أدى وقف إطلاق النار في ليبيا سعياً للبحث عن مخرج سياسي للأزمة إلى ظهور تبعات إقدام ميليشيات خليفة حفتر على إغلاق منشآت النفط في البلاد منذ يناير/كانون الثاني كوسيلة للضغط على حكومة الوفاق المعترف بها دولياً وتسهيل اقتحام العاصمة، لكن يبدو أن مراوغة زعيم الحرب في إعادة فتح منشآت النفط قد ارتدت إليه، فما القصة؟
ما قصة النفط الليبي؟
عندما شن حفتر هجومه على طرابلس أواخر مارس/آذار 2019 سعياً للسيطرة على ليبيا وإقامة دولته العسكرية، مدعوماً من الإمارات ومصر وفرنسا وروسيا، كانت المؤسسة العامة للنفط ومقرها طرابلس – حيث الحكومة المعترف بها دولياً – هي الجهة الوحيدة المنوط بها إنتاج وتصدير النفط والغاز وإيداع الإيرادات في البنك المركزي الليبي ومقره طرابلس أيضاً، حيث يتم إنفاق تلك الإيرادات لتسيير شؤون البلاد، بما فيها المؤسسات والهيئات والعاملون والمواطنون في شرق ليبيا.
واستمر إنتاج النفط الليبي حتى نهاية العام الماضي، تزامناً مع حصار خليفة حفتر للعاصمة، ومع استمرار فشل ميليشياته في اختراق طرابلس، قرر حفتر استخدام النفط كسلاح وأداة للضغط على حكومة الوفاق – المدعومة عسكرياً من تركيا – وأوقف إنتاج وتصدير النفط الليبي منذ يناير/كانون الثاني الماضي، متذرعاً بأن حكومة الوفاق تستغل إيراداته لصالحها ولا تقوم بتوزيعه بشكل عادل بين الليبيين جميعاً، طبقاً للاتفاق السياسي الذي انقلب عليه حفتر نفسه.
ومع انكسار حصار حفتر لطرابلس وتعرض ميليشياته لهزائم متكررة أجبرتها على الانسحاب والتقهقر نحو قواعدها في الشرق، وإعلان رئيس حكومة الوفاق فايز السراج ورئيس برلمان طبرق عقيلة صالح وقف إطلاق النار في أغسطس/آب الماضي، بات واضحاً أن دور حفتر في ليبيا قد أوشك على النهاية بعد أن اتضح لداعميه قبل معارضيه أنه غير قادر على تحقيق ما وعد به، فتخلت عنه فرنسا علناً، وانتقدته الإمارات لانفراده بقرارات عنترية مثل إعلان نفسه حاكماً عسكرياً على ليبيا رغم أنه مهزوم ومتقهقر إلى قاعدته في بنغازي.
ومع بدء الحوارات في مدينة بوزنيقة المغربية وترحيب الأطراف جميعاً بالحوار بغرض التوصل لحل سياسي، وجد حفتر نفسه خارج الصورة، لكن يبدو أنه قرر مواصلة اللعب بورقة إغلاق منشآت البلاد النفطية التي لا تزال تقع في قبضة ميليشياته، لكنه وجد نفسه في مواجهة ضغوط دولية وبخاصة من الولايات المتحدة التي أعلنت قبل أكثر من شهر أنها ستفرض عقوبات على كل من يعرقل إنتاج وتصدير النفط في ليبيا.
مظاهرات شعبية بعد أن فاض الكيل
وكان لافتاً أن حفتر أعلن رفضه وقف إطلاق النار الذي اتفق عليه السراج وعقيلة صالح، وواصل زعيم الحرب ولا زال خروقاته المتعددة لوقف إطلاق النار، وأمس الأحد 13 سبتمبر/أيلول نقلت فضائية "ليبيا الأحرار" المحلية عن وزير الدفاع الليبي صلاح النمروش قوله إن خروقات ميليشيا حفتر للهدنة التي يرعاها المجتمع الدولي "مستمرة"، مضيفاً: "تعلمون أن هناك وقفاً لإطلاق النار حالياً، برعاية المجتمع الدولي، لكن مجرم الحرب حفتر حاول أكثر من مرة اختراقها، وعملية التحشيد مستمرة من طرفه، ونحن مستعدون لصد أي عدوان".
