منذ عام 1992، تمثل قضية مسجد "بابري" في مدينة أيوديا الواقعة بولاية أوتار براديش شمال الهند جرحاً كبيراً بالنسبة لملايين المسلمين الهنود، ففي ذلك العام هدمت مجموعات من الغوغاء المتطرفين الهندوس المسجد التاريخي بالمعاول، بدعوة أنه بُني فوق أنقاض لمعبد "للإله رام".
وها هو رئيس الوزراء الهندي نارندرا مودي يزيد جرحهم بوضعه اليوم حجر الأساس لبناء المعبد على أنقاض المسجد الذي ظل الهندوس ينازعون المسلمين عليه مدعين ملكيتهم للموقع منذ عدة عقود، قبل أن تمنحه المحكمة العليا الهندية أخيراً للهندوس، لتضع نهاية لصراع قضائي دام عشرات السنين، وتفتح صراعاً آخر سيقيد نار صدام دامٍ بين الهندوس وأقلية المسلمين، بإذكاء وتشجيع مباشر من رئيس الوزراء المتطرف مودي.
لماذا يفعل مودي ذلك الآن؟
في مشهد مستفز للمسلمين الذين يقيدهم حظر التجول بسبب كورونا، استهل مودي الأسبوع الماضي كلمته بعد وقت قصير من وضعه حجر الأساس للمعبد الهندوسي فوق المسجد المدمر بالقول: "إن الموقع قد تحرر"، وإنه "سيتم تشييد صرح عظيم للإله رام فيه"، مضيفاً أن "الإله رام كان يقيم في خيمة في السنوات العشر الأخيرة".
يصف الأكاديمي خليل توكار بناء المعبد الهندوسي على أنقاض مسجد "بابري" التاريخي بأنه "انتقام من المسلمين، نابع من تعصب قومي، يهدف لاحتواء المسلمين، وتحقيق مكاسب سياسية من خلال ذلك".
ويضيف رئيس قسم اللغة الأوردية وآدابها في جامعة إسطنبول لوكالة الأناضول، أن "التوتر الناتج عن بناء المعبد على أنقاض المسجد التاريخي في الهند، والذي يعود تاريخه للقرن السادس عشر للميلاد، والذي بناه السلطان المغولي المسلم "ظهير الدين محمد بابر" عام 1528، ليس مجرد صراع بين الأديان، إنما هي محاولة من القوميين الهندوس للانتقام من المسلمين، وسحقهم وتحقيق مكاسب سياسية من ذلك".
وجامع بابري الذي تم إنشاؤه في عهد الإمبراطورية البابورية داخل مدينة أيوديها العتيقة، التابعة لمقاطعة "أوطار براديش"، كان محل نزاع بين الهندوس والمسلمين لسنواتٍ طويلة.
يقول توكار: "إذا قيّمنا هذه المشكلة بهذه الطريقة، فيمكننا أن نحلل بدقة أسباب تدمير جامع تاريخي بالمعاول والمطارق بشكل جنوني في غضون عدة ساعات". وزاد "مسجد بابري، الذي بدأ الحديث عنه منذ عام 1885، أصبح أحد أهم روافد خطاب الكراهية والتهميش الذي يستخدمه القوميون الهندوس لزيادة شعبيتهم وقوتهم".
انتقام واضح من المسلمين
"من المؤكد أن مشاعر الهندوس الدينية وخلافاتهم الاجتماعية مع المسلمين هي السبب الجذري لهذا الحادث، ولا يمكننا إنكار ذلك، عندما ننظر إلى مجرى الأحداث، نجد أنه كانت هناك شائعات بأن مسجد بابري تم إنشاؤه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر محل المعبد الذي تم هدمه في المكان الذي ولد فيه الإله الهندوسي رامشاندرا، أو الأكثر شيوعاً رام / راما".
يضيف توكار: "كانت هناك محاولات لإقناع الشعب بهذه الشائعات والخرافات، ولعل نقطة انطلاق التطورات التي أدت إلى هدم المسجد كانت في عام 1992، وهي طموح القوميين الهندوس المتطرفين في اكتساب القوة والاستيلاء على السلطة".
ولم يكن من قبيل الصدفة أن يقوم رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بوضع حجر الأساس لمعبد رام في الأرض الخاصة بمسجد بابري في 5 أغسطس/آب 2020.
إذ يعتبر هذا اليوم هو الذكرى السنوية الأولى لإلغاء المادة 370 والبند (أ) للمادة 35 من الدستور الهندي، بشكل مخالف للقانون، وهو اليوم الذي تم فيه إنهاء الحكم الذاتي لإقليم جامو وكشمير، الواقع تحت السيطرة الهندية، والذي تحول فيه إقليم كشمير إلى سجن كبير لاضطهاد المسلمين.
