بعد صعود للدين في مطلع القرن الحالي، فإننا نشهد موجة معاكسة من تراجع التدين في العالم، فما أسباب ذلك وما علاقة دونالد ترامب وأقرانه بالظاهرة، وهل يعود البشر إلى الدين بسبب جائحة كورونا؟
RONALD F. INGLEHART مؤلف كتاب "الانحدار المفاجئ للدين: ما الذي يسببه وماذا بعد ذلك؟ " كتب مقالاً في مجلة Foreign Affairs الأمريكية حاول فيه رصد ما يقول إنه أسباب قد أدت إلى تراجع التدين في العالم، وعلاقة ذلك بصعود التيارات المحافظة دينياً وأبرز الدول التي تشهد هذه الظاهرة.
صعود الدين
بدت نزعة التديّن في ازدياد خلال السنوات الأولى من القرن الـ21. ترك انهيار الشيوعية والاتحاد السوفييتي فراغاً أيديولوجياً تمكنت من ملئه المسيحية الأرثوذكسية في روسيا ودول ما بعد الاتحاد السوفييتي.
لمَّح انتخاب جورج دبليو بوش رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، وهو مسيحي إنجيلي، إلى أنَّ المسيحية الإنجيلية آخذة في الصعود باعتبارها قوة سياسية في البلاد. ووجّهت هجمات 11 سبتمبر/أيلول، الانتباه الدولي نحو تنامي قوة الإسلام السياسي في العالم الإسلامي.
قبل 12 عاماً، أجرى الباحث الأمريكي رونالد إنغهارت وزميلته البريطانية بيبا نوريس تحليلاً للبيانات المتاحة المتعلّقة بالاتجاهات الدينية من عام 1981 إلى 2007 في 49 دولة تمثل 60% من سكان العالم. وأظهرت نتائج التحليل أنَّ الناس أصبحوا أكثر تديناً خلال تلك الفترة في 33 دولة من أصل الـ49 التي شملتها الدراسة، لاسيما في معظم الدول الشيوعية السابقة ومعظم الدول النامية، وحتى في عددٍ من الدول ذات الدخل المرتفع، وأوضحت النتائج أيضاً أنَّ التحول إلى التصنيع وانتشار المعرفة العلمية لم يتسبّبا في اختفاء الدين، كما افترض في السابق بعض الباحثين.
ولكن بعد عام 2007 تراجع التدين
بدأ هذا الوضع يتغيّر بسرعة مذهلة منذ عام 2007، حيث أصبح السكان في 43 دولة من أصل 49 أقل تديناً بدايةً من عام 2007 حتى عام 2019، ولم يقتصر تراجع الالتزام بالأديان على الدول ذات الدخل المرتفع فحسب، بل ظهر في معظم أنحاء العالم.
لم تعد أعداد متزايدة من الناس تجد للدين دوراً ذا مغزى في حياتهم، وحتى الولايات المتحدة الأمريكية -التي صُنّفت كواحدة من أكثر دول العالم تديناً في الفترة من 1981 إلى 2007، وكان يُستشهد بها لسنوات باعتبارها دليلاً على أنَّ التحديث الاقتصادي لا يقود بالضرورة إلى العلمنة– انضمت حالياً إلى قائمة الدول الغنية الأخرى التي تبتعد عن الدين.
لماذا أكثر الدول تديناً هي الأكثر فساداً؟
على الرغم من أنَّ بعض المحافظين يحذّرون من أنَّ الابتعاد عن الأديان سيؤدي إلى انهيار التماسك الاجتماعي والأخلاق العامة، لا تدعم الأدلة على أرض الواقع هذا الادعاء.
تميل الدول الأقل تديناً إلى أن تكون أقل فساداً من نظيراتها الأكثر تديناً، حسب الكاتب، (وهو ادعاء لا يمكن البرهنة عليه علمياً، لأنه يمكن أن تكون الظروف المؤدية إلى الفساد، تؤدي للتدين، ولكن ليس التدين هو سبب الفساد، فالفقر قد يدفع الإنسان إما إلى الفساد أو التدين).
وغنيٌّ عن القول أنَّ الدين بحد ذاته لا يُشجّع على الفساد والجريمة، لكن هذه الظاهرة تعكس حقيقة أنَّه مع تطور المجتمعات، يصبح أمر البقاء على قيد الحياة مضموناً ومُؤَمّناً بدرجة أكبر، حيث تكون احتمالية تفشي المجاعة غير شائعة ويزيد متوسط العمر المتوقع للإنسان. لذا، يميل الناس إلى الابتعاد عن الدين مع ارتفاع هذا المستوى من الأمن الوجودي.
