كان القرار صعباً، لكنهما هاجرا، ورغم أن الرحلة طويلة ومحفوفة بالمخاطر، فإن الأمل في مستقبل مزدهر كان يداعب أحلامهما.
محمد ومصطفى جيران في المغرب منذ الطفولة، عمِلا معاً في مجال "السيراميك" ولم تعد الـ 15 يورو التي يتقاضونها في اليوم تكفيهما لتأمين حياة كريمة، فقد تزوج مصطفى وأصبح لديه أولاد، وصار في الثلاثين من عمره، وبات مسؤولاً عن إعالة أسرته عقب وفاة والده، بينما محمد الذي يصغره بثلاث سنوات، يسعى ليحقق حلمه بحياةٍ أفضل.
قرر محمد ومصطفى الهجرة معاً إلى غرب أوروبا عبر دول البلقان؛ هرباً من الأوضاع الاقتصادية المزرية التي يعيشانها، وظنّا أنهما سيضحِّيان بالقليل وسيحصلان على المستقبل الرغيد، وأخذا يحلمان بالوصول إلى إسبانيا أو فرنسا في نهاية المطاف.
رأيا أن الحلم ليس بعيد المنال، فصديقهما المشترك وصل قبل فترة إلى ألمانيا وتمكن من إيجاد عمل، بل كوَّن أسرة أيضاً، فعقدا العزم وبدآ الرحلة إلى تركيا ثم اليونان، وصولاً إلى ألبانيا فالجبل الأسود وانتهى بهما المطاف في البوسنة.
البرد القارس وعنف الشرطة الكرواتية
لا تعد البوسنة مقصداً للهجرة أو المهاجرين؛ فهي واقعة خارج الاتحاد الأوروبي الذي غالباً ما يقصده المهاجرون، فهي طريق في رحلة الهجرة يدخلون منه إلى كرواتيا وسلوفينيا؛ من ثم يكون الوصول إلى النمسا وألمانيا وفرنسا أمراً سهلاً، كما يعتقد بعض المهاجرين.
لكن هذه المحطة الأخيرة في البوسنة هي الأصعب والأشد خطورة، فالبرد قارس جداً في فصل الشتاء وكثرة انتشار شرطة الحدود الكرواتية تجعل مهمة دخول البلاد بشكل غير شرعي أمراً صعباً للغاية، فالشرطة عنيفة جداً مع المتسللين إلى حدود البلاد.
محمد ومصطفى لا يزالان عالقَين في البوسنة منذ عام، حاولا خلاله دخول الأراضي الكرواتية 3 مرات، كان ذلك قبل تفشي كورونا، ونجحا في الدخول لكن عناصر الشرطة الكرواتية تمكنت من القبض عليهما وضربهما وإعادتهما إلى الأراضي البوسنية، مع كثير من المهاجرين الذين أُجبروا على الخروج حفاةً وقد سُلبوا كل شيء، فلا ملابس شتوية تدفئهم ولا أموال معهم ليشتروا طعاماً، ولا هواتف يستنجدون خلالها بأحد ينقذهم.
تحدَّث إلينا محمد، كان ثائراً وغاضباً، لكنه تحدَّث بلهجة أكثر إصراراً على تحقيق هدفه، وقال: "كنا ننام على الجبال في درجة حرارة متدنية، لكن رح نعاود ونعاود ونعاود حتى نفوت".
كيف يعيش المهاجرون؟
طرح السؤال نفسه: كيف للمهاجرين تأمين احتياجاتهم طوال هذه الفترة الطويلة في البوسنة؟ ومن أين كانوا يحصلون على المال؟
أخبرَنا محمد بأن بعض المهاجرين يجلسون قرب أحد المحال التجارية؛ ليساعدهم بعض المواطنين البوسنيين، وخلال حديثه هو ومصطفى مع "عربي بوست"، اقتربت منهما امرأة بوسنية مُسنة، وسألتهما بصوت عطوف: "Jesi li gladan؟" (هل أنت جائع؟)، ولما رأت أنهما لا يفهمان ما تسأل، أشارت إلى بطنها، فأبلغاها أنهما ليسا جائعين.
بعد دقائق، مرَّت أُم بوسنية وأعطت ولدها الصغير نقوداً؛ ليعطيها لمحمد وهو يبتسم في وجهه.
هذان الموقفان نقلا الحديث مع محمد ومصطفى إلى تجربتهما مع معاملة الشعب البوسني للمهاجرين، خاصة بعدما استقر بهما الحال في شقة مهجورة منذ أيام الحرب بالبوسنة قرب العاصمة سراييفو، دون مياه أو كهرباء أو أية مستلزمات منزلية.
