"هذا الجنون والتقلبات لها هدف واحد شخصي تماماً"، تبدو هذه الخلاصة التي يقدمها لنا كتاب نظرية الرجل المجنون الذي يشرح سر تصرفات ترامب الغريبة.
إذ يُصوِّر غلاف الكتاب الجديد لكبير مراسلي شؤون الأمن القومي لدى شبكة CNN الأمريكية جيم سكيوتو، "The Madman Theory" (نظرية الرجل المجنون)، الرئيس دونالد ترامب وهو معصوب العينين ويمسك بمضرب، ويتخذ وضع الاستعداد لضرب نموذج للكرة الأرضية (العالم). كان عمل سكيوتو السابق،"The Shadow War" (حرب الظل)، قد بحث في التهديدات التي تُشكِّلها روسيا والصين على الولايات المتحدة، وقد حوَّل الرجل الآن اهتمامه للنظر في إسهام أمريكا في عدم الاستقرار العالمي.
سر تصرفات ترامب الغريبة
أوضح ترامب قبل توليه الرئاسة بفترة طويلة أنَّه سيعمل بصورة مختلفة، وشرع في الخروج عن النهج التقليدي حين يتعلَّق الأمر بالشؤون الخارجية، حسبما ينقل تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية عن الكتاب الجديد.
فكان حلف شمال الأطلسي (الناتو) كياناً "عفى عليه الزمن"، إلى أن قرَّر ترامب بعد توليه الرئاسة أنَّه "لم يعد (كياناً) عفى عليه الزمن بعد الآن".
وداعبته فكرة عودة الولايات المتحدة لانتهاج أسلوب الإيهام بالغرق. وتساءل لماذا لا يمكنه التحدث هاتفياً مع رئيسة تايوان. وبنهاية عامه الأول في الحكم، حاول بعض صانعي السياسات فهم منطق حاله المُتقلِّبة من خلال وصف نهجه بـ"نظرية الرجل المجنون".
نيكسون اشتهر باستدعاء "نظرية الرجل المجنون"
يشتهر الرئيس ريتشارد نيكسون باستدعاء "نظرية الرجل المجنون" حين سعى لنقل رسالة إلى شمال فيتنام، عبر مستشاره للأمن القومي هنري كيسنجر، بخصوص استعداده المزعوم لاستخدام أي وسيلة ممكنة ضدها. لكنَّه لم يكن مبتكرها. إذ تظهر إشارة مبكرة على النظرية في كتاب نيكولو ميكيافيللي "Discourses on Livy" (نقاشات حول ليفي)، حين أشار إلى أنَّه قد يكون "من الحكيم جداً ادِّعاء الجنون". لكنَّ دور "الرجل المجنون" لترامب يبدو أقل ادِّعاءً وحقيقياً أكثر. ففي آخر ضرباته التي وجهها بمضربه إلى نموذج العالم، استهدف ألمانيا، مُعلِناً سحب الآلاف من القوات الأمريكية المتمركزة في البلاد.
يتحدث سكيوتو عن أسلوب دبلوماسية ترامب باعتباره تكتيكاً "يكون أحياناً بالمصادفة وأحياناً أخرى متعمداً"، في صورة من دبلوماسية حافة الهاوية التي تؤدي حالة عدم القدرة على التنبؤ فيها إلى حشر الخصوم في الزاوية ودفعهم لتقديم التنازلات. لكن هل "نظرية الرجل المجنون" حقيقية إن لم تكن دوماً مقصودة؟ يعتقد بيتر نافارو، المستشار التجاري للرئيس وأحد متملّقيه، أنَّ الأمر كذلك. ويقول بحماس: "إنَّه لاعب شطرنج استراتيجي، يرى كل الزوايا والحركات".
