عاد الفرنسيون إلى الشرق الأوسط، أو على الأقل هذا ما يبدو عليه الأمر. فمع كل الحديث الذي أخذ يتردد عن دخول روسي أو صيني لملء الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، تقدمت فرنسا للرهان على دور لها في حسم أمور المنطقة، كما تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية. وخلال الشهر ونصف الشهر الماضيين، زار الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، لبنان مرتين، ثم توجه إلى بغداد؛ لعقد اجتماعات مع الرئيس العراقي برهم صالح ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي ورئيس حكومة إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني. كما عزز ماكرون الوجود العسكري الفرنسي في المنطقة، وأرسل وحدات بحرية، منها حاملة طائرات هليكوبتر وفرقاطة، إلى شرق البحر المتوسط.
ماكرون يحاول إعادة تشكيل الشرق الأوسط
على المستوى الرسمي، صدرت الأوامر بهذه التحركات؛ لدعم جهود الإغاثة في لبنان بعد الانفجار المدمر لمرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب الماضي. غير أن هذا لا يفسر وصول قوات ومقاتلات فرنسية إلى جزيرة كريت اليونانية أو الطائرتين النفاثتين اللتين ظهرتا في قبرص، فضلاً عن الوحدات البحرية التي قدمت عرضاً تضمن مناورات مشتركة مع البحرية اليونانية وإجراء تدريبات.
تقول المجلة الأمريكية، إن صانعي السياسة الفرنسيين لطالما حافظوا على التصور المتوهم بأن فرنسا لا تزال قوة يُحسب حسابها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وشرق المتوسط. وإلى ذلك ترجع قرارات مختلفة، مثل بيع بعض الأسلحة باهظة الثمن لمجموعةٍ متنوعة من بلدان المنطقة، والانضمام إلى الأمريكيين والبريطانيين في مجموعة متنوعة من العمليات العسكرية (وإن لم تكن بحجم غزو العراق)، والمشاركة في عمليات مكافحة الإرهاب، خاصة في شمال إفريقيا. علاوة على أنه، بين الحين والآخر، يعلن رئيس فرنسي عن عزمه على إيجاد حل للصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
غير أن هذه التصريحات والبيانات لا تلبث أن تُنسى ويتلاشى أثرها قبل حتى أن يحل موعد الدورة الانتخابية التالية. ومع ذلك، فإن الفرنسيين يبدون هذه المرة أكثر جدية بشأن دورهم في هذه المناطق المترابطة شؤونها. كما يبدو ماكرون متمسكاً بزعمه أن "فرنسا مستعدة لممارسة القوة لتحقيق النظام والاستقرار في المنطقة".
فما أسباب هذا التغير؟ باختصار: اللاجئون والطاقة وتركيا
اللاجئون
منذ ما يقرب من عقد من الزمان، سعى نيكولاي ساركوزي، أحد أسلاف ماكرون، سعياً حثيثاً لحشد الدعم لتدخُّل عسكري دولي يُسقط الزعيم الليبي معمر القذافي. ولم يكن الرئيس الفرنسي آنذاك من دعاة التغيير من أجل إحلال الديمقراطية في ليبيا، بل كان دافعه- كما يقول- هو القلق من أن يؤدي العنف الذي هدد به القذافي رداً على الانتفاضة ضده في عام 2011، إلى اندفاع موجات من اللاجئين الهاربين من القمع إلى الشواطئ الأوروبية.
وعلى ما يبدو فإن المشكلة ذاتها هي التي تسوّق تحركات ماكرون في ليبيا، وإن كان ثمة فرق هنا. فبدلاً من السعي إلى طريقة للتخلص من دكتاتور موجود، يبحث ماكرون هنا عن دكتاتور ليضعه في السلطة. وهكذا عندما تحالف الفرنسيون مع أمير الحرب المتقاعد خليفة حفتر، اللواء غير الكفء الذي يقود ميليشيات ومرتزقة أفارقة وروساً ضد الحكومة المعترف بها دولياً في طرابلس، كان ذلك بناءً على حسابات باردة، مفادها أن حفتر يمكن أن يكون الرجلَ القويَّ الذي تحتاج فرنسا وجوده للحفاظ على ليبيا في الوضع الذي تريده.
مسألة اللاجئين هي أيضاً التي تقود التحركات الفرنسية في لبنان جزئياً. فبصرف النظر عن احتمالات كون الاستجابة الفرنسية مدفوعة بالحنين إلى الماضي الاستعماري، فإن الجزء الأبرز من المشكلة هو احتمال ظهور شتات لبناني جديد في أوروبا، خاصة بعد موجة اللاجئين السوريين التي عصفت بالسياسة الأوروبية التقليدية وأسهمت في نجاح أحزاب قومية يمينية ونازية جديدة في مجموعة متنوعة من البلدان. ومن ثم يريد ماكرون تجنب موجة جديدة من اللاجئين، لا سيما أنه مُقبل على انتخابات رئاسية في 2022 بصفته مرشحاً يحظى بموافقة عامة في الأشهر الأخيرة، تتراوح بين تأييد ضعيف ومتوسط ثم تتراجع مرة أخرى، وهكذا.