وهنا قال محمد: "والله، لن أنسى خير البوسنيين.. مهما طال الزمان أو قصُر لن أنسى خيرهم"، فقد كوَّن محمد صداقات في البوسنة، خصوصاً مع السيدات كبار السن اللواتي بتن يقدمن له الطعام ويمنحنه الملابس من حين لآخر، بل يسألن عنه إذا غاب فترة طويلة.
قلَّة منهم تشوه صورة الجميع
بعدما سمعنا قصة محمد ومصطفى، بات مهماً أن نعرف انطباع الشعب البوسني نفسه عن المهاجرين.
التقينا فتاة جامعية تدعى ميليسا، قالت إنها تشعر بالأسف على أوضاع المهاجرين التي يعيشونها، ومن الصعب عليها أن تعيش حياتهم، خاصة أنهم مُهمَلون دون أي حماية.
لكنها أشارت إلى نقطة مهمة وقالت: "بشكل عام ولا أتهم أحداً بشكل مباشر، لكنني في الآونة الأخيرة أصبحت أشعر بالقلق، بسبب حوادث الهجمات والسرقات وحتى القتل. هذه مشكلة لا بد لها من حل في أسرع وقت ممكن".
انطباع الفتاة الجامعية هذه يشبه إلى حد كبيرٍ شعور السيد أيوب، الذي أشار إلى أنه في بداية الأزمة كان التعاطف كبيراً مع هؤلاء المهاجرين، خصوصاً من قِبل المسلمين، لكن حوادث النشل وتعاطي المخدرات التي ارتكبها البعض، أثرت على النظرة العامة إلى هذه القضية الإنسانية.
ولفت إلى أن الكثير من الناس أصبحوا يخشون المشي بمفردهم ليلاً، خاصةً النساء.
فيما لا يمانع الشاب حمزة وجود المهاجرين في بلاده، ولا يحمل أية مشاعر سلبية تجاه المهاجرين العاديين، وقال: "أنا آسف لهم، أعرف أن البوسنة ليست هدفهم".
مجدداً التقينا بعض المهاجرين، ونقلنا إليهم مشاعر أهل البلد تجاههم، وسألناهم عن حقيقة مخاوف الناس.
أحمد (25 عاماً)، مهاجر مغربي عالق في البوسنة منذ عامين وحاول العبور إلى كرواتيا، لم ينجح بأي منها في تجاوُز الشرطة الكرواتية، أكد أن أفعال القلة السيئة تشوه صورة الباقين.
وتابع: "للأسف.. هناك من يتعاطى المخدرات ويشرب الخمر ويرتكب الجرائم.. وهذا يؤثر على تعاطف الناس معنا ويشوه صورتنا".
وكانت جريمة قتل ارتكبها مهاجر بحق مهاجر آخر، مطلع الشهر الحالي، بسبب المخدرات، انتشرت بين الصحف ووسائل الإعلام البوسنية، سبقتها عملية سرقة لمحل مجوهرات في البلدة القديمة بالعاصمة، وهو الأمر الذي كان له أثر سلبي ساهم في تشويه صورة المهاجرين.
آخر إحصائيات المهاجرين إلى البوسنة
حول آخر الأرقام الرسمية المتعلقة بالمهاجرين العالقين في البوسنة، قال وزير الأمن البوسني، سيلمو تسيكوتيتش، إن وزارته سجلت انخفاضاً في عدد المهاجرين الذين دخلوا البلاد في الأشهر الثمانية الأولى من هذا العام، بسبب جائحة كوفيد-19.
وقال رداً على سؤال أحد أعضاء البرلمان حول أزمة المهاجرين: "انخفض تدفُّق المهاجرين بنحو 39%، لأننا سجلنا العام الماضي 18.399 مهاجراً، ولكن هذا العام ليس هناك سوى 11.292".
وأوضح أن غالبية المهاجرين هذا العام قدِموا من أفغانستان، بنسبة تصل إلى 27% من العدد الإجمالي، تليها باكستان بنسبة 23%، ثم بنغلاديش 19%، فالمغرب 10%، والعراق 4.5%، إضافة إلى إيران وتونس والجزائر ومصر ودول أخرى بنسب قليلة.
وكشف أن من بين 11 ألف مهاجر دخلوا البوسنة، طلب اللجوء 185 منهم فقط.
تجدر الإشارة إلى أن قضية المهاجرين تشكّل أحد النزاعات الرئيسية بين مختلف الأطراف السياسية في البوسنة.
فبينما يروّج الرئيس الصربي في مجلس رئاسة البوسنة، ميلوراد دويك، إلى أن قضية المهاجرين تهدف إلى "أسلمة" البوسنة، ويدعو إلى ترحيلهم والتعامل بشكل جذري مع هذا الملف، تنفي أطراف أخرى تلك الادعاءات وتؤكد أن الملف إنساني بحت ويجب حلُّه بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي والدول الأصلية للمهاجرين.