هل أفلح جنون ترامب مع كوريا الشمالية؟
كانت كوريا الشمالية تُعَد، لفترة وجيزة، النجاح الرئيس لهذه الاستراتيجية. فيجادل المدافعون عن الرئيس بأنَّ تناوب ترامب بين كيل الإهانات والإغداق بالمديح على الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون قد دفع هذا الأخير إلى طاولة المفاوضات في هانوي. غير أنَّ هذا يبدو أقل مصداقية بكثير بعدما عادت كوريا الشمالية إلى تجاربها وخطابها الصدامي المعتاد.
لكنَّ سكيوتو يتتبَّع المسار، فصلاً فصلاً، وبلداً بلداً، من بيونغ يانغ إلى موسكو وحتى بكين. ويجعل كتابه مُرتكِزاً على مقابلات أجراها مع أشخاص يعملون أو عملوا في الإدارة. ولن تجدوا استشهاداً بالكثير من الديمقراطيين في صفحات الكتاب، لأنَّهم سيهاجمون الرئيس مثلما هو متوقع. إنَّ سكيوتو ليس بصدد إيراد قصة من جانبين، بل استشهادات لاذعة من داخل فريق ترامب نفسه.
كوريا الجنوبية اضطرت لخداعه بالتعاون مع غريمتها حتى تتجنب حرباً مدمرة
في ما يتعلَّق بكوريا الشمالية، يُورِد الكتاب الدينامية اللافتة التي أعقبت تصريحات ترامب بشأن "النار والغضب" و"الأنف الدامي" ضد كيم جونغ أون، حين نسَّقت بيونغ يانغ وسيول –العدوتين اللدودتين- لتفادي كارثة وجودية من خلال إعطاء وعد مُبالَغ فيه بشأن احتمالية نزع السلاح النووي من كوريا الشمالية فقط في حال استأنف الرئيس ترامب المباحثات. يشير سكيوتو إلى أنَّ ترامب ربما "كان يُتلاعَب به من جانب الحليف والخصم كليهما". وربما كانت تلك هي أكثر مرحلة اقتربت فيها الولايات المتحدة من الحرب.
وبعد لقاءين مباشرين، لا يملك ترامب الكثير ليبرزه بخلاف مظاهر الأبهة والاحتفاء، في حين استغلت كوريا الشمالية تلك السنوات لتوسيع برنامجها النووي.
أما الخلاف مع الصين فقد جعله من ثوابت السياسة الأمريكية
ولا تتوقعوا أن تجدوا في الكتاب انسلاخاً من كل أفعال ترامب. إذ أصبحت مواجهة الصين مثلاً موقفاً يحظى بدعم من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وبصرف النظر عمن سيفوز في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، فإنَّ "قلب العلاقات الصينية رأساً على عقب هو أقل عناصر سياسة ترامب الخارجية عُرضة للتغيير بعد مغادرته لمنصبه".
قال سكيوتو في كتابه السابق إنَّ الصين تشن "حرب ظل"، حربٌ لا يعلم الأمريكيون عنها شيئاً. لكن لم يعد الحال كذلك، وكثيراً ما تتصدر الخلافات الثنائية عناوين الأخبار المحلية الآن.
وإن كانت دبلوماسية الرجل المجنون هي النهج الذي يتبعه ترامب تجاه الصين، فالأمر الأقل وضوحاً بكثير في هذا الصدد هو أهدافه منها، إن كان لديه أهداف. إذ يبدو أنَّ هوسه الأساسي هو نفسه الذي يُركِّز عليه مع كل القوى الأجنبية تقريباً: فكرة أنَّ الولايات المتحدة تتعرَّض للخداع.
ولا تمثل أزمة حقوق الإنسان المتنامية في الصين مبعث قلق له بالتأكيد. فحين أُبلِغ ترامب بما يُسمَّى معسكرات التلقين في إقليم شينجيانغ، يزعم مستشار ترامب السابق للأمن القومي جون بولتون أنَّ الرئيس صدَّق للرئيس الصيني شي جين بينغ على الفكرة تقريباً.
