في الوقت الذي تكرس دول العالم فيه جهودها للوصول إلى علاج فعال للوقاية من فيروس كورونا المستجد، يحاول بعض الأشخاص التربص بهذه المحاولات، سعياً لاستغلال أي أمل قد يلتف حوله المصابون بالفيروس بحثاً عن النجاة.
في الأسابيع القليلة الماضية، أعلنت وزارة الصحة المصرية عن إنتاج عقار "رمدسيفير" برعاية شركة "إيفا فارما" ليكون أول عقار مصري، يتم توزيعه على مستشفيات العزل الصحي فقط، ويحظر بيعه بالصيدليات أو تداوله بين المواطنين دون إشراف الأطباء المسؤولين عن متابعة الحالات المصابة بفيروس كورونا.
من هنا ظهرت أياد خفية، استطاعت الحصول على هذا العقار في ظل غياب رقابي من الجهات المعنية حول الأمر، ليبدأوا في ترويجه على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة بأسعار باهظة للغاية، معتمدين في ذلك على صعوبة الحصول عليه دون الخضوع للعلاج داخل مستشفيات العزل الصحي، و بعيداً عن أعين وزارة الصحة.
بدأت تجربة عربي بوست بالبحث عن عقار "رمدسيفير" في مجموعات سرية على "فيسبوك"، كان يُعرف عنها ترويج العقاقير النادرة للمواطنين مقابل مبالغ مالية كبيرة، ومؤخراً اعتمد مؤسسو تلك المجموعات السرية على ترويج العقاقير الخاصة بكورونا، لثقتهم في الحصول على أموال عديدة من خلال بيعها.
وما إن كتبنا أول منشور على أحد هذه المجموعات في "فيسبوك"، نطلب من خلاله توفير عقار "رمدسيفير" في أسرع وقت ممكن، تواصل معنا عدد من المتاجرين بعقاقير كورونا بطرق غير شرعية، لكننا صدمنا حين وجدنا البعض يملك كميات كبيرة منه، فكيف تم تهريبها وإخراجها من مستشفيات العزل الصحي؟
أسبوع كامل من المفاوضات أجريناها مع بائعي "رمدسيفير"، وأثناء التفاوض اكتشفنا أنهم صيادلة، فقمنا بإجراء العديد من الاتفاقات المسجلة معهم على شراء كميات كبيرة من العقار، بتكلفة تجاوزت 30 ألف جنيه أي ما يقارب 2000 دولار أمريكي، وكشفنا أيضاً طرق حصولهم على هذه العقاقير من خلال تنسيقهم مع أشخاص داخل المستشفيات، يجلبون لهم العبوات في سرية تامة.
30 ألف جنيه للعبوة
لم يكن الحصول على كميات كبيرة من عقار "رمدسيفير" سهلاً كما توقعنا في بداية الأمر، لكن الإصرار على شراء هذه الكمية جعلهم يتحركون، ويجولون جميع الأماكن الممكنة للحصول على ما نريد، ويجرون اتفاقات عديدة مع أشخاص مجهولين داخل مستشفيات العزل لتوفير الكمية المطلوبة.
كانت البداية مع سمسار يدعى "م.ن"، أخبرنا في أول محادثة على تطبيق "واتساب" بعد أن أرسل إلينا رقمه للتواصل، أنه استطاع الحصول على عبوة واحدة من عقار "رمدسيفير" قبل أيام قليلة، وابتاعها منه أحد الأشخاص المصابين بفيروس كورونا مقابل 30 ألفاً.
طلبنا منه توفير 30 عبوة من عقار "رمدسيفير"، وتفاجأ حينها من الرقم المطلوب، فأكد أن الأمر أشبه بالمستحيل لكنه قادر على توفيره في غضون أيام، وبالفعل عاد إلينا مجدداً بعد يومين ليبلغنا أنه استطاع الحصول على ثلاث عبوات من العقار، وأرسل إلينا صورتها للتأكد من أن حديثه محل ثقة.
وتبين في الصورة أن إنتاج العقار كان في شهر يونيو/حزيران الماضي، إذًا فهي من ضمن الشحنة التي أرسلتها شركة "إيفا فارما" لمستشفيات العزل في الفترة الأخيرة التي أعلنت أخبارها.
