المحكمة الجزائية السعودية حكمت بالسجن على 8 أشخاص أدانتهم بقتل الصحفي جمال خاشقجي، فهل تم إسدال الستار على الجريمة التي هزَّت العالم لهول تفاصيلها وبشاعة تنفيذها؟ وماذا عن المحاكمة التركية للمتهمين في الجريمة؟ لا أحد يعرف أسماء المدانين في المحاكمة السعودية، لماذا؟
تراجعٌ عن حكم الإعدام
في بيان نقلته وكالة الأنباء السعودية الرسمية (واس)، الإثنين 7 سبتمبر/أيلول، جاء الآتي: "أصدرت المحكمة الجزائية بالرياض أحكاماً بحق 8 أشخاص مدانين، واكتسبت الصفة القطعية (نهائية وواجبة النفاذ). هذه الأحكام وفقاً لمنطوقها بعد إنهاء الحق الخاص بالتنازل الشرعي لذوي القتيل، تقضي بالسجن".
وأوضح البيان أن المحكمة قضت بـ"صدور حكم بالسجن 20 عاماً على 5 مدانين، وأحكام متفاوتة بين 7 و10 سنوات على 3 مدانين آخرين (لم تسمهم جميعاً)"، وقالت إنها "بصدور هذه الأحكام النهائية تنقضي معها الدعوى الجزائية بشقيها العام والخاص"، في إشارة إلى غلق مسار القضية داخل البلاد.
البيان يأتي اتساقاً مع مسار السرية الذي غلَّف المحاكمة منذ بدايتها وحتى نهايتها، دون معرفة أسماء المدانين أو الذين تمت تبرئتهم، واللافت في "الحكم النهائي" هو إلغاء أحكام بالإعدام كان بيان سابق للمحاكمة قد أشار إليه، ففي ديسمبر/كانون الأول 2019، أصدرت محكمة سعودية حكماً أولياً بإعدام 5 أشخاص (لم تسمهم) من بين 11 متهماً، كما عاقبت 3 مدانين منهم بأحكام سجن متفاوتة تبلغ في مجملها 24 عاماً، وتبرئة 3 آخرين (لم تسمهم)؛ لعدم ثبوت إدانتهم.
في ذلك الوقت وفي بيان أيضاً، أشارت النيابة السعودية إلى أنها ستدرس الحكم وإمكانية الطعن فيه أمام محكمة الاستئناف، لكن بيان المحكمة الجزائية (الاستئناف) لم يوضح ما إذا كانت النيابة قد طعنت على الحكم بالفعل أم أن خطوة الاستئناف تمت بشكل تلقائي.
لكن مقارنة الأحكام الأولية المعلنة في ديسمبر/كانون الأول الماضي، بتلك النهائية الصادرة عن المحكمة الجزائية، يتضح أن المحكمة تراجعت عن أحكام الإعدام.
ماذا عن المحاكمة التركية؟
إعلان السعودية نهاية المحاكمة السرية التي أجرتها لقتلة خاشقجي لا يعني أن المحاكمة التي تتم في تركيا- حيث تم ارتكاب جريمة الاغتيال- قد انتهت هي الأخرى، حيث إن محكمة العقوبات المشددة الـ11 في القصر العدلي بمنطقة "تشاغليان" في إسطنبول، قررت عقد الجلسة الثانية لمحاكمة قتلة خاشقجي في 24 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، بعد أن وافقت على لائحة اتهامات بحق المتهمين قُدمت في أبريل/نيسان الماضي.
وكانت النيابة العامة في إسطنبول قد أعدت لائحة اتهام من 117 صفحة، ضد المتهمين الصادر بحقهم قرار توقيف في إطار مقتل خاشقجي، وتحتوي اللائحة على اسم خاشقجي بصفة "المقتول" وخطيبته خديجة جنكيز بصفة "المشتكي"، مطالبةً بالحكم المؤبد بحق "أحمد عسيري" نائب رئيس المخابرات السعودية السابق، و"سعود القحطاني" مستشار ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، بتهمة "التحریض على القتل مع سبق الإصرار والترصد والتعذيب بشكل وحشي".