بل وتخلى ترامب حتى عن سياسته التجارية البارزة، وعلى الأرجح لن نرى "مرحلة ثانية" من الاتفاق التجاري الأمريكي الصيني.
احتمال الحرب مع الصين تفاقم في وقت لا يريد ترامب سوى الفوز بالانتخابات
ويعتبر معظم المراقبين أنَّ السياسة تجاه الصين أصبحت حيلة انتخابية، وهو أمر خطير بالنظر إلى شدة كراهية ترامب للخسارة.
ففي ظل عبور البحرية الأمريكية من مضيق تايوان ودخول المقاتلات الصينية منطقة تحديد الدفاعات الجوية التايوانية في الأسابيع القليلة الأخيرة، قد تُغيِّر بضع دقائق طائشة مجرى التاريخ.
في الوقت نفسه، لم تُحقِّق عدائية إدارة ترامب للصين شيئاً يُذكَر من أجل كبح بكين بصورة حقيقية. فالأخيرة تواصل عسكرة بحر جنوب الصين ونصب الصواريخ في جزر سبارتلي. وأطاحت تقريباً بدستور هونغ كونغ واستقلاليتها.
وهي مستمرة في احتجاز الإيغور في إقليم شينجيانغ غربي البلاد على الرغم من الغضب الدولي المتنامي. وتجاهلت بكين إلى حدٍ كبير وعيد ترامب وتقلّباته حين يتعلَّق الأمر بالتحركات الفعلية، بينما واصلت ببساطة المضي قدماً بأجندتها القومية الخاصة.
وإن كانت النقطة المضيئة نسبياً في تقدير سكيوتو هي الصين، فإنَّ نقطة الحضيض هي سوريا وتخلي الولايات المتحدة عن المقاتلين الأكراد هناك. وتجعل رواية سكيوتو بشأن بحث مسؤولي الرئيس عن سبل للتحايل على قراراته التنفيذية بالانسحاب من سوريا القراءة مؤلمة، لكنَّها تُقدِّم مثالاً واحداً فقط من بين أمثلة كثيرة في هذا الكتاب اضطر فيها المسؤولون لتدبُّر أمر أسوأ قرارات الرئيس. وكان الكاتب واضحاً بخصوص تعامل ترامب مع الأكراد السوريين: كان لدى ترامب مكسبٌ في يديه وقد أهدره وسمح لحكومة بشار الأسد وتركيا وروسيا وإيران بتحقيق مكاسب.
الرجل المجنون لا يحب الحرب
ويتضح أنَّ الرجل المجنون لا يحب الحرب، ويقيس خياراته العسكرية بمؤشر القيمة المالية. فقد تمكَّن من شن ضربة واحدة لقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني (وكان محظوظاً أنَّ القرار لم يتوسع ويتحول إلى شيءٍ أكبر)، لكنَّه بصفة عامة يُفضِّل الانسحابات على عمليات نشر القوات، وهو النسق الذي ربما لاحظته الصين في إطار تصعيدها للتوترات مع تايوان.
وإلى جانب "نظرية الرجل المجنون" السائدة في الكتاب، يظهر في تلك الصفحات أيضاً تمسُّك الرئيس ببعض المسارات الثابتة، على الأقل في اتجاهات محددة، مثل ما يتعلَّق بالصراع العسكري.
إنَّ كتاب سكيوتو هو محاولة من الدرجة الأولى لرسم نهج يفسر أربع سنوات من الفوضى في السياسة الخارجية. وحتى وهو يكتب عن الماضي، من الصعب أن يخطئ المرء الشعور بأنَه يفكر –ويشعر بالقلق- دوماً حيال المستقبل. وبصرف النظر عن نتيجة الانتخابات، تنتظر أمريكا سنوات عصيبة مقبلة، معظمها بسبب تهور رجل مجنون.