أعلن رئيس الحكومة اللبنانية السابق سعد الحريري، أنه لن يترشح لتولي رئاسة الحكومة المقبلة، وقال الحريري في بيان صادر عن مكتبه الإعلامي: "كنت أفضل عدم اتخاذ موقف سياسي قبل صدور حكم المحكمة الخاصة لبنان في جريمة اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري، وقبل استكمال الاتصالات مع الدول الصديقة والمجتمع الدولي ومع القوى السياسية اللبنانية، بشأن المبادرة التي حملها الرئيس الصديق إيمانويل ماكرون خلال زيارته الأخيرة إلى لبنان".
وأكد الحريري في بيانه أنه لن يترشح لرئاسة الحكومة الجديدة، وطالب الجميع بسحب اسمه من التداول في هذا الصدد، ودعا الحريري رئيس الجمهورية ميشال عون إلى احترام الدستور، والدعوة لاستشارات برلمانية ملزمة لتسمية رئيس للحكومة، والإقلاع عمّا سمّاه بدعة التأليف قبل التكليف، أي "تشكيل الحكومة قبل تكليفها".. فما هي كواليس هذا القرار المفاجىء؟
فيتو سعودي ورفض أمريكي
كانت أصداء زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبيروت بعد انفجار المرفأ توحي بأن القوى السياسية الفاعلة ستأتي بسعد الحريري رئيساً للحكومة، بعدما طرح ماكرون على القوى السياسية التي التقاها في بيروت ضرورة تشكيل حكومة وحدة وطنية تراعي الحساسيات الدولية والإقليمية.
ظنّت وقتها القوى السياسية أنّ الحراك الفرنسي مرتبط بتفويض أمريكي لباريس لإيجاد حل سياسي للبنان، في ظل الانهيار المالي والاشتباك السياسي، وفشل حكومة حسان دياب في إجراء إصلاحات في قطاعات الدولة، وخضوعها لحزب الله بشكل كبير.
إلا أن الموقف الأمريكي كان مغايراً للمبادرة الفرنسية، فواشنطن تفضل حكومة محايدة لا تضم أي فريق سياسي، على أن يرأسها السفير السابق نواف سلام، وتزامن هذا المطلب الأمريكي مع موقف سعودي واضح، أبلغه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان للرئيس الفرنسي ماكرون، بحسب مصادر دبلوماسية.
والذي أكد لماكرون أنه يتفق مع واشنطن في طرحها بضرورة إفساح المجال لنواف سلام، لتشكيل حكومة تقلص دور حزب الله، وتساعده في إجراء إصلاحات أساسية.
وأن يطلب ماكرون من الحريري دعم سلام والمضي قدماً في إجراء هذا التغيير السياسي، لأن المملكة لم تعد قادرةً على دعم حكومات يسيطر عليها الحزب بحجة أن الحريري يترأسها.
وهذا ما أبلغه السفير السعودي في بيروت وليد بخاري، لسعد الحريري خلال زيارته في منزله، أن المملكة ترى أن يدعم الحريري مرشحاً آخر في هذه المرحلة الحرجة، التي يجب على الجميع أن يتنازل من أجل استقرار البلاد.
وتترجم الموقف السعودي والأمريكي من الحكومة الجديدة بتغير الموقف الفرنسي، الذي دفع ماكرون للاتصال بالرئيس ميشال عون ورئيس البرلمان نبيه بري، ليطلب منهما دعم ترشيح نواف سلام الذي يرفضه حزب الله.
هيل والحكومة المحايدة
كانت الزيارة التي قام بها وكيل الخارجية الأمريكية ديفيد هيل لبيروت عنواناً لمرحلة ترسمها واشنطن للبنان من وجهة نظرها، التقى هيل بكل المسؤولين اللبنانيين في بيروت، وأسمعهم الموقف الأمريكي من شكل الحكومة القادمة، بالإضافة لباقي الملفات التي ينبغي مقاربتها، كترسيم الحدود وتوسيع صلاحيات قوات اليونيفيل وملف صواريخ حزب الله.
وخلال لقاء هيل مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، سأله الأخير عن الرؤية الأمريكية للحكومة القادمة، فقال هيل حسبما كشفت مصادر خاصة لـ"عربي بوست" أن واشنطن مصرّة على حكومة محايدة يرأسها شخص يتمتع بقدرة عالية على إجراء إصلاحات تريح لبنان وشعبه.
وما فهمه جنبلاط بشكل صريح من لقائه بهيل أنه يرفض عودة الحريري، فأعلن جنبلاط موقفه، وأن كتلته لن تسمي الحريري لرئاسة الحكومة، وعلى نفس المسار تبع رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع الموقف الأمريكي، وتخلى عن تسمية الحريري للحكومة.