"العلبة فيها 10 حقن وثمنها 30 ألف جنيه"، هذه هي الاتفاقية الأولى التي أجريناها للحصول على عقار "رمدسيفير"، وأراد التاجر حينها أن يبيع لنا ثلاث عبوات منها فقط لضمان مصداقيتنا في شراء العقار قبل تورطه في شراء الكمية الكبيرة التي طلبناها في المرة الأولى.
واتضح بعد ذلك أنه لم يستطع الحصول على الكمية المطلوبة بسبب عدم توافرها بين السماسرة والمروجين لعقاقير كورونا، لأن الشركة المنتجة لم تصدر سوى شحنة واحدة فقط لمستشفيات العزل الصحي حسب قوله، وهذه الكمية هي التي استطاع توفيرها في الوقت الحالي، مؤكداً أنه سوف يسعى لتوفير المزيد خلال الفترة القادمة، لكننا أوقفنا التواصل معه حتى لا نتسبب في حثه على فعل يخالف القانون.
صفقة بـ200 ألف جنيه
وللتأكد من مدى انتشار التجارة في عقار "رمدسيفير" أو عدمها، تواصلنا مع أشخاص آخرين على صفحات التواصل الاجتماعي السرية، أشهرها مجموعة تدعى "التبرع بالأعضاء"، والأخرى تدعى "محمد للأدوية".
وقد تخصصت هذه المجموعات في بيع عقاقير كورونا بأسعار مضاعفة للرسمية منها، واكتشفنا من خلالها تورط صيادلة في هذه تلك العمليات المشبوهة، بعدما زرنا حساباتهم الشخصية على "فيسبوك"، وأجرينا معهم اتصالات هاتفية، ولم ينكروا خلال الحديث معهم أنهم صيادلة.
وعلى إحدى هذه المجموعات سألنا أحدهم عن عقار "أكتميرا" الذي روج له على صفحته الشخصية بسعر 12 ألف جنيه أي ما يقارب 750 دولار، وسرعان ما أرسل إلينا رقم هاتفه للتواصل على تطبيق "واتساب"، لكننا فضلنا إجراء اتصال هاتفي مسجل لنثبت تورطه في بيع العقاقير الخاصة بكورونا.
وأثناء الحديث أخبرناه بحاجتنا لشراء كمية من عقار "رمدسيفير"، فأكد لنا بلهجة الواثق: "هذا الدواء لا يمكن لأي شخص عادي أن يصل إليه، لكنني سوف أوفره لك، بشرط أن توفر المبالغ المطلوبة".
بعد 3 أيام، تواصل معنا التاجر الأول مرة أخرى هاتفياً، بعد أن أرسل صورة للعقار عبر تطبيق "واتساب"، مؤكداً أنه استطاع الحصول على 8 عبوات من عقار "رمدسيفير" بمساعدة أحد العاملين بمستشفيات العزل الصحي، وشدد على ضرورة السرية التامة، حتى لا نتعرض للمسائلة القانونية.
وعن طريقة التسلم، أخبرنا أن الرجل الذي يساعده في توفير العقاقير الخاصة بفيروس كورونا سيكون متواجد في الموعد المحدد، وستجرى المقابلة داخل مكتب أدوية خاص به في منطقة رمسيس، على أن يكون سعر العقار الواحد من "رمدسيفير" قدره 25 ألف جنيه، والمبلغ الإجمالي 200 ألف جنيه.
طبيب أسنان.. والتسلم دليفري
وبالبحث المتواصل وراء سمسارة عقاقير كورونا، كشفنا وجود شبكة كبيرة للتجارة في الأدوية داخل السوق السوداء، يقودها مجموعة من الأطباء بحثاً عن المال.
إحدى المجموعات السرية على "فيسبوك" تخصصت في توفير كل ما له علاقة بالوقاية والعلاج من فيروس "كورونا"، رصدناهم يتفاوضون مع ذوي المرضى لشراء هذه العقاقير مقابل أسعار خيالية، وكان أحدهم يعرض عقاقير مختلفة يعاني سوق الدواء المصري من نقص شديد فيها، فهم يجمعونها بطرق غير شرعية ويبيعونها بأسعار مضاعفة.