كما تطالب اللائحة بالحكم المؤبد بحق الأشخاص الـ18 الآخرين، بتهمة "القتل مع سبق الإصرار والترصد والتعذيب بشكل وحشي".
وفي سبتمبر/أيلول 2019، أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في مقالة كتبها لصحيفة "واشنطن بوست"، أن السعي لعدم بقاء الجناة من دون عقاب، "دَين علينا لعائلة جمال خاشقجي"، وفي السياق ذاته قالت الرئاسة التركية، الإثنين، إن الحكم الذي أصدرته محكمة سعودية في حق متهمين بقتل خاشقجي لم يحقق توقعات تركيا والمجتمع الدولي، داعيةً السلطات السعودية إلى التعاون في التحقيق الذي تجريه أنقرة.
وأكد فخر الدين ألتون، رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية، ذلك في سلسلة من التغريدات على تويتر، قال فيها إن "الحكم النهائي الصادر عن محكمة سعودية بخصوص إعدام خاشقجي فشل في تحقيق توقعات تركيا والمجتمع الدولي"، مضيفاً: "لا نعرف حتى الآن ماذا حصل لجثة خاشقجي، من أراد قتله، وما إذا كان هناك متعاونون محليون، الأمر الذي يضع قيد الشك مصداقيةَ العمليات القانونية في السعودية. نحث السلطات السعودية على التعاون مع التحقيق المستمر الذي تواصل إجراءه تركيا في قضية القتل هذه".
ماذا عن رد الفعل الدولي؟
المقررة الخاصة للأمم المتحدة، المعنية بحالات الإعدام خارج نطاق القضاء، أغنيس كالامار، من جانبها، اعتبرت الأحكام السعودية في قضية خاشقجي "لا تتصف بأي مشروعية قانونية وأخلاقية"، وأعربت على حسابها بمواقع التواصل الاجتماعي، الإثنين، عن انتقادها لقرارات السجن الصادرة في القضية، مضيفة: "لقد أكملوا عملية (محاكمة) ليست عادلة أو منصفة أو شفافة".
كالامار وصفت موقف النيابة العامة السعودية بأنه "محاكاة هزلية للعدالة"، ولفتت إلى أن المسؤولين السعوديين الذين خططوا للجريمة وتبنوها، بقوا أحراراً دون أي تأثر بالتحقيقات أو المحاكمات: "فيما يتعلق بالمسؤولية الفردية لولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي هو على رأس الدولة، فإنه يتمتع بحماية جيدة ضد أي تحقيقات فعلية في بلاده".
المسؤولة الأممية دعت إلى عدم السماح بتبرئة المتورطين في جريمة قتل خاشقجي عبر تلك الأحكام، وأكدت أنه لا ينبغي لتلك القرارات المتخذة أن تخفف الضغط على الحكومات من أجل ضمان الكشف عن المجرمين الحقيقيين، خاصةً الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، "التي تراقب بصمتٍ المحاكمات في الرياض".
كالامار طالبت المخابرات المركزية الأمريكية بالكشف عن المعلومات التي تمتلكها حول دور بن سلمان في الجريمة، مشيرة إلى أهمية توضيح الحقائق في مناخ لا تتحقق فيه العدالة بالسعودية.
جريمة سياسية قد لا تُنهيها الأحكام السعودية
على الرغم من أن الأحكام التي أعلنت عنها السعودية كانت متوقَّعة إلى حد بعيد، قياساً على طريقة تعامل المملكة مع الجريمة منذ اللحظة الأولى لوقوعها، فإن ذلك لا يعني أن الستار قد أُسدلَ بالفعل على جريمة الاغتيال الأكثر وحشية، لعدد من الأسباب.
