لا تزال جراح المسلمين في نيوزيلندا لم تندمل بعد رغم الإجراءات الحكومية السريعة في أعقاب مذبحة المسجدين في مارس/آذار من العام الماضي، وقبل أيام من صدور الحكم بحق مرتكب المذبحة يطل السؤال برأسه: هل يشعر مسلمو نيوزيلندا بالأمان الآن؟
شبكة CNN الأمريكية نشرت اليوم الإثنين 24 أغسطس/آب تقريراً بعنوان "نيوزيلندا وعدت بالتغيير بعد إطلاق النار في كرايستشيرش، لكن ما زال المسلمون لا يشعرون بالأمان"، بالتزامن مع جلسات إصدار الحكم بحق مرتكب مذبحة المسجدين.
تحذيرات مبكرة لم ينتبه لها أحد
يرجع وجود الجالية المسلمة في نيوزيلندا إلى ما قبل أكثر من قرن ونصف، ورغم ذلك فعدد المسلمين هناك لا يتجاوز 60 ألفاً يمثلون فقط نسبة 1.3% من سكان البلاد، وهو ما يعني أن وجودهم ربما لا يكون ملحوظاً من الأساس، وهذا ما أكده بول سبونلي أستاذ علم الاجتماع في جامعة ميسي، بقوله إن غالبية سكان نيوزيلندا ربما لم ينتبهوا لوجود المسلمين قبل مذبحة المسجدين.
لكن القصة مختلفة تماماً من وجهة نظر الأقلية المسلمة نفسها، فالعنصرية بحقهم أمر واقع ويومي، حتى لو كانت الأغلبية البيضاء من السكان لا تدرك ذلك، فقبل المذبحة الأبشع في تاريخ البلاد على الإطلاق بأكثر من خمس سنوات، عقد مجلس النساء المسلمات في نيوزيلندا سلسلة من الاجتماعات وتواصل المجلس مع عديد الهيئات والجهات الحكومية بشأن الاعتداءات اللفظية والبدنية التي يتعرض لها المسلمون عامة والمسلمات المحجبات بشكل خاص.
وبحسب شهادات مقدمة للجنة التحقيق الملكية في مذبحة المسجدين – لا يزال التحقيق جارياً – فقد عبر مجلس النساء المسلمات (منظمة أهلية مدنية) عن القلق البالغ من ارتفاع مستوى الإسلاموفوبيا ونشاط اليمين المتطرف في البلاد، وذلك في إطار تقييم ما كانت الحكومة على علم به قبل المذبحة وما إذا كان بوسعها أن تفعل شيئاً لمنع وقوعها.
وبحسب ما جاء في تلك الشهادات المقدمة للجنة فإن "مجلس النساء المسلمات في نيوزيلندا يقدر أنه لا توجد إمرأة مسلمة محجبة في البلاد لم تتعرض للاعتداء بصورة أو بأخرى في أماكن عامة في وقت ما"، وما يزيد من تعقيدات الأمور في هذا الشأن هو عدم وجود سجلات عامة ترصد جرايم الكراهية والعنصرية، بخلاف دول الكومنولث الأخرى، وذلك بحسب زين علي الباحث في جامعة أوكلاند والذي يدرس مادة عن الإسلام، وأضاف علي للشبكة الأمريكية: "لسنا في الظلام تماماً، لكن الأمور يمكن أن تكون أفضل بكثير".
الشرطة تركز على "التطرف الإسلامي"
وفي الوقت الذي فتح فيه مرتكب المذبحة النيران على المصلين الأبرياء في المسجدين في مارس/آذار 2019، كانت أجهزة الأمن النيوزلاندية تصب كل تركيزها على احتمال وجود أي متطرفين إسلاميين في البلاد، على الرغم من تصاعد هجمات المتطرفين البيض من اليمين المتطرف في أوروبا وأمريكا، وهو ما كان يستوجب الانتباه لاحتمال وجود نفس الخطر في نيوزيلندا، بحسب تقييم مجلس النساء المسلمات.
وعلى الرغم من أن وزير أمن خدمات الاستخبارات في البلاد أندرو ليتل قال في حوار إذاعي في أعقاب مذبحة المسجدين إن أجهزة الأمن تركز على "جميع أشكال التطرف"، فإن وثيقة داخلية قدمت للوزير عام 2017 وتم نشرها لاحقاً لم تذكر سوى المتطرفين الإسلاميين متجاهلة الخطر المتصاعد وقتها من اليمين المتطرف".
وفي هذا السياق، يرى مجلس النساء المسلمات أنه "صحيح لم يكن هناك ما يمكن القيام به لحظة أن وصل المسلح إلى المسجد وفتح النار، إلا أن الكثير جداً كان من الممكن القيام به لمنعه من الوصول للمسجد من الأساس وذلك قبل سنوات من المذبحة".
وجدير بالذكر هنا أن مرتكب المذبحة وهو الاسترالي برينتون تارانت قد أخبر المحكمة أنه ظل يخطط لجريمته لمدة عامين، مقراً بذنبه في 51 تهمة بالقتل و40 تهمة بالشروع في القتل وتهمة واحدة بارتكاب عمل إرهابي، وأعرب عن ندمه لأنه لم يقتل المزيد ولم يحرق المسجدين كما كانت خطته.
