عندما قدَّم الرئيس الأمريكي وعداً انتخابياً قبل أربع سنوات، بعقد صفقة تاريخية لإحلال السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين في الشرق الأوسط، لم يصدقه كثيرون، وبالفعل جاء الإعلان عن صفقة القرن خجولاً وغاب عنه الطرف الرئيسي الآخر وهم الفلسطينيون، فماذا وراء ذلك الإعلان التاريخي بشأن التطبيع الإماراتي-الإسرائيلي وما علاقته بالقصة الأصلية؟
شبكة CNN الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي نسخة خجولة عن صفقة الشرق الأوسط التاريخية التي تعهد بها ترامب"، ألقى الضوء على التباين الصارخ بين ما وعد به ترامب وما تحقق بالفعل.
إعلان تاريخي شكلاً.. فارغ مضموناً
هذه ليست صفقة السلام في الشرق الأوسط التي سحرت جيلاً كاملاً من رؤساء الولايات المتحدة، ولا الصفقة التي أوكل الرئيس دونالد ترامب إلى صهره ومستشاره الخاص غاريد كوشنر إبرامها، وفي أفضل تفسير لها، تعتبر الاتفاقية التي أعلنها ترامب والإمارات وإسرائيل بشأن تطبيع العلاقات بين الدولتين، نسخة متواضعة عن الصفقة الكبرى التي لا يزال الفلسطينيون والإسرائيليون لم يتوصلوا لها بعد لوأد عقود من الصراع.
وصحيح أنَّ هذه الصفقة تعتبر تاريخية، لكنها مجرد نسخة خادعة عن صفقة السلام في الشرق الأوسط التي تعهد ترامب بطرحها، وفي السنوات الأخيرة، رفع ترامب سقف التوقعات بشأن تحقيق انفراجة في الوصول لصفقة فلسطينية-إسرائيلية، ورفع معها أيضاً آفاق حدوث انهيار حاد إذا فشلت.
ويُعتبَر الاتفاق الجديد اعترافاً ضمنياً بأنَّ خطة ترامب الأصلية للسلام ماتت، ومع ذلك فهو يعيد إحياء الحظوظ السياسية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إذ حصل نتنياهو على ما أراده؛ وهو انهيار عقود من التعنت العربي ضد صفقة بشروط إسرائيل، مقابل تكلفة قليلة أو من دون تكلفة.
كيف تدخلت الإمارات ولماذا؟
وكان من الممكن أن يصبح اندفاع رئيس الوزراء الإسرائيلي لضم مساحات من أراضي الضفة الغربية المحتلة بمثابة الفتيل الذي يعيد إحياء التوترات الراكدة ويحرق تطلعات الفلسطينيين في إقامة دولتهم القابلة للحياة. لكن إلى الوقت الحالي، يبدو أنَّ الإمارات قوَّضت احتمال حدوث ذلك.
وللوهلة الأولى تبدو الصفقة حاسمة، لكن إذا وُضِعَت محل الاختبار فلا يبدو أنها ساهمت في تأجيل التصعيد المحتمل إلا لفترة قصيرة. والسر في ذلك هو كلمة "تعليق".
ووصف مهندس الاتفاقية، غاريد كوشنر، الاتفاق الجديد كالتالي: "أعتقد أنهم (إسرائيل) لن يتخذوا أي إجراء للمضي قدماً ما لم يكن لدينا تفاهم بين أمريكا وإسرائيل على أنَّ هذه هي الخطوة الصحيحة وفي الوقت المناسب".
وعندما سُئِل كوشنر متى سيحدث ذلك، جاءت إجابته كأنه قال كم طول الخيط! إذ أجاب: "في لحظة ما بين زمن طويل وزمن قصير، هذا ما يعنيه (التعليق) المؤقت"، أما نتنياهو فليس لديه أدنى شك في أنَّ تعليق مخططات الضم سيكون لفترة مؤقتة فحسب.
إذ قال نتنياهو: "تلقينا طلباً بالانتظار مؤقتاً من الرئيس ترامب. هذا تأجيل مؤقت. لم يُزَل (مخطط الضم) من على الطاولة تماماً، وأنا أؤكد لك ذلك". ويعد نتنياهو لاعباً سياسياً بارعاً يخاطب الجمهور المحلي، ومخطط الضم ليس هدفاً مباشراً، بل هو وسيلة تلاعب لتحويل المفاوضات لصالحه.
