كشفت الطريقة التي تم بها الإعلان عن اتفاق التطبيع الإماراتي مع إسرائيل عن كثير من الأساليب التي ينتهجها ولي عهد أبوظبي وحاكم الإمارات الفعلي محمد بن زايد، في تنفيذ أجندته المدفوعة بعدائه الشديد للإسلام السياسي وطموحه إلى تحويل بلده الصغير حجماً إلى قوة إقليمية مؤثرة، فما قصة تلك الأساليب؟
مجلة The Economist البريطانية نشرت تقريراً بعنوان: "الإمارات أصبحت قوة إقليمية يُحسب حسابها في الشرق الأوسط"، ألقى الضوء على كواليس تحويل محمد بن زايد الإمارات من دولة صغيرة تعيش في ظل السعودية الأكبر حجماً وتأثيراً، إلى ما أصبح يُعرف في الأوساط السياسية الغربية بـ"إسبرطة الصغيرة".
العمل في الظلام بعيداً عن المتابعة
لم يأتِ الأمر على نحو خطاب أنور السادات التاريخي في الكنيست والذي مهّد لاتفاقية "كامب ديفيد"، ولا على طريقة ظهور الملك حسين وإسحاق رابين يداً بيد في "حديقة الورود" بالبيت الأبيض؛ احتفالاً باتفاقية "وادي عربة" الأردنية الإسرائيلية، فليس هذا أسلوب محمد بن زايد.
الاتفاق بين إسرائيل والإمارات، الذي أُعلن عنه في 13 أغسطس/آب، عُهد بتسريبه في البداية إلى مصادر داخلية وجواسيس ومشايخ، لتتبدى ملامحُه بهدوء وقطعةً بقطعة، قبل أن يُكشف النقاب عنه إلى حد كبير في تغريدات على موقع تويتر، وقد جاءت "اتفاقية أبراهام" لتجعل من الإمارات أول دولة خليجية وثالث دولة عربية تُطلق علاقات رسمية مع إسرائيل. ومع ذلك، فقد حاز الإعلان كل الأُبَّهة والظروف التي قد تجعله أشبه باتفاقية تعريف جمركية بين دولتين.
دعم الانقلابات ومحاربة الديمقراطية
وعلى الرغم من أن الإمارات ظلت لزمن طويل في ظلال السعودية، فإن الأمير محمد بن زايد، الحاكم الفعلي للإمارات، تمكن من تحويل بلده الصغير الذي يبلغ عدد سكانه 10 ملايين شخص، إلى أكثر الدول العربية نفوذاً، فقد رأينا الإمارات تمارس قوتها الناعمة عبر دبي، مركز الأعمال في المنطقة، وشركات مثل "موانئ دبي العالمية" DP World، عملاق الشحن البحري، وأخذ جيشها المحدود عدداً، لكن الكفء، يُكسبها جرأة وقدرةً أكبر على المجازفة، إضافة إلى أن الأموال ووسائل الإعلام الإماراتية ما انفكت تدعم الانقلاباتِ والمؤامرات، لتحقيق مصالحها، في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
كثيرٌ من هذه الخطوات يُتخذ بهدوء، ما يسمح للإمارات بالتهرب من التدقيق والمتابعة الكثيفة المفروضة على القوى الأكبر حجماً، ومن ثم، تمكنت الإمارات، بدهاء تحركاتها في كواليس السياسة بواشنطن وباريس وعواصم أخرى، من وضع نفسها في مكانة الشريك الموثوق به.
وعن ذلك، يقول مسؤول إماراتي: "نحن ندرك حجمنا، وندرك أننا بحاجة إلى أن نكون جزءاً من سياسات جماعية". وقد أصبح الخبراء الغربيون الذين يقدمون النصح والتوصيات للنظام الإماراتي في أبوظبي، ومعظمهم دبلوماسيون سابقون أو جنود متقاعدون، يستخدمون خلال حديثهم ضمير الجمع المتكلم، كما لو أنه ليس ثمة فارق بين صاحب العمل الإماراتي وبلدانهم الأصلية.