كان رد فعل السعودية الأول يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول- يوم دخل خاشقجي إلى قنصلية بلاده في إسطنبول؛ للحصول على مستند مطلوب لإتمام زواجه بخطيبته التركية التي كانت تنتظره في السيارة- هو زعمُ أن جمال حصل بالفعل على المستند وغادر القنصلية، وتم تسريب فيديو لشخص يرتدي ملابس خاشقجي ويغادر مبنى القنصلية بالفعل، ليتضح لاحقاً أن ذلك الشخص كان أحد أفراد فريق الاغتيال الذي نفذ الجريمة وكان يؤدي دوره في العملية.
واستمر رد الفعل السعودي المتخبط والمتناقض أسبوعين كاملين حتى الاعتراف بمقتل الصحفي المعارض "في مشاجرة مع مواطنين سعوديين داخل القنصلية"، على الرغم من التسجيلات التي رصدت ما حدث بالتفصيل، وهي التفاصيل التي حققتها كالامار في تقريرها الذي قدمته للأمم المتحدة العام الماضي، وأشار بأصابع الاتهام إلى ولي العهد السعودي، مطالبة بفتح تحقيق دولي مستقل؛ نظراً إلى شبهات تورط الحاكم الفعلي للمملكة شخصياً، وهو ما يعني أن أي تحقيق سعودي سيفتقد المصداقية، وهذا بالتحديد ما حدث.
لكن جريمة اغتيال جمال خاشقجي ليست قضية جنائية؛ بل هي جريمة سياسية في كل فصولها، كما أن وجود أدلة على استحالة أن تتم عملية اغتيال بهذا الحجم وبتلك الموارد المستخدمة من طائرات خاصة وفريق اغتيال وآخر للتنظيف وثالث للتنسيق، دون أن يكون ولي العهد على دراية بما يجري- بحسب كالامار وغيرها من مسؤولين استخباراتيين وحقوقيين- وهو ما يعني أن القضية ستظل مفتوحة بصورة أو بأخرى حتى إشعار آخر.
وفي هذا السياق يرى البعض أن التراجع عن حكم الإعدام بحق بعض المتهمين في القضية داخل السعودية ربما يمثل بارقة أمل لتحقيق العدالة في نهاية المطاف، وهذا ما عبَّرت عنه كالامار نفسها حين أشادت بعدم صدور أحكام إعدام في القضية، مؤكدةً أن الإعدام يعني إسكات صوت الشهود الرئيسيين في الجرائم والإعدامات التعسفية.
ربما يكون ولي العهد السعودي قد تمكن من احتواء تبعات جريمة اغتيال جمال خاشقجي داخلياً، سواء من خلال المحاكمة السرية أو من خلال الضغط على أسرة القتيل كي تقبل بالدية وتعفو عن القتلة، لكن التداعيات الخارجية للجريمة التي هزت الرأي العام في العالم أمر مختلف؛ فخطيبة جمال صحيفة "واشنطن بوست" التي كان يكتب لها وقت اغتياله، والمطالبون بالعدالة حول العالم، لم يعيروا بالاً للأحكام السعودية ولا المحاكمة نفسها منذ الإعلان عنها، كما أن المحاكمة مستمرة في تركيا، والمحققة الأممية تعتبر القضية مفتوحة حتى تحقيق العدالة.
أما على المستوى السياسي، فيرى كثير من المراقبين أن أجهزة المخابرات وبعض الحكومات الغربية- خاصةً الـ"سي آي إيه" التي قيل إنها تمتلك أدلة على التورط المباشر لولي العهد- تستغل ملف القضية لتحقيق مكاسب اقتصادية وتنازلات سياسية من المملكة، وهو ما يعني أن الستار لم يُسدل بعدُ على قضية الاغتيال الأبشع في العقود الأخيرة.