تفجير بيروت أودى بحياة أكثر من 137 شخصاً وأصاب الآلاف وما زال بعض الضحايا تحت الأنقاض، ودمر شريان الاقتصاد الرئيسي للبنان المنكوب، جاء كتذكير مرير بمساوئ نظام الحكم القائم على المحاصصة، وهو النظام نفسه المتبع في العراق أيضاً، فكيف تغذي المحاصصة الطائفية الفساد لهذه الدرجة؟ وهل حان الوقت لهدم ذلك النظام من الأساس؟
انتفاضة شعبية ضد الطائفية والمحاصصة
عندما اندلعت الاحتجاجات الشعبية في لبنان يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ضد فساد الطبقة الحاكمة الذي وصل إلى حد لم يعد ممكناً تحملُّه، كان أبرز عناوين تلك الاحتجاجات ومطلبها الرئيسي هو رحيل جميع رموز الحكم بلا استثناء "كلن .. يعني كلن"، وإلغاء نظام المحاصصة الطائفية في تشكيل الحكومة ونظام الحكم.
وكان لافتاً أن تندلع احتجاجات مماثلة في العراق، رافعةً الشعارات نفسها تقريباً، حتى أصبح هتاف "من التحرير لبيروت.. ثورة واحدة ما بتموت" (من ساحة التحرير في بغداد إلى بيروت.. ثورة واحدة لن تموت)، معبّراً عن تطابق الوضع في البلدين العربيين من حيث نظام الحكم القائم على المحاصصة الطائفية.
ففي لبنان، ومنذ اتفاق الطائف عام 1989 والذي تم الاتفاق خلاله على إنهاء الحرب الأهلية التي عانت منها البلاد منذ 1975، تم تقسيم المناصب الرئيسية في الدولة على أساس طائفي؛ فرئيس الجمهورية ماروني مسيحي ورئيس البرلمان مسلم شيعي ورئيس الحكومة مسلم سني، وتتم الإشارة إليهم بالرئاسات الثلاث، وكان لافتاً أن توقيع الاتفاق تم في المملكة العربية السعودية- الداعم للطائفة السنية- وبحضور إيران الداعم لحزب الله الذي أصبح القوة الشيعية الرئيسية، رغم أن حركة أمل الشيعية برئاسة نبيه بري كانت أيضاً تحظى بوجود قوي.
وتم الاتفاق على أن تجرى الانتخابات البرلمانية بالطريقة نفسها، أي المحاصصة الطائفية، ومن ثم يختار البرلمان رئيس الجمهورية ويسمي رئيسَ الحكومة، وتولى نبيه بري رئاسة البرلمان منذ تطبيق اتفاق الطائف ولا يزال في منصبه حتى اليوم، بينما تناوب على رئاسة الجمهورية المحددة بمدتين، كل منها ست سنوات، أكثر من رئيس وصولاً إلى العماد ميشال عون، الرئيس الحالي.
وعندما اندلعت الاحتجاجات أو الثورة الشعبية، كان المشهد الأبرز فيها هو ظهور علم لبنان واختفاء أعلام الطوائف والأحزاب، وتركزت المطالب على إلغاء المحاصصة وتشكيل حكومة تكنوقراط تضم الكفاءات بعيداً عن الانتماءات الطائفية، بغرض التصدي للفساد المستشري الذي أصبح الابن الشرعي لنظام المحاصصة وتسبب في إهدار موارد الدولة واقترب لبنان من شفا الإفلاس.
وفي العراق، كانت الصورة كأنها طبق الأصل من حيث المطالب والهتافات، لكن الدم في العراق كان أكثر غزارة؛ لوجود ميليشيات الحشد الشعبي متعددة الانتماءات والتي تسيطر على المشهد على الأرض بصورة شبه تامة، في غياب كامل للدولة ومؤسساتها والتي تسيطر عليها المحاصصة الطائفية كما هو الحال في لبنان؛ فالعراق أيضاً به رئاسات ثلاث: رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان وأيضاً بنظام المحاصصة.
الفساد.. الابن الشرعي للمحاصصة الطائفية
يعتبر الارتباط بين المحاصصة والفساد ارتباطاً عضوياً ينمو مع الوقت وتزداد شراسة الفساد وتتسع رقعته، فالاختيار هنا لا يقوم على الكفاءة في مجال التخصص بقدر ما يقوم على الانتماء الطائفي والحزبي، ومن ثم يكون ولاء المسؤول للطائفة أو الحزب وليس للمصلحة الوطنية كما هو الحال في نظم الحكم الديمقراطية.
