ارتفعت وتيرة التوتر في شرق المتوسط بصورة لافتة، وأصبحت التصريحات أكثر حدة، مما يُنذر باحتمال خروج الأمور عن السيطرة في أي لحظة، ورغم أن الصراع تركي-يوناني بالأساس، فإن تصعيد فرنسا وإرسالها سفناً وطائرات حربية إلى المنطقة وإعلان إسرائيل دعمها لليونان يقلل من فرص الحوار بين عضوي حلف الناتو، فهل تتدخل واشنطن لنزع فتيل الحرب المحتملة؟
لماذا وصل التوتر لهذه الدرجة الآن؟
بدأ الفصل الحالي من الصراع في شرق المتوسط بعد الإعلان المفاجئ من جانب اليونان عن توقيع اتفاقية لتحديد الصلاحيات البحرية بينها وبين مصر في الوقت الذي كانت ترعى فيه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وساطة بين أنقرة وأثينا للتوصل إلى حل دبلوماسي لأزمة الحدود البحرية بين البلدين، فقامت أنقرة بإرسال السفينة "Oruc Reis -أوروتش ريس" للأبحاث السيزمية لإجراء مسح قبالة ساحل جزيرة كاستيلوريزو.
ثم تصاعدت التوترات بين أنقرة وأثينا، وأعلنت الأخيرة أن وزير خارجيتها دعا لانعقاد مجلس العلاقات الخارجية الأوروبي في جلسة طارئة، في الوقت الذي نشر فيه مركز الدراسات الاستراتيجية البحرية والعالمية التابع لجامعة بهتشه شهير، الذي يترأسه الأدميرال المتقاعد جيهات يايسي، بياناً عن المسألة أكد فيه أن العقوبات التي طالبت اليونان الاتحاد الأوروبي بفرضها على تركيا غير قانونية، وفقاً لما نشره موقع C4 Defense التركي.
والإشارة هنا لمعاهدة نيس التي تم توقيعها عام 2001 ودخلت حيز النفاذ في 2003، وتحول قانونياً دون فرض عقوبات أو تنفيذها من دول الاتحاد الأوروبي على الدول أعضاء الناتو والعكس، وهو ما يعني أن أي عقوبات قد يفرضها الاتحاد الأوروبي على تركيا -عضو الناتو- لن تعترف بها أنقرة ولن ترضخ لها.
ما أصل النزاع التركي-اليوناني؟
الأجواء المتوترة بين تركيا واليونان ترجع لأسباب متداخلة في القلب منها قبرص المقسمة منذ 1974 التي شهدت حرباً بين البلدين، وترجع بداية الفصل الحالي من التوتر إلى نهايات القرن الماضي عندما أظهر المسح الجيولوجي وجود احتياطات كبيرة من الغاز في مياه شرق المتوسط، وقيام قبرص واليونان بالتنقيب دون الأخذ في الاعتبار مطالب أنقرة بالحفاظ على حقوق القبارصة الأتراك وتركيا ذاتها في المنطقة.
وفي هذه النقطة، تفسر تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لب الخلاف بين أنقرة وأثينا بقوله إن "الادعاء بأن جزيرة يونانية مساحتها 10 كم مربع لها الحق بجرف قاري مساحته 40 ألف كيلومتر مربع هو أمر مضحك ولا أساس له في القانون الدولي، وأدعو اليونان مجدداً لاحترام حقوق ومصالح تركيا"، مضيفاً أن "موقف اليونان في بحري المتوسط وإيجه مبني على سوء النية ومطالبتها بالجرف القاري استناداً على جزيرة "ميس" لا يمكن تفسيره بالعقل والمنطق".
اليونان من جانبها تتمسك برفض أي حقوق لجمهورية قبرص التركية من ناحية، ومن ناحية أخرى تعتبر أن حدودها البحرية تبدأ من محيط جزيرة رودس التي تبعد أقل من ميلين بحريين فقط عن شواطئ الأناضول التركية بينما تبعد عشرات الآلاف من الأميال البحرية عن اليونان نفسها، وتتصرف على هذا الأساس، وهو ما ترفضه أنقرة، وهذه النقطة هي جوهر الصراع الحالي وبذرته.
