 مليون لبناني (أو من أصول لبنانية) يعيشون الآن خارج البلاد. ويعيش حوالي 5 ملايين لبناني فقط في داخل لبنان، تلك الدولة الصغيرة المطلة على ساحل البحر المتوسط.
ولكن كل شيء انتهى.. والآن نريد الهجرة من لبنان
بعد الانفجار الذي تخللته الأزمة الاقتصادية المتفاقمة باستمرار، يرغب المزيد والمزيد من اللبنانيين في المغادرة مرة أخرى. بالنسبة للفقراء والذين ليس لديهم أي خيار آخر، أصبح طريق البحر الأبيض المتوسط الخطير عبر قبرص مؤخراً يستحق المخاطرة بشكل متزايد.
من جانبها، عبأت عائلة كوكرين حقائبها بالفعل. لكن قبل أن يذهبوا، يتعين عليهم تعزيز بعض الجدران لمنع ما تبقى من شقتهم من الانهيار، ويتعين استبدال الأبواب والنوافذ المحطمة.
تقول سيندي "لقد تمهلنا في العديد من المرات حتى تتحسن أحوال البلاد. لكن الأمر الآن لا يتعلق فقط بزوجي وأنا، ولكن أيضاً بابنتنا زوي البالغة من العمر عامين ونصف. يجب أن تكبر في بيئة آمنة".
حتى المنزل لم يعد مكاناً آمناً
حتى في أسوأ أحلامها، لم تعتقد سيندي مطلقاً أن ابنتها قد تكون في خطر وهي في المنزل. مع إمكانية تعرض زوي بشكل خاص للإصابة بمرض كورونا المستجد، لم تغادر العائلة الشقة تقريباً منذ فترات طويلة. في يوم الانفجار، كانت زوي على أول موعد لها للعب منذ شهور من البقاء في المنزل.
بعد عودة أصدقاء زوي إلى منازلهم، كانت زوي مع والدها بادي في الطابق العلوي من الشقة في منطقة الجميزة. وكانت سيندي تجري مكالمة هاتفية في الطابق السفلي عندما طار باب الشرفة في وجهها. وعندما عادت إلى وعيها، نهضت وبحثت عن زوجها وابنتها.
تقول سيندي "صعدت إلى الطابق العلوي وناديته، لكن بلا إجابة. كانت أسوأ أربع دقائق في حياتي حتى وجدتهما محتشدين في إحدى الغرف".
أصيبت زوي بجروح خطيرة في الرأس وأصيب الزوج بجرح كبير في ذراعه. أما سيندي فكانت تعاني من جروح في كل مكان في جسدها. بأعجوبة، في خضم الفوضى، وصلوا إلى المستشفى بعد 90 دقيقة.
"حفلة تنكرية".. الناس فقدت أطرافهم وكانوا مغطين بالدماء
تقول سيندي: "لن أنسى المشهد هناك أبداً: أناس فقدوا أطرافهم، وأجسادهم ملطخة بالدماء. لقد أخبرت ابنتي أننا كنا في حفلة تنكرية حيث كان الجميع يدهنون أنفسهم باللون الأحمر"، في محاولة لحماية زوي من الخوف.
أرسلت سيندي صورة لعائلتها: "صورة أجبرت فيها نفسي على الضحك حتى لا يقلق أحد"، كما تقول، ولا سيما لطمأنة والدتها. تعافت زوي ووالداها الآن، جسدياً على الأقل.
تقول سيندي: "لا يجب أن نشعر بالامتنان لأننا ما زلنا على قيد الحياة، لأنه لا ينبغي أن نكون في هذا الموقف في المقام الأول". لقد قُتل ما يقرب من 200 شخص في الانفجار، بما في ذلك جدة بادي، السيدة كوكران سرسق، مالكة قصر سرسق التاريخي المدمر الآن في بيروت. وأصيب ستة آلاف شخص. تقول: "هؤلاء الناس لم يكن عليهم أن يموتوا".
تقول سيندي إن ما حدث كان من الممكن تجنبه. "يقول الناس هنا دائماً "لقد كان الله لطيفاً بنا نحن الناجين" – لكنني لا أريد أن أعيش في خوف بعد الآن".