إيران والإسلام السياسي
ومع ذلك، فإن الإمارات تبدي عزماً متزايداً على السير في طريقها الخاص، وهي تختلف في أولوياتها عن كثير من جيرانها: فهي أكثر براغماتية حيال إيران وأشد عداوة لحركات الإسلام السياسي، ومن ثم انفصلت رؤاها عن رؤية السعوديين في اليمن، وعن الأمريكيين في ليبيا، وعن عديد من شركائها في سوريا، ويتطلع المتفائلون بأملٍ إلى أن تنشر الإمارات "نموذجَ دبي"، لما يُفترض عنه من سمات الحكم الرشيد والاقتصاد النابض بالحياة والتركيز الرائع على التسامح الديني، في جميع أنحاء الشرق الأوسط، لكن واقع الأمر أن مساعي الإمارات لتأمين مصالحها الخاصة قد تُرسّخ مشكلات المنطقة وتعمّق أزماتها.
وصحيحٌ أن الإمارات نادراً ما تتصرف بمفردها في المسائل العسكرية، غير أن دورها غالباً ما يفوق حجمها بكثير، فعلى سبيل المثال، كانت القوات التي أرسلتها إلى اليمن في عام 2015، هي العنصر الأكثر فاعلية في تحالف تقوده السعودية لمحاربة الحوثيين، ما جعل مغادرة تلك القوات الصيف الماضي لا تترك أمام السعوديين خياراً سوى البدء في التفاوض بشأن الخروج، كما أوصلت الطائرات المسيَّرة الإماراتية خليفة حفتر، أمير الحرب الليبي، إلى حدود طرابلس، قبل أن تجبره القوات التركية الأكثر تفوقاً على التراجع.
يطلق المسؤولون الأمريكيون في البنتاغون بإعجاب على الإمارات لقب "إسبرطة الصغيرة"، في حين أن الإسبرطيين الحقيقيين ربما كانوا سيجدون في فنادق دبي الباذخة ضرباً من العبث المفرط، ومع ذلك فإن اللقب المجازي يعكس في المقام الأول مدى الإحباط الغربي حيال الدول العربية التي تنفق مليارات على المعدات العسكرية الغربية، ورغم ذلك لا تحقق بها شيئاً يُذكر، أي إن الإماراتيين أثبتوا أنهم أكثر كفاءة من غيرهم.
موقف مناقض من بشار الأسد
كما أن الإماراتيين أقل تشدداً، على الأقل في بعض المجالات، ففي حين انضمت معظم دول الخليج إلى مساعي الإطاحة بنظام بشار الأسد في سوريا، كانت الإمارات أول من اعترف بفشل تلك المساعي، لتعيد الإمارات فتح سفارتها بدمشق في ديسمبر/كانون الأول 2018، رغم مخاوف الحلفاء. وبلغ الأمر ببعض الإماراتيين حدَّ الإصرار، بدرجةٍ عصيّةٍ على التصديق، على أن الوجود الإماراتي يتعلق بمحض المسائل القنصلية والعلاقات الدبلوماسية. في حين يجادل آخرون بأن إشراك الأسد قد يجعله أكثر تقبلاً للتغيير. ويقول أحد المسؤولين الإماراتيين: "الأمر يتعلق بمحاولة إعادة سوريا إلى الحظيرة العربية".
لكن، وإن كانت هذه الآمال غير واقعية، فإن الاستعداد للتقارب مع الأسد يعكس انقساماً أوسع نطاقاً حول كيفية التعامل مع داعمه الرئيسي: إيران. إذ ينظر السعوديون إلى طهران على أنها تهديد وجودي، ولا يحبها الإماراتيون أيضاً، فبينهما نزاع طويل الأمد على جزر في الخليج. كما يلقي مسؤولون غربيون باللوم على إيران في تخريب ناقلات نفط بالمياه الإماراتية، العام الماضي. ومع ذلك، تتخذ الإمارات مقاربة أكثر ليونة حيال إيران. وتمارس شركات مرتبطة بإيران وحلفائها أعمالها التجارية في دبي، وإن لم تكن كلها بطريقة شرعية، كما أن الإمارات، التي كانت ذات يومٍ داعماً متحمساً لحملة "الضغط الأقصى" الأمريكية على إيران، بذلت الجهود مؤخراً لتخفيف حدة التوترات.