ماركس ودوركايم تنبآ بنهاية الأديان، فهل صدقت توقعاتهما؟
تنبأ عدد من المفكرين المؤثرين، مثل كارل ماركس وماكس فيبر وإميل دوركايم، بأنَّ انتشار المعرفة العلمية سيُبدّد وجود الأديان في جميع أنحاء العالم، لكن هذا لم يحدث.
ومع ذلك، ظلَّت العقيدة الدينية بالنسبة لمعظم الناس تُمثّل قيمة عاطفية أكثر منها معرفية.
كان البقاء على قيد الحياة في معظم تاريخ البشرية أمراً غير مؤكد. جاء الدين ليؤكد أنَّ العالم في أيدي قوة أعلى معصومة من الخطأ، وعدت بأنَّه في حال التزم المرء بالقواعد الدينية، فإن الأمور ستؤول في نهاية المطاف إلى الأفضل، وساعد الدين هذا العالم، الذي كان يعيش فيه الناس غالباً على حافة التضور جوعاً، في تجاوز حالة عدم اليقين الشديدة. لكن مع حدوث التطور الاقتصادي والتقني، بات الناس أكثر قدرة على تجنّب المجاعات والتعامل مع الأمراض وقمع العنف، ومن ثمَّ يصبحون أقل اعتماداً على الدين، وحتى أقل استعداداً لقبول قيوده.
كيف تظهر العلمنة؟
يقول كاتب التقرير "العلمنة لا تظهر بكل مكان في آنٍ واحد، لكنها تنشأ عندما تكون الدول قد حقَّقت مستويات عالية من الأمن الوجودي، وحتى في هذه الحالة عادةً ما يكون التحرّك نحو العلمانية بوتيرة بطيئة للغاية بعدما يحل جيل محل آخر.
بدأ الاتجاه إلى العلمنة تدريجياً منذ القرن الـ19، بدءاً من مجتمعات أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية الأكثر أمناً اقتصادياً ومادياً، ثم انتشر شيئاً فشيئاً في أجزاء أخرى من العالم.(يفترض كاتب التقرير أن العلمنة هي لصيق التقدم، ولكن أكثر دول أوروبا علمنة هي فرنسا ليست أكثرها تقدماُ، وأكثر ولايات ألمانيا تقدماً، هي بافاريا هي أكتر محافظةً، والولايات المتحدة هي أكثر دول الغرب تقدماً وأقواها وفي الوقت ذاته أكثرها تديناً، والاتحاد السوفيتي كان قلعة الإلحاد، ونهار نتيجة الظلم والفساد، وتركيا كانت علمانية وتغط في الفساد والمشكلات الاقتصادية ونقص الحريات قبل تولي حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحكم، وإندونسيا أكثر علمنة وفقراً من جارتها ماليزيا، واليمن الجنوبي كان أكثر الدول العربية علمنة وفقراً في الوقت ذاته).
يقول التقرير إنه "على الرغم من أنَّ العلمنة تنشأ عادةً بوتيرة الإحلال السكاني بين الأجيال، قد تصل إلى نقطة التحوّل عندما يتغيّر الرأي العام السائد وينساق خلف الموالاة العمياء والمقبول اجتماعياً، حينها يبدأ الناس في تفضيل وجهات النظر التي عارضوها يوماً ما، وهو ما ينتج عنه تغيير ثقافي سريع للغاية. وقد وصلت المجموعات السكانية الأصغر سناً والأفضل تعليماً في الدول ذات الدخل المرتفع إلى هذه النقطة مؤخراً".
ترامب وأمثاله من السياسيين يُبعدون الناس عن الدين
تساعد عدة عوامل أخرى بخلاف المستويات المتزايدة من التطور الاقتصادي والتقني في تفسير ظاهرة تراجع الالتزام بالدين، وكانت السياسات مسؤولة عن بعض هذا التراجع في الولايات المتحدة الأمريكية.