دخول فرنسا على خط الأزمة يُشعل الأمور
وكما هو الحال في أي نزاع بين دولتين، دائماً ما تسعى أطراف أخرى للتدخل، بعضها بهدف تهدئة أجواء التوتر -كما تفعل ميركل على سبيل المثال- والبعض الآخر على سبيل الاستفادة أو تحقيق أغراض خاصة، وهو ما ينطبق على حالة فرنسا بالمقام الأول وإسرائيل أيضاً في الصراع المشتعل حالياً.
فالأربعاء 12 أغسطس/آب، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن فرنسا ستعزز من وجودها العسكري بشرق البحر المتوسط، داعياً تركيا إلى وقف أعمال التنقيب عن النفط والغاز، مضيفاً أن "المياه المتنازع عليها" هي التي أدت إلى تصاعد حدة التوتر مع اليونان.
وكشف مكتب ماكرون أن الرئيس الفرنسي عبّر في اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، عن القلق من قيام تركيا بأعمال استكشاف "أحادية"، مضيفاً أن عمليات التنقيب "يجب أن تتوقف؛ من أجل السماح بحوار سلمي" بين الدولتين الجارتين العضوتين في حلف شمال الأطلسي.
وأرسلت فرنسا اليوم الخميس 13 أغسطس/آب بالفعل طائرة عسكرية وسفينتين حربيتين إلى شرق المتوسط بغية "مراقبة الوضع في المنطقة وإظهار تصميمها على الالتزام بالقانون الدولي"، بحسب البيان الفرنسي.
وجاء الرد من رئيس البرلمان التركي مصطفى شنطوب بالقول إنه على داعمي اليونان ضد تركيا في البحر المتوسط أن يعلموا أن الخطأ لا يمكن إصلاحه بخطأ آخر، مضيفاً في تغريدة أن بلاده مصممة على حماية حقوقها في مياهها الإقليمية.
إسرائيل تعلن دعمها لليونان
ودخلت إسرائيل أيضاً على خط الأزمة الحالية، حيث أصدرت وزارة الخارجية بيانا الثلاثاء 11 أغسطس/آب قالت إن تل أبيب "تتابع عن كثب التوتر الناشئ في شرق البحر الأبيض المتوسط، وتعرب عن دعمها الكامل وتضامنها مع اليونان في مناطقها البحرية، وحقها في تحديد منطقتها الاقتصادية الخالصة".
واليوم الخميس وصل وزير الخارجية اليوناني نيكوس داندياس إلى إسرائيل، وقال الموقع الإلكتروني لصحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية: "من المقرر أن يضع (داندياس) اللمسات الأخيرة على تفاصيل اتفاقية من شأنها أن تسمح للسياح الإسرائيليين بالسفر إلى اليونان، دون الحاجة إلى الحجر الصحي الإلزامي".
ويربط البعض بين الموقف الإسرائيلي الداعم لليونان وبين وعد أثينا السماح للإسرائيليين بالسفر رغم ارتفاع أعداد الإصابات بفيروس كورونا في الدولة العبرية، لكن القصة بالطبع أعمق من ذلك، حيث إن العلاقات بين أنقرة وتل أبيب كانت مقطوعة منذ الاعتداء الإسرائيلي على سفينة مرمرة التركية التي حاولت كسر الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2010، ورغم عودة العلاقات بين البلدين منذ 2016، فإن التوتر الدبلوماسي بينهما قائم بسبب دعم أنقرة المعلن للفلسطينيين، وآخر تلك المواقف هو الرفض القاطع لصفقة القرن التي عرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
عجز أوروبي، فهل تتدخل واشنطن؟
صحيح أن التوتر في شرق المتوسط مستمر منذ سنوات وتجمعت فيه تقريباً جميع القوى الدولية بصورة أو بأخرى، ووصلت الأمور إلى حافة الهاوية أكثر من مرة قبل ذلك وتم تدارك الأمر دبلوماسياً، لكن حدة التصعيد هذه المرة تبدو أكثر خطورة بصورة لافتة، فالسفن الحربية التركية واليونانية متواجدة بالفعل في البحر والآن وصلت أيضاً سفن حربية فرنسية، وبالتالي فإن الأمور قد تخرج عن السيطرة في أي لحظة ولو على سبيل الخطأ.
