عندما خرج اللبنانيون إلى الشوارع، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، احتجاجاً على فساد الطبقة السياسية، والذي أدى إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بصورة تفوق الاحتمال، تمسّك رجال السلطة بمناصبهم، وتدهورت الأوضاع إلى الأسوأ، حتى جاء تفجير مرفأ بيروت ليُسقط ورقة التوت الأخيرة عن الدولة الغائبة والفساد المستشري.
المحاصصة الطائفية أصل الحكاية
فمنذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية باتفاق الطائف عام 1989، الذي أسَّس لاقتسام السلطة على أساس الانتماءات الدينية والطائفية، حُكم لبنان بمعادلات سياسية مرتهنة للقوى المتنفذة المحلية أو المرتبطة بجهات إقليمية ودولية.
وأدى هذا الوضع إلى "شبه" غياب لدولة المؤسسات، التي انقسمت بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، في 14 فبراير/شباط 2005، بين قوى "8 آذار"، ويتصدر مشهدها السياسي "حزب الله" والتيار الوطني الحر، وقوى "14 آذار"، بقيادة تيار المستقبل وحزب القوات اللبنانية وحزب الكتائب، بحسب تقرير لوكالة الأناضول.
ويعيش لبنان أزمات متراكمة جراء هشاشة الأوضاع الأمنية وغياب مؤسسات الدولة لصالح قوة الأمر الواقع المفروضة بقوة سلاح "حزب الله" (حليف إيران)، بجانب غياب الدور الرقابي، وتعطيل القضاء، والفساد المالي، وغيره من عوامل حولت البلد إلى بيئة مولِّدة للأزمات ومصدّرة لها إلى دول الجوار، مثل سوريا، التي تعاني من تدخلات "حزب الله" في الحرب الداخلية، حيث يقاتل بجانب قوات النظام.
الأزمة الاقتصادية الأسوأ
يشهد لبنان أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه المعاصر؛ بسبب الفساد وفوائد ديون إعادة الإعمار بعد اتفاق الطائف، والعقوبات الأمريكية على "حزب الله" وعدد من قياداته، وتداعياتها على القطاع المصرفي وأسعار صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية، وأثر كل ذلك على مجمل الأوضاع الاجتماعية والسياسية بالبلاد.
ومنذ 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تشهد العاصمة اللبنانية حراكاً شعبياً احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية والفساد المالي والإداري، مع مطالب بإصلاحات سياسية جذرية.
ولم تستجب الحكومة لهذه المطالب رغم اعتذار المرشح المكلف محمد الصفدي، في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، عن عدم تشكيل الحكومة، وفشل المكلف سمير الخطيب واعتذاره، ثم تكليف رئيس الجمهورية ميشال عون، لحسان دياب، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، بتشكيل حكومة نالت ثقة البرلمان، في 11 فبراير/شباط الماضي.
حزب الله في قفص الاتهام وكذلك إسرائيل
وقبل أن يوجّه إليها أي اتهام بادرت إسرائيل بنفي أي علاقة لها بالانفجار الضخم الذي وقع في مرفأ بيروت، الثلاثاء، وتضاربت الأنباء خلال الساعات الأولى، حول طبيعته وأسبابه، قبل أن تلقي السلطات اللبنانية باللائمة على الإهمال وسوء تخزين نحو 2750 طناً من مادة "نترات الأمونيوم".
وكانت هذه الكمية مخزنة في أحد عنابر المرفأ منذ نحو 6 سنوات، وتحدّثت وسائل إعلام محلية عن أن مسؤولي الجمارك أرسلوا خطابات رسمية إلى الجهات الحكومية المعنية للتخلص منها، وسط تحذيرات بأنها "مادة سريعة الاشتعال"، وتستخدم "نترات الأمونيوم" لأغراض متعددة، زراعية غالباً، لكنها تستخدم أيضاً في صناعة المتفجرات.
ومرفأ بيروت من أكبر وأكثر الموانئ نشاطاً في شرق البحر الأبيض المتوسط، وهو أكبر نقطة شحن وتخليص بحرية في لبنان، وتمر من خلاله قرابة 70% من صادرات لبنان ووارداته، بحسب الموقع الإلكتروني لشركة مرفأ بيروت.
ويتألف المرفأ من 4 أحواض بعمق 24 متراً، إضافة إلى حوض خامس كان قيد الإنشاء، كما يضم 16 رصيفاً ومستودعات وصوامع عديدة لتخزين القمح، حيث يستورد لبنان أكثر من 80% من حاجته من القمح.
وينفي مقربون من "حزب الله" أن يكون الحزب قام بتخزين أي أسلحة أو مواد قابلة للتفجير في المرفأ، مستندين إلى روايات لمسؤولين حكوميين، أجمعوا على أن الانفجار نتج عن حريق بدأ في مخزن لمادة "نترات الأمونيوم"، مخزّنة منذ سنوات، وأن الأسلحة والصواريخ تصل إلى "حزب الله" عبر الأراضي السورية من مخازن ومصانع لتطويرها، يُشرف عليها الحرس الثوري الإيراني، وتعرضت مئات المرات لضربات إسرائيلية.
دولة "حزب الله"
يرى مراقبون للشأن اللبناني أن هناك غياباً للدولة، وأن قرارها مرتهن لـ"حزب الله"، الذي يتحكم بمطار بيروت الدولي، ويسيطر بشكل غير رسمي على جميع أنشطة المرفأ ومعظم المؤسسات المهمة، وعلى أغلب الإدارات التابعة للحكومة. وعادة ما تنفي الحكومة صحة هذه التقديرات.