مبادرة بري وموقف حزب الله
كان رئيس المجلس النيابي نبيه بري يقود منذ أيام مبادرة لإعادة الحريري لرئاسة الحكومة، بعد موقف الأخير، عقب صدور قرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، وتمسكه بتسييس النزاع مع حزب الله والتخلي عن الثأر الشخصي.
لذا فإن بري -بحسب المصادر المطلعة- بعد حكم المحكمة الدولية بدأ بجولة تهدف لإعادة الحريري للسرايا الحكومي، حيث أخذ بري موافقة من حزب الله على شخص الحريري.
وكان الحزب يرى -بحسب المصادر- أن الحريري هو الأفضل لإراحة الشارع وتجنيب لبنان الأزمات مع الخارج، بعد ما حصده لبنان من حكومة حسان دياب من عزلة دولية وعربية، قد يستطيع الحريري إصلاحها بكونه لا يزال على علاقة جيدة بمعظم القوى الإقليمية والدولية.
مضى بري بعدها بمبادرته، والتقى رئيس الجمهورية ميشال عون، حيث سعى بري لإقناعه بخيار الحريري، فعارض عون في البداية، لكنه أبدى استعداده بتسميته في حال تم إشراك صهره جبران باسيل في كواليس تشكيل الحكومة.
بعد ذلك التقى بري بباسيل في جلسة خاصة، امتدت لساعات، لم يتمكن خلالها بري من إقناع باسيل بالقبول بالحريري رئيساً للحكومة.
لذا فإن محاولات بري مع باسيل التي باءت بالفشل، أتت في ظل عدم تحمس وليد جنبلاط ورفض القوات اللبنانية، وإصرار باسيل حول ضرورة تكليف شخصية جديدة كنواف سلام أو شخصية أخرى مستقلة.
وجد بري نفسه وحيداً أمام خيار تسمية الحريري، بخلاف رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، الذي يؤيده في دعم الحريري، وتؤكد المصادر أن بري قرر ليلة أمس وقف مساعيه حول تشكيل الحكومة وترك المجال لغيره، بعد أن باءت مبادرته بالفشل بسبب رفض باسيل لعودة الحريري.
الحريري وحيداً
يرفض التيار الوطني الحر الذي يتزعمه الوزير السابق جبران باسيل تحمل مسؤولية عرقلة جهود إعادة الحريري لرئاسة الحكومة، وبحسب مصادر في "الوطني الحر" فإن حملة مضللة تستهدف "التيار"، لكنها في غير محلها، وأن ذلك لكون رئيس تيار المستقبل سعد الحريري لم يتمكن من فرض نفسه مرشحاً يقف على قدمين ثابتتين تقدمانه على غيره من الأسماء ليتولى رئاسة الحكومة.
ويشدّد المصدر أنه لا تبدي أي دولة -معنية بالملف اللبناني- تأييدها لعودة الحريري إلى نادي رؤساء الحكومات، وخاصة بعد تراجع باريس عن دعمه، فيما السعودية لا تزال الرافض الأبرز لعودته.
ويقول المصدر إنّ الحريري لا يتمتع بالدعم السياسي الكافي لجعله مرشحاً قوياً يمكنه التقدم بخطوات ثابتة نحو رئاسة الحكومة، ما يعني أنّ علِّة التكليف والتأليف -التشكيل- هي في مكان آخر، وليست لدى رئيس الجمهورية أو التيار الوطني الحر.
هل يغازل الدوحة؟
يدرك الحريري -بحسب مصدر مطلع على عملية تسمية رئيس الحكومة- أن السعودية تقود ضده حملة لإبعاده عن المشهد السياسي، والإتيان بغيره لزعامة السنة في لبنان.
وأن الموقف السعودي أثر على الموقف الأمريكي، ويجد الحريري نفسه -حسب المصدر- محاصراً على المستوى المحلي من التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية ومخذولاً من موقف وليد جنبلاط.
فيما يواجه فيتو إقليمي سعودي يتمسك برفضه، فيما الإمارات تلعب في الميدان اللبناني بدعمها شقيقه بهاء والوزير السابق نهاد المشنوق.
لذا فإن الحريري خلال استقباله وزير الخارجية القطري محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، بعد ظهر اليوم، أشاد بالدور القطري ووقوف الدوحة إلى جانب لبنان وشعبها.
ويرى المصدر أن الحريري يحاول مغازلة قطر، التي تتحالف مع تركيا، وتربطها علاقات متقدمة مع إدارة ترامب، ما قد يساعده على مغادرة المربع السعودي واللحاق بالمحور الإقليمي الناشط في المنطقة، في حال تخلى عنه الجميع.
خاصة أن جمهور تيار المستقبل يحبذ التحالف مع تركيا عن التحالف السعودي، في ظل التماهي السعودي مع أبوظبي وإسرائيل.