والخطأ وارد بالفعل ودروس التاريخ ليست بعيدة، حيث اندلعت حروب على خلفية أخطاء لم تكن مقصودة ولا تهدف لإشعال حرب، وهو ما يطرح تساؤلات بشأن كيفية تخفيف حدة التوتر الحالي كخطوة أولى نحو الجلوس إلى مائدة المفاوضات والتوصل لحل جذري لصراع الغاز في شرق المتوسط قبل فوات الأوان.
وفي ظل كون اليونان عضواً في الاتحاد الأوروبي، وتحظى بدعم معلن من فرنسا، رغم اتخاذ ألمانيا موقفاً محايداً بين الطرفين، تتضاءل فرص أن يكون المخرج أوروبياً، فالاتحاد الأوروبي نفسه يعاني من تصدُّعات ضخمة داخل صفوفه، ويرى البعض أنَّ مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي ليست إلا الخطوة الأولى على طريق تفككه في نهاية الأمر.
وقد أثبت الصراع في ليبيا عدم قدرة الأوروبيين على تجاوز الخلافات والمصالح المتناقضة بين أطرافه الفاعلة؛ فقد وقفت فرنسا في صفّ ميليشيات شرق ليبيا بقيادة خليفة حفتر، بينما ساندت إيطاليا حكومة الوفاق المعترف بها أوروبياً ودولياً، وهو ما ساهم في تعقيد الأمور في ليبيا، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن، والأمر نفسه ينطبق على الصراع في شرق المتوسط، حيث لا يوجد موقف أوروبي موحد، بل مصالح متشابكة ومتناقضة في أحيان كثيرة.
وبالتالي تتجه الأنظار الآن إلى حلف الناتو، أو بعبارة أدقّ إلى الولايات المتحدة، قائدة الحلف، من أجل التدخل لنزع فتيل التوتر بين عضوَيِ الحلف تركيا واليونان، قبل أن تحلّ الصواريخ وطلقات المدافع محلَّ الحوار والتفاهم، فواشنطن تمتلك القدرة على ممارسة الضغط على أطراف الصراع بالفعل، وتتمتع بعلاقات جيدة مع تركيا واليونان وفرنسا وإسرائيل أيضاً.
لكن التوقيت ربما لا يكون في صالح الموقف المشتعل حالياً، حيث الرئيس ترامب في خضمّ معركة انتخابية شرسة، لا تبدو فُرصُه فيها جيدة، بحسب استطلاعات الرأي الآن، وبالتالي يرى المراقبون أن تركيزه على الملفات الداخلية (وباء كورونا والاقتصاد والاحتجاجات ضد العنصرية) ربما لا تترك له الفرصة لتدخّل فاعل ومقنع في التوتر المتصاعد في شرق المتوسط.
لكن البعض الآخر من المراقبين يرون أن ترامب قد يلقي بثقل واشنطن الدبلوماسي لنزع فتيل الحرب الوشيكة، والذي سيمثل حال نجاحه فيه ورقة انتخابية لا يُستهان بها، خصوصاً أن التوتر بين واشنطن وإيران يتصاعد حالياً، ولن تريد الولايات المتحدة أن تقع حرب بين عضوين في حلف الناتو، خاصة أن تركيا تمثل القوة العسكرية الثانية في الحلف بعد أمريكا نفسها، نظراً للتداعيات التي لا يمكن حسابها لمواجهة كهذه على المصالح الأمريكية في المنطقة والعالم.