سعى الحزب الجمهوري منذ تسعينيات القرن الماضي، لكسب دعم الناخبين المتدينين من خلال تبني مواقف مسيحية محافظة تتعلّق بزواج المثليين والإجهاض وعدد من القضايا الثقافية الأخرى؛ وهو ما أدى إلى خلق حالة نفور من الدين في أوساط ناخبين آخرين، لاسيما الشباب وأصحاب الثقافة الليبرالية. وكان يُفترض بوجهٍ عام، أن تُشكّل المعتقدات الدينية وجهات النظر السياسية، وليس العكس. لكن الأدلة الحديثة تشير إلى أنَّ تلك العلاقة السببية قد تسير في الاتجاه العكسي، حيث وجدت دراسات أنَّ العديد من الأشخاص يُغيّرون وجهات نظرهم السياسية أولاً ثم يصبحون أقل تديناً.
وأدَّى القبول المعلن للرئيس دونالد ترامب -وهو رجل لا يمكن وصفه بأنَّه نموذج للفضيلة المسيحية- من جانب العديد من الإنجيليين البارزين إلى إثارة خوف الإنجيليين الآخرين من انصراف الشباب عن كنائسهم، مما يساعد في تسريع اتجاه مستمر بالفعل.
وفي وقت سابق من هذا العام، وجد استطلاع رأي أجراه مركز "بيو" للأبحاث، أنَّ 92% من الأمريكيين البالغين كانوا على علم بالتقارير الأخيرة المتعلّقة باعتداءات جنسية ارتكبها قساوسة ينتمون للكنيسة الكاثوليكية، وقال 27% ممّن شملهم الاستطلاع إنَّهم قلّصوا حضورهم قداسات الكنيسة، بسبب هذه التقارير.
لكن قد يكون التغيير المتعلّق بالضوابط الحاكمة للخصوبة البشرية أهم قوة دافعة وراء تنامي موجات العلمنة في جميع أنحاء العالم. حصرت معظم المجتمعات -على مدار قرون عديدة- دور المرأة في إنجاب أكبر عدد ممكن من الأطفال، ونبذت الطلاق والإجهاض والمثلية الجنسية ووسائل منع الحمل وأي سلوك جنسي غير مرتبط بالإنجاب.
على الرغم من الاختلافات الكبيرة في النصوص المقدسة للديانات الرئيسية في العالم، تشترك جميع الديانات في غرس تلك التعاليم المؤيدة للتناسل في نفوس وعقول أتباعها، وأكدت الأديان أهمية الإنجاب واعتبرته ضرورة في عالم يتسم بارتفاع معدل وفيات الرُّضع وانخفاض متوسط العمر المتوقع للإنسان.
خلال القرن الـ20، نجح عدد متزايد من الدول في تحقيق انخفاض جذري بمعدلات وفيات الرضع وارتفاع في متوسط العمر المتوقع، ومن ثمَّ لم تعد تلك المعايير الثقافية الدينية ضرورية. بالإضافة إلى ذلك، قدَّمت الديانات الرئيسية في العالم تلك المعايير المتعلقة بالخصوبة باعتبارها قواعد أخلاقية مطلقة وقاومت التغيير بشدة.
بدأ الناس في التخلي بخطى متثاقلة عن المعتقدات والأدوار المجتمعية المألوفة التي عرفوها منذ الطفولة فيما يتعلق بنوع الجنس والسلوك الجنسي. لكن عندما وصل المجتمع إلى مستوى عالٍ كافٍ من الأمن الاقتصادي والمادي، نشأت الأجيال الشابة على اعتبار هذا الأمن المُتحقّق من المُسلَّمات، وتشهد العديد من دول العالم حالياً تغييراً سريعاً في الأفكار والممارسات والقوانين المتعلقة بالمساواة بين الجنسين والطلاق والإجهاض والمثلية الجنسية.
الدول الإسلامية تبدو استثناء من الظاهرة..
وفقاً لبيانات دراسة استقصائية أجرتها رابطة مسح القيم العالمية (WVS)، التي تهدف إلى استكشاف قيم الأفراد ومعتقداتهم وكيفية تغيّرها بمرور الوقت، امتد هذا الاتجاه ليصل إلى بقية دول العالم، مع استثناء واحد رئيسي يتمثّل في سكان الدول الـ18 ذات الأغلبية المسلمة المتوافرة عنهم بيانات في تلك الدراسة. ظلّت تلك الدول بعيدة عن نقطة التحول السالفة الذكر، حيث واصلت الحفاظ على الطابع الديني للمجتمع والالتزام بالمعايير التقليدية المتعلقة بنوع الجنس والخصوبة.