من جانبه، يبدو أنَّ وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، يلمح إلى أنَّ الإمارات تحاول كسب الوقت، وربما تُقدِّر أنَّ هذا التعليق "المؤقت" سيستمر حتى الانتخابات الأمريكية في نوفمبر/تشرين الثاني. وقال: "نعتقد أنه لا يوجد وقت مناسب أبداً، ولا لحظة مناسبة، لكن في الوقت نفسه إذا حصلنا حقاً على هذا الالتزام منهم، فسيكون مثل نزع فتيل قنبلة موقوتة من على حل الدولتين".
وقت الصفقة مناسب للإمارات، لكن ماذا عن الآخرين؟
يخوض كل من ترامب ونتنياهو انتخابات ويحتاجان أصواتاً. وكلاهما لم يعد أمامه متسع من الوقت لترك إرث، وتعزيز سجلاته المثيرة للجدل بعض الشيء في القيادة. إذ تخيم محاكمة فساد على رأس نتنياهو، ومن المرجح أن تحل على ترامب مشكلات قانونية أيضاً.
وبفضل الصفقة الجديدة، قدَّم ترامب والإمارات لنتنياهو الوسيلة لتغطية جرائمه بقشرة لامعة من النجاح في فتح سوق عربي فاخر أمام صناعة التكنولوجيا والأمن الإسرائيلية.
ولستَ بحاجة إلى النظر لأبعد من الفقرة الثانية في البيان المشترك لترى عبارات تشجيعات متبادلة وعلامات على تضخيم الحدث: "هذا الإنجاز الدبلوماسي التاريخي سيعزز السلام في منطقة الشرق الأوسط، وهو شهادة على الرؤية والدبلوماسية الجريئة للقادة الثلاثة وشجاعة الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل لرسم مسار جديد من شأنه أن يطلق العنان للإمكانات العظيمة في المنطقة".
ماذا عن الفلسطينيين أنفسهم؟
وقد أعرب روبرت أوبراين، أحد مستشاري الأمن القومي لترامب، عن اعتقاده أنَّ ترامب يستحق جائزة نوبل للسلام، لكن ماذا عن الطرف الآخر، الذي لو كان جالساً إلى مائدة المفاوضات، لكانت هذه بحق لحظة تاريخية ذات أهمية إقليمية عميقة. وهم الفلسطينيون.
باختصار، يشعر الفلسطينيون بأنهم بيعوا مرة أخرى. ووصف رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، الصفقة بأنها "عدوان على الشعب الفلسطيني" و"خيانة للقدس".
ويشاركه خصومه الفلسطينيون المتشددون في حركة حماس، موقفه الرافض، وقالوا: "ندين بشدة، وعلى جميع المستويات، التطبيع مع إسرائيل، الذي يُعتبَر طعنة في ظهر القضية الفلسطينية".
والحقيقة هي أنه على الرغم من أنَّ قرقاش قال إنهم ساعدوا على إبقاء فرص قيام دولة فلسطينية على قيد الحياة بعدما كانت مهددة إذا نفذ نتنياهو تهديده بضم أجزاء من الضفة الغربية، فإنَّ الإمارات حقيقةً أكدت غياب الأمل في قيام الدولة الفلسطينية. ولم يعد الفلسطينيون يجذبون المستوى نفسه من الدعم الإقليمي الذي كانوا يحظون به من قبل، مما يعني أنَّ صبر دول الخليج -التي تساعد في تمويل الفلسطينيين- بدأ ينفد.
وتعيد هذه الصفقة تأكيد وجهة النظر الخليجية التي تعتبر القادة الفلسطينيين مشكلة، أو بالأحرى ترى أنَّ فشلهم في التفاوض والقضاء على الفساد هو المشكلة، على الرغم من أنَّ نتنياهو، نظيرهم في المحادثات التي جرت على مدى العقد الماضي، ليس شريكاً مستساغاً. وحتى عندما يلتزمون بالقواعد، فإنَّ التصور السائد في الداخل الفلسطيني هو أنَّ فرصهم في نيل ما يريدون ضئيلة، وهذا بالضبط ما يعززه هذا الاتفاق بدرجة كبيرة.