ومع خروج مظاهرات في العاصمة طرابلس تندد بتردي الخدمات العامة وخصوصاً الانقطاع المتكرر للكهرباء، جاءت التصريحات من معسكر حفتر تعبر عن "الشماتة" في حكومة الوفاق وعدم قدرتها على تلبية أبسط متطلبات المواطنين، لكن المظاهرات نفسها ولنفس الأسباب خرجت وبصورة أعنف في بنغازي وباقي المناطق التي تسيطر عليها ميليشيات حفتر، في إشارة واضحة إلى الكارثة الاقتصادية التي تسبب فيها قرار إغلاق المنشآت النفطية.
وأضرم محتجون النار في مقر الحكومة المؤقتة – غير المعترف بها – في مدينة بنغازي بشرق ليبيا مع استمرار المظاهرات نتيجة لتردي الأوضاع المعيشية والفساد لليوم الثالث على التوالي، وقال شهود لرويترز إن الاحتجاجات اندلعت أيضاً في وقت متأخر من مساء السبت 12 سبتمبر/أيلول في البيضاء، المقر السابق للحكومة، وفي سبها في الجنوب وللمرة الأولى في المرج التي تعد معقلاً لقوات شرق ليبيا بقيادة خليفة حفتر.
وفي المرج، قال سكان إن اشتباكات وقعت بين رجال أمن والمحتجين وإنه أمكن سماع دوي إطلاق نار كثيف في مقاطع مصورة بثت على مواقع التواصل الاجتماعي، وعبرت بعثة الأمم المتحدة لليبيا عن "عميق القلق" إزاء تقارير عن مقتل مدني وإصابة ثلاثة وإلقاء القبض على آخرين في البلدة.
كالعادة.. وعد حفتر بفتح منشآت النفط ولم ينفذ
في هذا السياق، قالت السفارة الأمريكية في ليبيا، السبت الماضي، إن خليفة حفتر أبلغ واشنطن التزامه الشخصي بإنهاء الإغلاق النفطي بالكامل بموعد أقصاه (السبت 12 سبتمبر/أيلول)، وأضافت السفارة في بيان أن قيادة قوات حفتر "نقلت إلى الحكومة الأمريكية الالتزام الشخصي لحفتر بالسماح بإعادة فتح قطاع الطاقة بالكامل في موعد أقصاه 12 سبتمبر (السبت)".
بيان السفارة الأمريكية تابع: "في الوقت الذي تجتمع فيه الأطراف الليبية المسؤولة في حوار سلمي (بالمغرب) تسيره الأمم المتحدة، تشعر السفارة الأمريكية بالارتياح حول ما يبدو أنه اتفاق ليبي سيادي لتمكين المؤسسة الوطنية للنفط من استئناف عملها الحيوي وغير السياسي".
لكن فضائية العربية السعودية نقلت عن المتحدث باسم حفتر، أحمد المسماري، أمس الأحد 13 سبتمبر/أيلول (بعد انقضاء الموعد الذي أشارت إليه السفارة الأمريكية) أن مسألة حقول النفط لا تزال عالقة، وأن حفتر اشترط الحصول على ضمانات أمريكية ودولية حول توزيع عائدات النفط قبل إعادة فتح الحقول والموانئ المغلقة منذ شهر يناير/كانون الثاني الماضي لاستئناف الصادرات النفطية.
وقالت مصادر لم تسمها "العربية" إن حفتر (الذي يسمي نفسه قائد الجيش الوطني الليبي) طالب بوضع آلية واضحة وشفّافة تضمن التوزيع العادل لعوائد النفط على كل الشعب الليبي وكافة الأقاليم وعدم ذهابها لدعم الميليشيات المسلحة والمرتزقة الأجانب، وتتيح معرفة كيفية ووجهات إنفاقها.