الاستفادة من وجود محمد بن سلمان
ويتزامن بروز الدور الإماراتي تقريباً مع صعود الأمير محمد بن سلمان، الذي أصبح وريثاً للعرش في عام 2017. وبحسب أحد الدبلوماسيين الغربيين في الخليج: "بدا محمد بن سلمان شاباً، شخصية جديدة، مشغول بالدرجة الأولى بإحداث تغيرات اجتماعية واقتصادية في بلده. شعر الإماراتيون بأن عليهم أخذ زمام المبادرة وتولي الأمور".
وفي بعض الحالات، كان السعوديون سعداء بالسماح لهم بذلك. إذ لعقود من الزمان، كان للسعوديين نفوذ ضخم في لبنان من خلال رفيق ثم سعد الحريري، الأب والابن اللذين شغلا منصب رئاسة الوزراء في لبنان لمدة 16 عاماً من الأعوام الـ28 الماضية، إلا أن عهدهما شهد تفشياً واسعاً للفساد، في الوقت الذي أصبح فيه حزب الله، الميليشيا والحزب السياسي المدعوم من إيران، أقوى طرف في لبنان.
ومن ثم، بعد أن احتجز السعوديون سعد الحريري فترة وجيزة عام 2017؛ في محاولة فاشلة لإحداث تغيير سياسي، نفضوا أيديهم من البلاد، ويقول دبلوماسي في بيروت: "لقد سلم السعوديون ملف لبنان للإماراتيين". من جانبهم، رضي الإماراتيون بترك الأمور تتداعى في لبنان: ولم يعبأوا بالتدخل لإنقاذ حكومة لبنان المفلسة.
ويعود الأمر بالأساس إلى أن لبنان، بسياساته الحزبية وانقساماته، يعد ساحةً غير جذابة للإمارات، وهي التي تستند في معظم سياساتها الإقليمية إلى الارتياب في أي سياسات جماهيرية، فالانتفاضات العربية عام 2011 لم تجلب، من وجهة نظر الإمارات، الأملَ، بل أشاعت الفوضى. ويقول أحد المسؤولين إن الإمارات تريد "التطور التدريجي، وليس الثورة"، من الناحية العملية، يعني هذا تأييداً مطلقاً للمستبدين المعادين للإسلاميين، وتقديمهم بوصفهم دعاة تحديث لبلادهم.
كيف أصبح بن زايد نموذجاً للسيسي؟
ولعل أبرز مثال على ذلك، هو عبدالفتاح السيسي، وزير الدفاع المصري الذي قاد انقلاباً بدعم خليجي للإطاحة بالحكومة الإسلامية المنتخبة في عام 2013، ففي بعض الأحيان، يبدو أن السيسي قد وضع ولي العهد الإماراتي نموذجاً يحتذيه ويتطلع إلى ما أنجزه، ويذكِّرنا طموح السيسي إلى بناء عاصمة جديدة لامعة في الصحراء شرق القاهرة بدبي الإماراتية، كما أن خطابات السيسي المتكررة للمصريين حول ضرورة التحلي بأخلاقيات العمل أو الحفاظ على اللياقة البدنية تستدعي نموذج الفرض من أعلى إلى أسفل الذي ينتهجه نظام محمد بن زايد لتشكيل المجتمع في الإمارات.
قد ينجح ذلك الأسلوب وتلك السياسات في الإمارات، التي تُبقي المواطنين والمقيمين بها عند مستوى معيشي مريح، مقابل مراقبة إلكترونية صارمة على أهل البلاد، والتهديد الدائم بالترحيل بالنسبة إلى الأجانب. على الجانب الآخر، يبدو ولع السيسي بالمشروعات الضخمة على النمط الخليجي مَضيعةً وهدراً للموارد في بلد فقير يبلغ عدد سكانه 100 مليون نسمة، كما أن التضييق السياسي الذي يفرضه يُثير السخط بين مواطني بلدٍ، لطالما تمتَّع، حتى في ظل أشد عهوده ديكتاتورية، بتقاليد سياسية ثرية. الخلاصة أن ما نجح بدبي، ليس بالضرورة أن ينجح بكل مكان آخر، لا على مستوى التطور، ولا على مستوى المساعي الاستباقية لإحباط أي ثورة مستقبلية.