تواصلنا مع التاجر الثالث بحجة أننا نريد شراء عقار "أكتيمرا" الذي عرضه بسعر وصل 15 ألف جنيه، وفي منتصف حديثنا طلبنا منه توفير 30 عبوة من عقار "رمدسيفير"، وتفاجأ حينها من الكمية المطلوبة وظن أننا نجمعها لنتاجر بها، حتى أقنعناه أننا نشتريها لمصابين ومرضى من أقاربنا يحتاجون لعقار "رمدسيفير".
أكد لنا التاجر خلال الاتصال المسجل أنه كان يملك عبوة واحدة من عقار "رمدسيفير" قبل أيام قليلة، وباعها لأحد المصابين مقابل 30 ألف جنيه، وأنه يحصل على العبوات من خلال شخص معين يعرفه هو، قادر على تهريب العقار من داخل مستشفيات العزل الصحي، واكتشفنا بعد ذلك أن هذا الشخص يعمل كطبيب أسنان حين تواصلنا معه شخصياً لتوفير الكمية المرادة من "رمدسيفير".
استيقظنا في اليوم التالي على اتصال هاتفي من طبيب الأسنان الذي يدعى "أ.م"، ليستفسر منا على طلبنا المحدد حول عقار "رمدسيفير"، وحين طلبنا منه 30 عبوة أكد لنا أن هذه الكمية الكبيرة ليست متوفرة بالسوق السوداء، ومن الصعب توفيرها في الوقت الحالي، خاصة أن الشركة المنتجة لم توزع سوى شحنة واحدة من العقار على مستشفيات العزل الصحي.
بعد ذلك أرسل إلينا الطبيب صورة على تطبيق "واتساب" لـ 7 عبوات من عقار "رمدسيفير"، وأكد أن هذه الكمية فقط هي المتاحة حالياً على أن يقوم بتوفير المزيد خلال الفترة القادمة، وخفض لنا سعر العبوة الواحدة ليصل إلى 27 ألف جنيه رغم أنه عرضها في البداية بأكثر من 30 ألف في البداية لرغبته في أن يبيع لنا كمية كبيرة.
عاد إلينا الوسيط مجدداً بعد أن أجرينا الاتفاق مع الطبيب على الكمية والسعر، ليخبرنا بطرق التسلم، وطلب منا إرسال موقع تواجدنا "اللوكيشن" على تطبيق "واتساب"، حتى يرسل لنا مندوباً عنه يحمل الدواء "رمدسيفير"، ويتسلم منا المبلغ المتفق عليه، وشدد على السرية التامة وحذرنا من دخول أي طرف ثالث في هذه العملية حتى لا نقع تحت طائلة القانون.
نقابة الصيادلة تتوعد المتورطين
انتهينا من إثبات فرضية التحقيق، لنتجه إلى المختصين حول الأمر، وتوضيح الإجراءات القانونية الواجب اتخاذها ضد المتورطين في سرقة عقار "رمدسيفير" من مستشفيات العزل الصحي وبيعها في السوق السوداء.
سألنا الدكتور أحمد أبو طالب، عضو نقابة الأطباء والخبير الدوائي، فوصف هذه التجارة بالمشبوهة، مؤكداً أنها جريمة كاملة بكل ما تحمله الكلمة، ويجب التصدي لها على الفور، من خلال تقديم بلاغات للنقابة في الصيادلة بأسماء المتورطين في بيع عقار "رمدسيفير" وأي عقار يخص فيروس كورونا، خاصة على منصات التواصل الاجتماعي.
"ويؤكد أبو طالب أن البلاد تعاني من أزمة مرضية وأخلاقية في نفس الوقت وأن هؤلاء الأشخاص المحتالين لم يراعوا مشاعر المصابين بفيروس كورونا، ويعبثون بأملهم الوحيد في الوصول إلى طريق للشفاء، ليستغلوا مرضهم ويروجوا لهم العلاج بأسعار باهظة، في غياب الجهات الرقابية عن الأمر.
أما عن الإجراءات القانونية تجاه الصيادلة المتورطين في سرقة عقار "رميدسفير" لبيعه بالسوق السوداء، أكد "أبو طالب"، أنه فور إثبات تورطهم في الجريمة يتم تحويلهم إلى المجالس التأديبية بالنقابة وشطبهم على الفور من عضويتها.
