أثار حكم المحكمة الدولية الخاصة بالتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، إحباطاً شعبياً وجدلاً نخبوياً لدى جموع كبيرة من اللبنانيين، خاصةً جمهور فريق 14 آذار الذي أحبطته نتيجة حكم المحكمة، فيما يسعى سعد الحريري بدعم قوى سياسية، لإقناع الأمريكان بضرورة إتاحة الفرصة له مجدداً، مشترطاً أن تخلو حكومته- التي يأمل تشكيلها- من حزب الله وجبران باسيل.
حكم المحكمة الذي أتى يبرئ فريقاً من المتهمين ويتهم آخرين، وضع قفص الاتهام حول قيادة حزب الله الذي ينتمي إليه القائد العسكري مصطفى بدرالدين والمسؤول الأمني سليم عياش اللذان اتهمتهما المحكمة باغتيال الحريري.
إلا أن موقف المحكمة وجدلية عدم وجود دليل ملموس على تورُّط الحزب ونظام بشار الأسد الذي كان يتدخل في حكم لبنان حتى منتصف العام 2005- فتحا الباب أمام فرضيات حول المواقف التي ستَتْبع الحكم وكيفية توظيفها في السياسة والميدان الملتهب في ظل الفراغ الحكومي والحضور الدولي الكثيف لإنجاز تغييرات على الأرض.
الحريري والخيبة السُّنية
لم يكن موقف سعد الحريري من حكم محكمة لاهاي مفاجئاً، فلم يخرج عن خطابه المعهود في السنوات الأخيرة، والذي يحرص فيه على دعم استقرار البلد.
إلا أن هذا الموقف الذي اتخذه الحريري تجاه حزب الله أثار خيبة في الشارع السُّنّي، ولدى قاعدة مؤيدي تيار المستقبل بوجه أخص، فضلاً عن أسباب أخرى أدت إلى تراجع شعبيته، وهو ما بدا في الانتخابات النيابية الأخيرة.
وعلى الرغم من أن نصر الله استبق قرار المحكمة، وقال في آخر خطاباته إن المحكمة لا تعني له شيئاً وإنه غير مهتم بقراراتها، ومتمسك ببراءة جميع تابعيه المتهمين، فإن الحريري قال من مقر المحكمة في لاهاي، إن المطلوب منه الآن أن يضحّي هو حزب الله، الذي صار واضحاً أن شبكة التنفيذ خرجت من صفوفه.
لكن خيبة الشارع السنّي ظهرت جلية من حكم المحكمة، ومن موقف الحريري على حد سواء، فكانوا يأملون حكماً رادعاً وواضحاً، أو موقفاً أكثر خشونة وصلابة مما بدا عليه الحريري.
وكان الحريري قد أدلى بتصريحات تلفزيونية، رفض فيها شعور اللبنانيين بخيبة الأمل، موضحاً أنه طالب بالحقيقة والعدالة، وقال: "اليوم نرى أنها المرة الأولى التي تظهر فيها الحقيقة، وهنا تكمن صدقية المحكمة الدولية، ولن نتراخى في المطالبة بالعدالة".
لكن مواقف الحريري وبحسب مصادر متابعة، تأتي من خلفية تمسُّكه بالتفاهمات بينه وبين حزب الله، وأنه لن يخرج عن الأدبيات المتفق عليها بين الطرفين منذ سنوات والتي أدت إلى حرص الحزب على بقاء الحريري في واجهة الزعامة السُّنية وعدم السماح حتى لحلفاء الحزب السُّنة بتجاوز السقف الموضوع لهم، لأن الحريري يؤمِّن مظلةً سُنيةً محلية وإقليمية لا يستطيع حلفاؤه تأمينها.