كانت الأديان بمثابة قوة لضمان التماسك الاجتماعي والحد من الجريمة وتشجيع الامتثال للقانون على مدار قرون، وذلك بفضل ما تغرسه من تعاليم أخلاقية، لذا من المفهوم مخاوف المحافظين المتدينين بشأن أنَّ تراجع الالتزام الديني قد يقود إلى فوضى اجتماعية تتصاعد فيها معدلات الفساد والجريمة، ومع ذلك، لا توجد أدلة على أرض الواقع تدعم هذا الشاغل.
تتيح بيانات منظمة الشفافية الدولية فرصة اختبار العلاقة الفعلية بين التدين والفساد. تُبيّن بيانات المنظمة، التي تنشر تقريراً سنوياً يُقيّم مستويات انتشار الفساد بالقطاع العام في 180 دولة، أنَّ الدول الدينية تميل إلى أن تكون أكثر فساداً من نظيراتها العلمانية.
في الوقت نفسه، يميل سكان الدول الدينية على الأرجح إلى إدانة الفساد بدرجة تفوق قليلاً سكان الدول الأقل تديناً، لكن تأثير الدين على السلوك ينتهي عند هذا الحد، حسب التقرير
في ضوء ذلك، يتضح أنَّ التدين قد يساهم في جعل الناس أكثر ميلاً إلى إنزال العقوبات، لكنه لا يجعلهم أقل فساداً (كان النتائج سوف تكون مختلفة تماماً لو أجريت الدراسة قبل إنهيار الشيوعية حيث اجتمع الفساد مع الإلحاد).
وينطبق هذا النمط أيضاً على جرائم أخرى، مثل القتل، ومع ذلك، هذا لا يعني بالتأكيد أن التدين يُسبّب الفساد وجرائم القتل. لكن معدلات الجريمة ومظاهر التدين يميلان إلى الارتفاع في المجتمعات التي تتدنى فيها مستويات الأمن الوجودي، حسب التقرير.
والسؤال: هل تتداعى المجتمعات بسبب تراجع التدين؟
تشير الأدلة أيضأ إلى أنَّ المجتمعات الحديثة لن تنزلق إلى فوضى عدمية من دون عقيدة دينية تحافظ على تماسكها، حسب كاتب التقرير ربما كان الدين في المجتمعات الزراعية المبكرة -عندما كان معظم الناس يعيشون بالكاد فوق مستوى البقاء على قيد الحياة- هو الطريقة الأكثر فاعلية للحفاظ على النظام والتماسك الاجتماعي. لكن الحداثة غيَّرت تلك المعادلة. فمع تراجع الالتزام الديني التقليدي، يبدو أنَّ مجموعة قوية من المعايير الأخلاقية المماثلة بدأت في الظهور لملء الفراغ. تشير دلائل مستمدة من دراسة استقصائية أجرتها رابطة مسح القيم العالمية، إلى أنَّ سكان الدول العلمانية، التي تتمتع أيضاً بمستوى عالٍ من الأمن الوجودي، يولون أولوية كبيرة لقيم حقوق الإنسان والتسامح وحماية البيئة والمساواة بين الجنسين وحرية التعبير.(تتجاهل هذه النظرية الانهيار المادي والأخلاقي الذي حدث لدول الكتلة الشرقية التي كان الإلحاد هو العقيدة الرسمية لأغلبها، وهو ما سبَّبه تزامن تأثير ضعف التدين مع الانهيار الاقتصادي والاجتماعي من مآسٍ طوال عقد التسعينيات).
ومع تطور المجتمعات من زراعية إلى صناعية إلى مجتمعات قائمة على العلم والمعرفة، يصبح الناس أقل انصياعاً للقادة والمؤسسات الدينية التقليدية. وبينما يُرجَّح أن يستمر هذا الاتجاه، فإنَّ المستقبل يبقى دائماً شيئاً مجهولاً.
تقلل الجوائح مثل جائحة فيروس كورونا المستجد من إحساس الناس بالأمن الاقتصادي والمادي. وإذا استمرت تلك الجائحة لسنوات عديدة قادمة أو نتج عنها كساد كبير جديد، فقد تبدأ تلك التغييرات الثقافية التي شهدتها العقود الأخيرة في الانحسار وقد تنقلب رأساً على عقب.
ومع ذلك، لا يزال هذا التحول غير مرجح، لأنَّه سيتعارض مع الاتجاه القوي المدفوع بالتقنيات الحديثة نحو الرخاء المتنامي وزيادة متوسط العمر المتوقع، وهو ما يساعد في دفع الناس بعيداً عن الدين.