وما كارثة تفجير مرفأ بيروت إلا مثال صارخ على ما وصل إليه الفساد في لبنان بعد نحو ثلاثة عقود من زرع بذرة الفساد كنتيجة طبيعية لتطبيق نظام المحاصصة الطائفية في تشكيل الحكومة بالبلاد.
فالعد التنازلي للمأساة في بيروت المنكوبة قد بدأ قبل أكثر من ست سنوات، عندما وصلت سفينة شحن متهالكة تحمل على متنها أكثر من 2750 طناً من نترات الأمونيوم، وتعددت الروايات بشأن القنبلة الموقوتة التي انفجرت الثلاثاء 4 أغسطس/آب، مدمرة مرفأ بيروت ونحو ربع أحيائها السكنية، وأودت بحياة أكثر من 150 شخصاً وأصيب الآلاف، وهي حصيلة غير نهائية بوجود مزيد من الضحايا تحت الأنقاض وفي عداد المفقودين.
وقررت الحكومة فتح تحقيق رسمي في الكارثة، شكك المعسكر المعارض في جديته وطالبوا بتحقيق دولي، بينما خرج مدير المرفأ ومسؤول الجمارك يلقيان باللائمة على أحد القضاة، لترد أطراف أخرى مؤكدةً أن القاضي رفض طلبات من مسؤولي المرفأ للإفراج عن الشحنة دون موافقة الجهات المختصة، وبين الروايات ونظريات المؤامرة تتوه الحقيقة وتستمر الحياة ولا أحد يلقى عقاباً مناسباً لدوره في كارثة بهذا الحجم، والسبب هو أن كل موظف مهما كان صغيراً ينتمي إلى حزب أو طائفة تحميه وتدافع عنه دفاعها عن وجودها ذاته.
وقد تناول تحقيق لصحيفة نيويورك تايمز هذه الدائرة الجهنمية من تبادل الاتهامات بعنوان "تفجير بيروت يبدأ من سفينة متهالكة"، تحدّث خلاله قبطان السفينة البالغ من العمر 70 عاماً، وعدد من المسؤولين في المرفأ والحكومة واللبنانية، والحقيقة الواضحة التي تبدو واضحة للعيان هي أن الفساد والبيروقراطية والإهمال في لبنان قد وصل لقاع لا يمكن تخيله أو تصوره.
وعندما واجهت "نيويورك تايمز" المدير العام لمرفأ بيروت "حسن قريطم" بما توصلت إليه من وجود شبهات فساد تتعلق بالشحنة التي انفجرت وتسببت في الكارثة، جاء رده غاضباً ورفض الإجابة، متعللاً بأن "هذا ليس وقت توجيه اللوم فلدينا كارثة وطنية"! مع العلم أن مدير المرفأ يشغل منصبه منذ سنوات طويلة، كما أن القاضي الذي اتهمه قريطم أظهر مراسلات تشير بأصابع الاتهام إلى المدير العام للمرفأ ورجاله، على أساس أنهم أرادوا بيع الشحنة لصالحهم، بحسب الصحفي رياض قبيسي في برنامجه، الذي عرض من خلاله تلك المراسلات.
حلقة في سلسلة طويلة
تفجير بيروت ليس سوى الحلقة الأحدث في سلسلة ممتدة من الأزمات والكوارث التي نتجت عن المحاصصة الطائفية والحزبية في لبنان والعراق، كأبرز مثالين بهذا السياق، فملف الكهرباء في لبنان وحده يحمل رائحة تزكم الأنوف وكم من قضايا تم رفعها بشأن أشخاص حققوا ثراء فاحشاً من عقود وقعتها الحكومة معهم لإمداد شركة الكهرباء العامة بالوقود أو أشخاص يقيمون مولدات خاصة يبيعون من خلالها الكهرباء للمواطنين بأسعار باهظة وأيضاً بعقود حكومية، وعلى الرغم من الثورة الشعبية التي شهدتها البلاد منذ ما يقرب من عشرة أشهر، فإن شيئاً لم يحدث على أرض الواقع، في مؤشر لافت على مدى تجذُّر الفساد والبيروقراطية.