الحكومة لم تتأخر في إصدار قرارات حاسمة
لكن من المهم هنا أيضاً ذكر رد فعل الحكومة برئاسة جاسيندا آردرن، والتي اتخذت مواقف أشاد بها الجميع داخل وخارج البلاد، وبصفة خاصة الجالية الإسلامية، وأبرز قراراتها كان التصدي بحزم لتغيير قوانين امتلاك السلاح في البلاد، وصرحت عشية المذبحة: "يمكنني أن أخبركم شيئاً واحداً في الوقت الحالي: قوانين السلاح ستتغير، كانت هناك محاولات لتغيير قوانيننا في 2005 و 2012 وفي 2017. لقد حان الوقت للتغيير" تقول آردرن.
وأضافت في مؤتمر صحفي إنها ستفكر في حظر الأسلحة النارية نصف الآلية تماماً، وهو ما لاقى ترحيباً شديداً من قبل هيئات الشرطة في البلاد، حيث أثنى مايك بوش، مفوض الشرطة النيوزيلندية، على تصريحات آردرن قائلاً إنه "سعيد جداً لسماع تعليقات رئيسة الوزراء حول تغيير قانون الأسلحة".
وجاء رد فعل آردرن على خلفية تفاقم حساسية الأوضاع المأساوية التي خلفتها مذبحة المسجدين والتي وصفتها الصحافة المحلية "بهجوم الجمعة الأسود الدامي"، حيث برزت تخوفات كثيرة مرتبطة بفكرة التعايش والأمان في بلاد نادراً ما شهدت هجمات مشابهة، إضافة إلى رعب السلاح وهو ما استحضر تجارب دول أخرى في هذا الإطار، أبرزها الولايات المتحدة، وبالتالي تم بالفعل إقرار القوانين بالإجماع.
ما سبب عدم الشعور بالأمان إذن؟
مرتكب المذبحة وهو الأسترالي برينتون تارانت أخبر المحكمة أنه ظل يخطط لجريمته لمدة عامين، مقراً بذنبه في 51 تهمة بالقتل و40 تهمة بالشروع في القتل وتهمة واحدة بارتكاب عمل إرهابي، وأعرب عن ندمه لأنه لم يقتل المزيد ولم يحرق المسجدين كما كانت خطته.
لكن قوانين حظر امتلاك الأسلحة نصف الآلية ووضع قواعد صارمة لحيازة الأسلحة عموماً لم تفلح في إضفاء الشعور بالأمان على الجالية المسلمة في نيوزيلندا بشكل كامل، والسبب هنا يرجع إلى انتشار رسائل الكراهية ضد المسلمين عبر الإنترنت رغم دعوة آردرن عشية مذبحة المسجد لسن تشريعات تجرم خطاب الكراهية، فتلك التشريعات لم تصدر حتى الآن.
وقد أعلنت آردرن في أعقاب المذبحة عن "دعوة كرايستشيرش" لاتخاذ إجراء عالمي لمنع المنصات الافتراضية جميعاً من أن يتم استخدامها "كأداة للإرهابيين"، وانضم لها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وأعلن فيسبوك وقتها تشديد إجراءات مراقبة المحتوى، لكن لم تنجح تلك الجهود بصورة كاملة لعدد من الأسباب أبرزها رفض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانضمام للدعوة متذرعاً بحرية التعبير، كما أن شركات التكنولوجيا غير الغربية لم تنضم للدعوة.
لكن ما يهم مسلمو نيوزيلندا في هذا الشأن هو أن بلادهم نفسها لم تقر تلك التعديلات التشريعية الهادفة إلى مساندة "دعوة كرايستشيرش" التي نادت بها رئيسة الوزراء، والتي تشمل قوانين أكثر صرامة لتجريم خطاب الكراهية.
صحيح أن المذبحة أصابت كثيراً من سكان نيوزيلندا بالرعب والفزع لوجود ذلك التطرف الأسود بينهم، خصوصاً وأن نيوزيلندا بلد يتسم بالهدوء والتسامح بشكل عام، كما أنها قدمت فرصة للجالية المسلمة للتحدث علناً عن الاضطهاد الذي كانت تعاني منه في صمت، لكن من ناحية أخرى فإن عدم توقف خطاب الكراهية وعدم اتخاذ أجهزة الأمن التدابير اللازمة لملاحقة متطرفي اليمين الأبيض داخل البلاد يمثل عاملاً حاسماً في عدم الشعور بالأمان لدى الجالية المسلمة.
وقد عبر عن ذلك جمال فوده إمام مسجد النور – أحد المسجدين المستهدفين بالمذبحة – بقوله إن "نيوزيلندا ليست جنة"، وما زال هناك جهلاء يحملون أفكاراً متطرفة، لكنه أضاف أن أحداً لم يتوقع أبداً أن يقدم عنصري أبيض متطرف على ارتكاب تلك المذبحة في نيوزيلندا.
وأقرت عاليا دانزايسين المسؤولة عن التواصل الحكومي مع مجلس النساء المسلمات بأن الجالية المسلمة في البلاد لا تزال تشعر بعدم الأمان، وأن هناك الكثير من الإجراءات التي لا يزال على الحكومة أن تتخذها لضمان عدم تكرار تلك المذبحة، كما قال سبونلي إن "هناك ميل لاعتبار أن هجوم كرايستشيرش لا يمكن أن يتكرر، لكن هذا غير صحيح وهناك احتمال أن تحدث كارثة أخرى، فهناك كثير من الثغرات في العمل العام لابد من التعامل معها".