وفي حالة تسبب الدواء المباع لفقدان روح أحد المواطنين يجب تحويلهم إلى المحاكم القضائية الجنائية لينالوا عقابهم ويكونوا عبرة لكل من سولت له نفسه أنه قادر على استغلال الأزمة التي تشهدها البلاد.
جريمة حقوقية وأخلاقية
ويؤكد الدكتور محمد عز العرب، المستشار الطبي للمركز المصري للحق في الدواء، أن التجارة في هذا العقار محرمة قانونياً وأخلاقياً، وعقوبتها تكون بالحبس والغرامة المالية الكبيرة.
ويشير إلى أن "عقار" رميدسيفير لا يبلغ سعره هذا المبلغ الطائل الذي يتم بيعه به على صفحات التواصل الاجتماعي، وأن هذه الجريمة الإنسانية يجب أن تتوقف بأسرع شكل قبل تفاقمها، وتسببها في خسارة العديد من أرواح المواطنين.
لأن تناول العقار يجب أن يتم تحت إشراف طبي وداخل مستشفيات العزل فقط، كما أوصلت وزارة الصحة المصرية بالتعاون مع شركة إيفا فارما المنتجة الوحيدة للعقار في مصر"، بحسب "عز العرب".
وحذر "عز العرب" المصابين بفيروس كورونا المستجد أو ذويهم من التعامل مع السماسرة أو الصيادلة المتورطين في بيع عقار "رميدسفير" على صفحات فيسبوك، ولا يعطوهم الفرصة لاستغلالها وبيع الدواء بهذه الأسعار الباهظة.
كما حذر أيضاً من احتمال أن تكون هذه العقاقير مغشوشة وغير صالحة للاستخدام، وقال: "هناك مافيا لغش الدواء في مصر يتعدون إنتاج عبوات تشبه الأصلية منها لكن ما بداخلها لا يمت لها بصلة"..
العقار للحالات المستعصية فقط
من جانبه، شدد الدكتور عبدالرحمن خيري، طبيب في مستشفى المعلمين للعزل الصحي بمنطقة الزمالك، على أن عقار "رميدسفير" ممنوع تناوله إلا بعد إجراء فحوصات طبية معينة وبعد أن تثبت حاجة المريض لتناوله.
فهو ليس علاجاً لفيروس كورونا كما يعتقد البعض، ويروج السماسرة على صفحات التواصل الاجتماعي، لكنه يعمل على تقليل أيام العزل الـ14.
وأكد "خيري" أن الشحنة التي تم توزيعها من عقار "رميدسفير" على مستشفيات العزل محدودة للغاية، وأن الكمية المسروقة منها لن تكون كبيرة، لكن الخطورة تكمن فيما هو قادم، لأنه سيحدث كما حدث في المرة الأولى، وكما حدث أيضاً في العقاقير الأخرى المتعلقة بفيروس كورونا.
واختتم الطبيب حديثه مناشداً بضرورة الرقابة على المستشفيات خلال الفترة القادمة، وعدم ترك هذه العقاقير أمام أي شخص من العاملين، حتى لا يتم تسريبها كما يحدث حالياً، منوهاً إلى الأعراض الجانبية التي يتسبب فيها "رميدسفير" في حالة تناوله بشكل عشوائي ودون إشراف طبي داخل مستشفيات العزل.
لا رد رسمي
قبل إجازة التحقيق للنشر حاولنا مراراً الحصول على إفادة رسمية من وزارة الصحة المصرية، لنعرض عليها ما لدينا من معلومات، ونستطلع رأي الجهة الرسمية الأهم في هذا الحدث، وكررنا الاتصال بالدكتور خالد مجاهد المتحدث باسم وزارة الصحة إلا أنه لم يجب علينا حتى وقت نشر التحقيق.
كما حاولنا الاتصال بالدكتور عصام القاضي وكيل لجنة الشؤون الصحية بمجلس النواب، لنعرض عليه ما لدينا ونستطلع رأي البرلمان في هذه الوقائع الخطيرة بصفته الجهة المسؤولة عن التشريع ومحاسبة المسؤولين، إلا أنه أيضاً لم يجب على اتصالاتنا وأسئلتنا.