وأصبح موقف الفلسطينيين، الذي ضعُف تدريجياً بسبب الانقسام والراديكالية، أكثر اهتزازاً مما كان عليه من قبل. لذلك فهم محقون إذا صرخوا وقالوا إنَّ الإمارات أخطأت بحقهم، لأنها فعلت ذلك حقاً، لكن لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت هذه ضربة تحذيرية، يُراد بها إيقاظهم من الغفلة، أم أنها مُصمَّمة لإسقاط هذا الجيل من القادة الفلسطينيين.
ولم يتحدث قرقاش صراحةً عن وقف ضخ الأموال، لكنه يلمح بذلك، إذ قال: "نحن ملتزمون تجاه رؤية دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس، هذا هو التزامنا السياسي. لكن من ناحية أخرى، أعتقد أننا بصفتنا جزءاً من عالمنا كان دعمنا على مدى التاريخ الفلسطينيين سياسياً ومالياً، ومن جوانب أخرى".
إذاً، هل هي صفقة جيدة؟
الرهانات عالية في المنطقة؛ فالعراق أقل استقراراً، وهناك حرب في سوريا، ولبنان في حالة انهيار سياسي، وتشد حرب اليمن أنيابها، وتمد السياسة الخارجية الإيرانية أيديها في كل دولة من هذه الدول؛ سعياً إلى تقويض الاستقرار وتأجيج توترات مع الولايات المتحدة هي محتدمة بالفعل مما يُنذِر بأزمة بين الدولتين.
وإذا لم يكن كل ذلك كافياً لتشجيع الإمارات على التنازل عن خطوة هائلة بالنسبة لهم، فيكفي بالتأكيد خطر المذبحة الاقتصادية المرتقبة في أعقاب جائحة فيروس كورونا المستجد الذي أدى إلى زيادة الهشاشة الإقليمية إلى مستويات أعلى.
وبالنسبة لترامب الذي يتغذى على وعود سياسية قصيرة الأجل، لا تزال الاتفاقية مجرد نية، أو وهم سياسي إلى حين توقيع الاتفاقية رسمياً في غضون 3 أسابيع.
وسيكون الاختبار الذي ينتظر الاتفاق الجديد هو الالتزام بوعود التوقيع على صفقات ثنائية في مجالات "الاستثمار والسياحة والرحلات الجوية المباشرة والأمن والاتصالات والتكنولوجيا والطاقة والرعاية الصحية والثقافة والبيئة" لتحويل بنودها إلى نتائج ملموسة.
لكن نتنياهو باتت لديه مخاوف أقل الآن؛ فقد تغير الموقف العربي المعارض الثابت على شروط إسرائيل، ويقول ترامب إنَّ مزيداً من الدول العربية ستشارك، وحتى لو كنت فلسطينياً، فهذا الاتفاق أفضل من الغرق، حتى لو أفضل بهامش قليل.
لكن إلى متى سينجح جميع الأطراف في الحفاظ على الوضع كما هو عليه؟ قد يعتمد ذلك على الناخبين الأمريكيين ورئيس يتمتع بالفطنة والطاقة والعاطفة لإحداث فرق حقيقي، لكن إن لم يكن ذلك متاحاً، فوضع المياه الراكدة هذا سيكون مناسباً جداً لنتنياهو.
هل خرج أي طرف فائزاً؟
من المؤكد أنَّ الإمارات، بفضل هذا الاتفاق، طغت على شريكها الإقليمي الأكبر، السعودية، دبلوماسياً. واكتسبت بعض النفوذ على الأمن الإقليمي -وإن كان مؤقتاً- مع الحفاظ على بعض الاستقلال عن سياسات ترامب المتشددة تجاه إيران.
وبغض النظر عن الازدراء الذي لاقته الإمارات من الفلسطينيين، فإنَّ الشارع العربي غير معنيٍّ بقوة بهذه الصفقة، لذا فإنَّ التبعات التي سيتعامل معها لا تُذكر.
وفي النهاية، ستكون الصفقة قوية بقدر الفوائد التي تحصل عليها جميع الأطراف، ويبدو أنَّ نتنياهو هو من حصل على نصيب الأسد منها، بفضل وجود ترامب في السلطة.