انفجار الثلاثاء، الذي وصفه رؤساء حكومات لبنانية سابقون بـ"نكبة بيروت"، تزامَنَ مع توترات تشهدها الجبهة الجنوبية بين "حزب الله" وإسرائيل، وإطلاق رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو تحذيراً للحزب، قبل أيام من الانفجار، هدّد فيه بردٍّ "ثقيل" على أي استفزاز مصدره "حزب الله".
وأعقب ذلك تصريح لوزير الدفاع الإسرائيلي بأنه أعطى أوامره لسلاح الجو في المنطقة الشمالية بالردّ الفوريِّ بتدمير بنى تحتية لبنانية، رداً على أي تحرّك معادٍ من "حزب الله"، الغاضب من استهداف إسرائيل لعناصر له في سوريا.
وأسقط انفجار بيروت نحو 140 قتيلاً وحوالي خمسة آلاف جريح، وهي حصيلة رسمية غير نهائية مرشحة للزيادة، في ظل الإصابات الحرجة ووجود عشرات المفقودين تحت الأنقاض، ووفقاً لمحافظ بيروت، مروان عبود، فإنَّ الانفجار شرَّد ما لا يقل عن 300 ألف شخص من أصل نحو 750 ألفاً، هم عدد سكان العاصمة.
وتواجه الحكومة اللبنانية تساؤلات مهمة من قطاعات واسعة من الشعب اللبناني عن الإهمال وتجاهل الاستجابة لطلبات إدارة الجمارك في المرفأ، لنقل هذه المواد المتفجرة بعيداً عن العاصمة.
ونشرت مواقع إخبارية تصريحاً لمدير مرفأ بيروت، حسن قريطم، تحدَّث فيه عن علم المسؤولين بوجود مواد خطرة قبل الانفجار، عبر خطابات رسمية موجَّهة من سلطة الجمارك والأمن العام لإزالة تلك المواد، لكن من دون أي استجابة طيلة 6 سنوات.
الحكومة في قفص الاتهام
رغم تعهّد الحكومة اللبنانية بمحاسبة المسؤولين عن كارثة الثلاثاء، فإن اللبنانيين يحملونها مسؤولية الانفجار، مع مطالبات بمحاسبة مَن تسبَّبوا بشكل ما بهذه الكارثة، خاصة المسؤولين الذين شغلوا مناصب حكومية على صلة بشحنة "نترات الأمونيوم" منذ وجودها في المرفأ.
وبرزت دعوات إلى تحقيق دولي لتحديد المسؤولين عن الانفجار، في تطور يرى محللون أنه يعكس عدم الثقة في الحكومة وقدراتها، كما أعلن النائب عن "اللقاء المشترك"، مروان حمادة، اعتزامه الاستقالة من البرلمان، ودعا رئيس الجمهورية إلى الاستقالة.
ودعا رئيس الحكومة السابق، سعد الحريري، إلى تحقيق شفاف، بمشاركة دولية، لتحديد أسباب الانفجار، حيث تحيط "شكوك بمكان الانفجار وتوقيته".
ويبدو أن الحريري يشير بالتوقيت إلى موعد إصدار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان حكمها في قضية اغتيال والده، رئيس الحكومة الأسبق، رفيق الحريري، عبر تفجير ضخم استهدف موكبه في بيروت، عام 2005، حيث أعلنت المحكمة، الأربعاء، تأجيل النطق بالحكم من 7 إلى 18 أغسطس/آب الجاري، احتراماً لضحايا انفجار بيروت، ومراعاةً لإعلان لبنان الحداد لمدة ثلاثة أيام.
رب ضارة نافعة
لكن ربما ينتج أمر إيجابي عن التفجير المرعب، حيث أعلنت دول العالم تضامنها مع لبنان، واستعدادها لتقديم مساعدات، وصل بالفعل الكثير منها بعد ساعات من الانفجار، وبينها مستشفيات ميدانية وطواقم طبية وأدوية.
وأعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أن هجوماً بقنبلة كان وراء الانفجار الكارثي في بيروت، وفق إفادات بلغته من عسكريين أمريكيين كبار. وهو ما يناقض تماماً رواية السلطات اللبنانية، التي لم تعلّق على تصريح ترامب، ومن المتوقع أن يتعرَّض القطاع الاقتصادي والحركة التجارية في لبنان إلى أزمات إضافية بعد الانفجار، الذي من المحتمل أن يخلق نقصاً في السلع الأساسية؛ بسبب تلف المواد المخزنة في المرفأ، وهو موقع التخزين الأكبر في لبنان للحبوب والمواد الغذائية والدواء وغيرها.
وتشير تقارير إلى أن المرفأ يضم صوامع تخزين لأكثر من 85% من القمح، ولدى لبنان بعد الانفجار احتياطيات من القمح تكفي لأقل من شهر واحد، وهي أقل من الحد الأدنى لضمان الأمن الغذائي الأساسي، وهو ثلاثة أشهر، حسب تصريح لوزير الاقتصاد والتجارة راؤول نعمة، الأربعاء.
ومن المرجَّح أن ينعكس انفجار بيروت إيجاباً على الأوضاع الاقتصادية القاتمة، بعد تعهُّدات صندوق النقد الدولي ودول عديدة، بينها الولايات المتحدة، بتقديم مساعدات امتنعت عن تقديمها سابقاً بسبب العقوبات الأمريكية.
وربما يُقدم ترامب على تخفيف هذه العقوبات، ولو مؤقتاً، حيث تُقدَّر خسائر لبنان الأوَّلية جرَّاء الانفجار بـ15 مليار دولار، بحسب محافظ بيروت، وما زال يحتاج لبنان لأكثر من 90 مليار دولار لإعادة إعماره؛ جراء الخراب الذي حلَّ به بسبب الحرب الأهلية، رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على نهايتها.