فمنذ نهاية الحرب الأهلية، تمثل الكهرباء مشكلة رئيسية، وهذا جعل منازل كثيرة تعتمد على مولدات كهرباء أو على أصحاب مولدات خاصة، ومع عجز محطات الكهرباء التي تديرها الدولة عن توفير الطاقة اللازمة للمواطنين، ظهرت المولدات الخاصة التي أصبحت عملاً تجارياً مربحاً للغاية، حيث يتقاضى أصحابها رسوماً باهظة كي تظل بضعة مصابيح مضاءة أو لاستمرار عمل الأجهزة المنزلية أثناء انقطاع الكهرباء اليومي المعتاد الذي يمكن أن يستمر لساعات.
وعلى الرغم من أن الاتهامات بالفساد في ملف الكهرباء تحديداً تطارد رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل والتي وصلت إلى حد قيام الوزير السابق أشرف ريفي بعقد مؤتمر صحفي عام 2018، عرض فيه ما سمَّاه "بواخر جبران باسيل"، مسمياً إياه "الفاسد الأول في الجمهورية اللبنانية، وبواخره تصلح لأن تدخل كتاب غينيس لجهة حجم الفساد"، وقال: "اضطررت إلى أن أعرض أمام الرأي العام بعض نماذج الفساد الأسود لباسيل، لأن القضاء لم يستمع إليَّ".
وفي العراق أيضاً لا يختلف الأمر؛ بل ربما يكون أسوأ بكثير، على اعتبار أن العراق بلد غني بالنفط ويشتهر بالزراعة فهو بلد الرافدين دجلة والفرات، ورغم ذلك فقد اندلعت الانتفاضة الشعبية فيه، بسبب انتشار البطالة بين سكانه وتدني مستوى الخدمات الأساسية من تعليم وصحة وصرف صحي وكهرباء ومياه شرب وغيرها، بعد أن تحولت البلاد إلى دويلات تسيطر عليها الميليشيات المسلحة التي تتحكم في أرزاق المواطنين وتضع أجندة العمل للسياسيين.
السلاح لحماية المحاصصة.. ومن ثم الفساد
من المهم هنا التوقف عند قصة المحافظة على الوضع الراهن باستخدام قوة السلاح وهو ما ينطبق على البلدين بصورة لافتة، مع اختلافات بسيطة في تفاصيل المشهد؛ ففي العراق وبعد الغزو الأمريكي والإطاحة بنظام صدام حسين هناك إجماع على أن واشنطن سلمت العراق لإيران على طبق من فضة، ثم جاءت الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) منذ أواخر 2014، ليتم تسليح الحشد الشعبي بصورة كبيرة وهو الحشد الذي يدين في معظمه بالولاء لإيران، وتم تأسيس حزب الله العراقي على غرار حزب الله في لبنان.
أما في لبنان، فإن حزب الله يرفع شعار "سلاح المقاومة" ضد إسرائيل، بحكم دوره في إجبار إسرائيل على إنهاء احتلالها جنوب لبنان، لكن منذ اغتيال رفيق الحريري عام 2005- المتهم فيه حزب الله نفسه- وانقسام لبنان- المقسمة على أساس طائفي من الأصل- إلى معسكري" 8 آذار" بقيادة حزب الله، ومعسكر "14 آذار" بقيادة تيار المستقبل السني، أصبح سلاح حزب الله لاعباً أساسياً في إدارة الأمور الداخلية في لبنان، غرضه الحفاظ على الوضع الراهن القائم على المحاصصة الطائفية وتكريسه.
وعن طريق السلاح تم التصدي للاحتجاجات الشعبية وإسقاط مئات القتلى وآلاف الجرحى في العراق، والأمر نفسه في لبنان وإن بصورة أقل دموية لأسباب متعددة، ليفشل الحراك في تحقيق أي من مطالبه وتسير الأمور من سيئ إلى أسوأ في ظل استمرار المحاصصة، ومن ثم استمرار الفساد الذي يهدر موارد الدولتين؛ بل يودي بحياة المواطنين دون أن يبدو أن هناك هناك جهة تمتلك القدرة أو حتى الرغبة في الحساب.
ويرى نشطاء الحراك الشعبي في البلدين أن المخرج الوحيد من الكوارث المتلاحقة التي تلمُّ بالبلدين هو التخلص نهائياً من نظام المحاصصة الطائفية وإرساء قواعد الدولة المدنية القائمة على مبدأ قانون واحد يسري على جميع المواطنين؛ ومن ثم تفعيل دور الأجهزة الرقابية وتأكيد استقلاليتها بغرض مراقبة عمل الجهاز التنفيذي للدولة، ولا بد بالطبع أن يتركز السلاح في يد جيش وطني واحد، مهمته حماية حدود الدولة، وهو ما يبدو حلماً بعيد المنال، بحسب مراقبين.