الطمع في مصادر الطاقة
من المهم هنا أيضاً ألا ننسى أن موارد الطاقة التي تكمن في باطن الأراضي الليبية والعراق ومياه لبنان وقبرص هي أيضاً موضع اهتمام بارز للفرنسيين. إذ تمتلك ليبيا أكبر احتياطي نفطي في إفريقيا وخامس أكبر احتياطيات للغاز الطبيعي، ولهذا تعمل شركة الطاقة الفرنسية "توتال" Total في ليبيا منذ ما يقرب من سبعة عقود. وفي العراق، تمتلك الشركة نفسها حصة تبلغ 22.5% في ائتلاف تجاري (كونسورتيوم) يدير حقل الحلفاية النفطي، ولديها حصة 18% في منطقة استكشاف أخرى بإقليم كردستان. كما أن فرنسا تشارك في التنقيب عن الغاز قبالة الساحل الجنوبي لقبرص، والذي يقع بجوار المياه اللبنانية مباشرة، حيث يُعتقد أيضاً أن هناك كميات وفيرة من موارد الطاقة.
وعلى الرغم من أن الفرنسيين اكتسبوا في العقود الأخيرة نوعاً من السمعة "الجيدة" في الشرق الأوسط؛ لدعمهم العلني لمبادئ وحقوق الإنسان، ولاختلاف موقفهم في كثير من الأحيان عن مواقف الولايات المتحدة حيال قضايا إقليمية مثل فلسطين والعراق، فإن هذه التناقضات حجبت حقيقة أن الفرنسيين يتحركون في المقام الأول لمتابعة وحماية مصالحهم التجارية في الشرق الأوسط بإصرار، وعلى رأس ذلك جهودهم الأخيرة لاستغلال موارد الطاقة في المنطقة.
الصراع مع تركيا
بعد ذلك، تأتي تركيا. فالنوايا المبطنة بين البلدين حيال بعضهما تتجاوز مجرد النفور الواضح الذي يحمله ماكرون للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والازدراء الذي يكنّه أردوغان عموماً لنظيره الفرنسي. إذ لطالما كانت فرنسا، إلى جانب عدد من الأعضاء الآخرين في الاتحاد الأوروبي، متشككة في عزم تركيا على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وفي هذا السياق، من الواضح أن المسؤولين الفرنسيين يرون أن الاتحاد الأوروبي يجب أن يظل نادياً من البلدان ذات الغالبية المسيحية المتوافقة مع جغرافيا محددة، وهو أمر لن تتأهل له تركيا المسلمة ثط، وليس نادياً حصرياً من دول قائمة على مجموعة من المُثل والمعايير، التي يمكن أن تصبح أنقرة مؤهلة لها في المستقبل.
وفي هذا السياق، يبرز نهج تركيا تجاه شرق البحر الأبيض المتوسط وشمال إفريقيا في العموم، فمن وجهة نظر باريس، يشكل التنقيب عن الغاز التركي قبالة قبرص تهديداً لإحدى الدول العضوة في الاتحاد الأوروبي، وللمصالح التجارية الفرنسية بالمنطقة. كما يتعارض دعم أنقرة لحكومة الوفاق الشرعية في طرابلس مع أجندة فرنسا هناك.
وعلى هذا المنوال، جاءت زيارة ماكرون للعراق في سبتمبر/أيلول، حيث انتقد تحركات تركيا في شمال العراق، لمحاربة حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً. ولا شك في أن ماكرون انخرط في بعض التصيُّد الذي هدف به إلى إزعاج الجميع تقريباً في تركيا، بالنظر إلى الحساسيات التركية المعروفة والمنطقية بشأن هذه المسألة.
ومع ذلك، فإن ذروة الدراما الفرنسية مع تركيا تقع في الخلاف الحادث بينهما في شرق المتوسط. إذ بعد أن وقّعت تركيا الاتفاقية البحرية مع حكومة الوفاق في طرابلس أواخر عام 2019، اعتبرت فرنسا ردَّ أنقرة على التحدي الجيواستراتيجي المتمثل في التحالف بين اليونان ومصر وقبرص وإسرائيل ضدها، محاولةً لتأسيس قوة تركية في المنطقة، رأت فرنسا أنها لا يمكن أن تستمر دون منازع.
وبعيداً عن التعليقات التي ثارت مؤخراً بشأن المناطق الاقتصادية الخالصة والجزر، وغيرها من أمور دقيقة، لكن يسهل الوقوع في مستنقع تعقيدها، فإن الواقع أن فرنسا اتخذت تحركاتها في شرق المتوسط، لأنها قوة كبيرة تتنافس مع قوة كبيرة أخرى، هي تركيا، على الامتياز والنفوذ والقوة المصاحبة لتولي فرض النظام في المنطقة. وبالنظر إلى الطريقة التي اتحدت بها مجموعة متنوعة من البلدان حول التحالف الذي تقوده فرنسا، يبدو حتى الآن أن فرنسا لديها الأفضلية.
ومع ذلك، فإن المشكلة هنا أنه ليس من الواضح على الإطلاق ما الذي يريد ماكرون فعله بالقوة الفرنسية في المنطقة غير مواجهة تركيا. والأدهى أن الرئيس الفرنسي لا يؤمن بأي شيء آخر سوى نفسه. وهو لديه مساحة للركض والتحرك في الشرق الأوسط وشرق المتوسط لتغيير هذا التصور، غير أنه لم يبدأ بداية جيدة، بتغريدته الحمقاء التي نشرها بعد قمة دول المتوسط الأوروبية، ووصف تحركاته فيها بـ"السلام في المتوسط/المتوسطي!" (Pax Mediterranea!)، في حين كان الأَولى به أن يكتب: "دعونا نبدأ لعبة [الصراع] الكبرى".