يفضلون حرباً أهلية على التنازل عن الحكم
يبدو أن لبنان بلغ ذروة المشاكل، ليس فقط من الناحية المالية والاقتصادية، ولكن أيضاً على الصعيد السياسي. ربما كان تشكيل حكومة جديدة من التكنوقراط الأكفاء الفرصة الأخيرة للبلاد قبل الإفلاس.
لكن سماسرة النفوذ في لبنان لم يتمكنوا من الاتفاق على الحكومة المقترحة لرئيس الوزراء اللبناني مصطفى أديب. يقول بعض المراقبين اللبنانيين إن الطبقة السياسية تفضل المجازفة بحرب أهلية على التخلي عن مناصبها.
تقول كريستين هاوزر، مالكة فندق بوسا نوفا، حيث وجدت عائلة كوكران مأوى في الأيام الأولى بعد الانفجار: "كان لدينا أمل، لكن لم يعد أحد يعتمد على هذا الأمل".
لا يزال العديد من الأشخاص الآخرين مثل أفراد عائلة كوكران في الفندق حتى يومنا هذا، بينما لا يزال المزيد يأتون إلى الفندق هرباً من الأنقاض حيث يضطرون إلى مواصلة عيش حياتهم. وتقول كريستين بلا أمل: "هؤلاء السياسيون لن يسمحوا لنا بالعيش بكرامة".
على الرغم من أن الفندق الذي تملكه هاوزر يبعد خمسة كيلومترات عن مركز الانفجار، إلا أن واجهته الزجاجية تحطمت. وكان زوجها، سيباستيان كراكون، في مكتب الاستقبال في ذلك الوقت. لحسن الحظ، لم يصب أحد.
ارتفاع الأسعار مع منع سحب الودائع المصرفية
يقول كراكون: "بالطبع، نحن نفكر أيضاً في المغادرة. في الوقت الحالي، لا يزال بإمكاننا تغطية تكلفة الفندق، حتى لو كنا نتلقى المدفوعات بالليرة اللبنانية فقط ونحصل على ما يعادل 22 دولاراً للغرفة في الليلة الواحدة، بسبب انخفاض قيمة العملة".
جدير بالذكر أن الليرة اللبنانية فقدت 80٪ من قيمتها. مع اعتماد معظم الشركات على الواردات، التي ارتفعت أسعارها بشكل كبير، فإن مستقبل فندق كراكون وهاوزر غير مؤكد. كما منعت البنوك الناس من سحب الودائع لدرء الانهيار.
تقول هاوزر: "حتى لو أردنا المغادرة، فقد أصبح الأمر مستحيلاً، لأننا لا نستطيع سحب أموالنا من البنك". كيف يفترض بنا أن نبدأ من مكان آخر بدون رأس مال؟".
لكن إذا حدث شيء أسوأ، مثل الحرب الأهلية، فسيغلقون الفندق ويغادرون البلاد. إن هدفهم هو الوصول إلى المملكة المتحدة. جدير بالذكر أن هاوزر لبنانية، بينما زوجها كراكون المولود في ألمانيا لديه جوازات سفر بريطانية وألمانية، وكذلك طفلاهما.
لن نكون سعداء أبداً
تقول هاوزر: "كل ما يحدث هنا لم يعد في أيدينا". لقد أصبح التلوث البيئي، وجبال القمامة، والأدوية المنتهية الصلاحية، والأغذية المنتهية الصلاحية، كلها جزءاً من الحياة اليومية في لبنان.
وتضيف: "إنهم يقتلوننا ببطء، حتى من الداخل. لقد غيرونا إلى الأبد. لا أعتقد أننا يمكن أن نكون سعداء حقاً مرة أخرى، بغض النظر عن المكان الذي نعيش فيه. لن ننسى أبداً ما حدث. فالكثير من الناس يعانون من الصدمة ويعيشون في حالة من القلق". كذلك يعاني ابنها من كوابيس.
على الجانب الآخر، تعرضت سيندي كوكرين لنوبات هلع متكررة. وتزور حالياً معالجاً لبنانياً، لكنها ستستفيد من العلاج عبر الإنترنت بمجرد مغادرتها بيروت. وتقول سيندي: "سنبدأ من جديد في أيرلندا. لا نخطط للعودة إلى بيروت – ليس حتى يحدث تغيير جوهري هنا".