واعتبر الأكاديمي التركي أن ما فعله رئيس الوزراء الهندي، هو "بمثابة استعراض قوة منه ومن حزبه، حزب بهاراتيا جاناتا (الشعب الهندي)، والذي يدرك جيداً أن سياسة الكراهية والتهميش لها جدوى من الناحية السياسية، وأنه بهذه الطريقة يمكنه البقاء في السلطة في الهند، كما أنه يشكل في الوقت ذاته تهديداً واضحاً لوجود المسلمين الهنود".
غياب الدليل على هدم المعبد الهندوسي
توكار أكد في معرض حديثه أنه "لا يوجد أي سجل تاريخي يثبت هدم معبد رام الكبير من قِبَل المسلمين في مدينة أيوديها، وبناء مسجد مكانه، وأن هذه المزاعم قد تزامنت مع فترة تحريض البريطانيين على الصراع الهندوسي الإسلامي نتيجة لسياساتهم القائمة على مبدأ فرق تسد".
وأردف: "مسجد بابري تم إنشاؤه عام 1528 من قبل مير باقي، بأمرٍ من بابور شاه مؤسس الإمبراطورية الهندية التركية، أو الدولة البابورية، لا يمكن العثور على دلائل بهدم المسلمين معبد رام، لا في أعمال الشاعر الهندوسي تولسيداس، الذي عاش في أيودهيا خلال السنوات التي بُني فيها المسجد، وكتب ملحمة رامايانا، ولا عند الرحالة البريطاني ويليام فينش، الذي زار أيودهيا عام 1611 والتقى برجال دين هندوس وجمع معلومات تاريخية منهم".
يوضح توكار: "هذا يعني أن مسجد بابري قد تم اختياره بشكل مقصود، ولعل إصرار بعض السياسيين في الحزب الهندوسي الحاكم على أن تاج محل، الذي يعتبر أحد الرموز المهمة للهند، بُني على مكان مقدس للهندوس وطلبهم أن يتم هدمه وبناؤه مرة أخرى كمعبد يعد خير دليل على اختيار مسجد بابري كهدف مقصود دون وجود أي دليل تاريخي"، مضيفاً أن "مجموعة من الهندوس تركت تماثيل الآلهة المقدسة لديهم (رام وسيتا) داخل المسجد في ديسمبر/كانون الأول عام 1949، وأُظهر ذلك على أنه معجزة للجمهور واكتسب الحزب السياسي القومي المتطرف بذلك مزيداً من الأنصار له".
سلسلة اضطهاد المسلمين تكتمل والتطرف يتصاعد
وتعتبر هذه الفترة التاريخية من أقسى الحقب التي مرت على المسلمين في الهند برعاية رسمية، فمنذ صعود ناريندرا مودي للحكم منذ عام 2014، يعاني المسلمون من حملات اضطهاد متصاعدة من قِبَل الطائفة الهندوسية المدعومة من الحزب الحاكم، كان آخرها قيام مودي بوضع حجر الأساس لبناء المعبد الهندوسي الذي تزامن مع الذكرى الأولى لإعلان الهند ضم ولاية جامو وكشمير التي تضم أغلبية مسلمة، وإلغاء قانون المواطنة الذي يستهدف المسلمين في البلاد.
وبناء المعبد وضم كشمير، كانت من ضمن وعود قطعها القوميون الهندوس خلال حملة الانتخابات التي حملتهم إلى السلطة في نيودلهي في 2014.
ولا يعرف إلى أين ستصل ذروة هذا التطرف، فيوم الأربعاء، 12 أغسطس/آب 2020، ذكر مسؤول كبير في الشرطة الهندية، أن 3 أشخاص قُتلوا في مدينة بنجالورو جنوب البلاد بعد اندلاع أعمال عنف بين الشرطة والمتظاهرين بسبب منشور مسيء للنبي محمد على فيسبوك. تقارير إخبارية محلية ذكرت أن الاحتجاجات العنيفة شهدت خروج الآلاف إلى الشوارع في ساعة متأخرة من مساء الثلاثاء للتنديد بنشر قريب لأحد الساسة المحليين المنشور المسيء.
ويأتي ذلك في الوقت الذي فاقمت فيه جائحة كورونا معاناة المسلمين هناك خلال الأشهر الأخيرة، بسبب الإغلاقات وحظر التجول الذي استهدفهم خصيصاً بشكل كبير، في الوقت الذي أحرقت بيوتهم ودمرت من قبل الغوغاء الهندوس في أكثر من منطقة خلال أزمة كورونا أبرزها في مدينة دلهي في شهر أبريل/نيسان الماضي، ليتركوا دون مأوى ويقتل العشرات منهم في الشوارع دون أي حماية من الشرطة التي تقمعهم بسبب كورونا، لكن من لم يمُت بكورونا منهم، مات ظلماً وعدواناً.