لكنّ مهندسين وعاملين في حقول نفط أحد الموانئ الليبية أكدوا لوسائل إعلام ليبية وغربية أن المنشآت النفطية لا تزال مغلقة بينما لم تعلق المؤسسة الوطنية للنفط على ما أعلنته السفارة الأمريكية من "وعد حفتر"، وكانت بيانات أصدرتها المؤسسة الجمعة 11 سبتمبر/أيلول أظهرت أن إغلاق المنشآت النفطية قد تسبب في خسارة إيرادات تصل إلى 9 مليارات و600 مليون دولار.
هل تخرج الأمور عن السيطرة؟
في ضوء تلك المعطيات يمكن رصد ثلاثة مشاهد رئيسية على الساحة الليبية حالياً: المشهد الأول هو المسار السياسي وعنوانه تفاهمات بوزنيقة المغربية بين وفد طرابلس ووفد برلمان طبرق وهو ما يمثل بارقة أمل في الخروج باتفاق سياسي يمكن تسميته الصخيرات 2. والمشهد الثاني هو استمرار حفتر في مقاومة ومحاولة إفشال أي اتفاق لا يلبي الحد الأدنى من طموحاته في حكم ليبيا وهو ما تشير إليه خروقاته المتعددة لوقف إطلاق النار ومراوغته في رفع الحصار عن المنشآت النفطية. أما المشهد الثالث فهو المظاهرات الشعبية الغاضبة التي اندلعت في معاقل حفتر بعد أن بدا أن حدتها قد خفتت في طرابلس.
وبعد أن أدت حدة الاحتجاجات الشعبية المنددة بتردي الخدمات العامة إلى تقديم ما تُعرف بحكومة شرق ليبيا برئاسة عبدالله الثني، غير المعترف بها دولياً، استقالتها إلى عقيلة صالح، والتي تعرض مقرها للحرق على أيدي المتظاهرين، جاءت تصريحات النمروش بأن عقيلة صالح لا يملك السلطة على الأرض، بل يملكها حفتر بمثابة تذكير مقلق بما يمكن أن تؤول إليه الأمور.
إطلاق النار على المحتجين ومقتل أحدهم على الأقل وإصابة آخرين، إضافة إلى قرارات منع التظاهر ليلاً تشير إلى أن ميليشيات حفتر تتجه للتصعيد في مواجهة المحتجين، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى خروج الأمور عن السيطرة، فهل يحدث اقتتال داخلي بين صفوف ميليشيات حفتر؟
إجابة هذا التساؤل مرتبطة بالأساس بالمشهد الثاني الخاص بإغلاق منشآت النفط، ففي حالة مواصلة حفتر مراوغاته المعتادة في هذا الملف ربما يعجل ذلك بنهايته هذه المرة، حيث لن يقبل الجانب الأمريكي بخروج الأمور عن السيطرة في هذا التوقيت الحساس مع اقتراب الانتخابات الأمريكية، حيث لا يريد الرئيس دونالد ترامب أن يشتعل الملف الليبي بصورة تمثل انتصاراً لروسيا الموجودة على الأرض بالفعل من خلال مرتزقة فاغنر الداعمة لحفتر.
وإقليمياً لا تريد مصر أن يشهد شرق ليبيا توترات في وقت تواجه فيه الحكومة المصرية استياء شعبياً متزايداً بسبب عدد من الملفات الداخلية، أبرزها قانون التصالح في مخالفات البناء، ومن ثم يمثل أي توتر على الحدود الغربية للبلاد أزمة لا تريدها مصر حالياً، خصوصاً أن وقف إطلاق النار والمسار السياسي تراه القاهرة مخرجاً مقبولاً للأزمة الليبية، كما أن حفتر نفسه لم يعد يمثل حليفاً يمكن الاعتماد عليه كما أثبتت الأحداث الأخيرة منذ هزيمته في طرابلس والغرب.
ويظل المشهد الأول الخاص بالمسار السياسي هو العنوان الأبرز في هذه المرحلة، حيث من الواضح أن هناك دعماً دولياً للوساطة المغربية، وبالتالي فبروز حفتر كعقبة أساسية في طريق هذا المسار يجعله persona non grata أو شخصاً غير مرغوب فيه، ويظل السؤال: كيف يمكن التخلص منه بأقل الخسائر لجميع الأطراف وخصوصاً داعميه؟