الحريري يسوِّق نفسه
ويسعى الحريري من خلال الحكم الصادر، إلى إعادة إظهار نفسه للعودة لرئاسة الحكومة، فهو يدرك أن العديد من القوى والأطراف ما زالت متمسكة به لقيادة المرحلة القادمة، أبرزهم رئيس مجلس النواب نبيه بري، وزعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية.
وكشفت مصادر قريبة من دوائر الحريري ومن دوائر مؤيديه، أن بري وجنبلاط وفرنجية التقوا المبعوث الأمريكي ديفيد هيل، وطالبوه بضرورة إعطاء فرصة للحريري لقيادة البلد من ضفة الانهيار إلى ضفة الاستقرار.
فيما يرفض رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل عودة الحريري؛ بعد الحرب التي قادها الحريري على باسيل في المرحلة السابقة.
كما كشفت المصادر على الخط الموازي، أن رئيس البرلمان نبيه بري حمل إلى القصر الرئاسي في بعبدا ما بجعبته؛ محاوِلاً إقناع عون بضرورة القبول بالحريري بعد مواقفه الأخيرة التي أطلقها من لاهاي عقب الحكم في قضية والده، والتي قدّم فيها استقرار لبنان على ثأره الشخصي.
وتقول مصادر خاصة لـ"عربي بوست"، إنَّ عون لم يمانع في نهاية الجلسة، القبول بتسمية الحريري شريطة الاتفاق مع باسيل، الذي يواجه حرب إلغاء محلية ودولية حسبما عبَّر الرئيس، وإن الحريري واضح في شروطه وهي أن أي حكومة سيترأسها يجب أن تخلو من رجال حزب الله والوزير جبران باسيل؛ حتى يتمكن من إقناع المجتمع الدولي بدعمها، وإن هذا ما وصل لمسامع الحزب الذي يدرس في مؤسساته التنظيمية الموضوع.
وبحسب مصادر مطلعة لـ"عربي بوست"، فإن الحريري سيتلقف تصريحات ديفيد هيل التي أكدت أن بلاده جاهزة لمساعدة أي حكومة قادرة على تحقيق الإصلاحات بوجود حزب الله أو عدمه، وهو ما سيتيح للحريري حرية التحرك والتواصل، في حال الاتفاق على حكومة برئاسته وبصلاحيات تشريعية واسعة.
حزب الله وصك البراءة
يسعى حزب الله لإقناع الشارع بأنه منذ تأسيس المحكمة غير معنيٍّ بها وبقراراتها التي قد تطال كوادر وقيادات منه، لكن الحكم الصادر منذ يومين والذي أكد أن لا دليل على تورطه كحزب في الاغتيال شكَّل للحزب صك براءة، حسبما يقول الباحث والمحلل السياسي ربيع دندشلي لـ"عربي بوست".
ويضيف دندشلي أن الحزب بعد حكم الأمس بات أكثر قدرة على التفاوض مع المجتمع الدولي؛ لكونه لم يعد متهماً مباشرة بالجريمة، وأن الحزب بعد الحكم سيستطيع توجيه سهامه إلى عمل أي محكمة دولية ولجنة تحقيق خارجية، بسبب ما وقع في السنوات الأخيرة من شحن سياسي ضده في لبنان.
لكن دندشلي يؤكد أن حكم المحكمة سيكون ورقة ضغط من الإدارة الأمريكية أو المجتمع الدولي على الحزب في حال عدم التوصل لتفاهمات مع إيران في المستقبل القريب.
وحول إمكانية تسليم الحزب للمتهم سليم عياش، يرجح دندشلي أن حزب الله لن يسلم الرجل، لكن سيظل الأمر مرتبطاً بتفاهمات إيران والولايات المتحدة عقب الانتخابات الأمريكية نهاية العام الحالي.
ويشدد دندشلي على أن قرار المحكمة سينعكس على الداخل اللبناني عبر تعزيز شروطه على الحلفاء والخصوم بكونه سيصبح قادراً على التحرك في البيئة اللبنانية بشكل أوسع.