“الإيغوري المثالي” منفتح ويعمل بجد.. لكنه لا يزال غير آمن من معسكرات “تغيير العقيدة” الصينية

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2020/07/22 الساعة 09:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/07/22 الساعة 09:53 بتوقيت غرينتش
احتجاجات لأجل الإيغور في إقليم هونغ كونغ، أرشيفية/ رويترز

بحسب المعايير الرسمية الصينية، تعد ديلارا بكل تأكيد واحدة من "الأقليات المثالية"، إذ إنها لا ترتدي الحجاب، وهي منفتحة بشكل كبير وتخالط في كثير من الأحيان أصدقاءً صينيين كما تقول لصحيفة The Guardian البريطانية. وإذا أغلق أحد الصينيين عينيه وسمعها وهي تتحدث لغة الماندراين الصينية فلن يتخيل أنها ذات عينين خضراوين وشعرٍ بني، أو أنها ليست من شعب الهان -المجموعة العرقية المهيمنة في الصين- وأنها بدلاً من ذلك مسلمة من الإيغور الذين يتحدثون بلغة الترك، والذين يصفون إقليم شينغيانغ، في أقصى غرب الصين، بأنه وطنهم.

وفي واقع الأمر، يعد جميع أفراد عائلة ديلارا "مواطنين مثاليين" كما تريد الحكومة الصينية. يتحدث أبواها الصينية بطلاقة، وهو شيء غير اعتيادي للإيغور من أبناء جيلهما. خلال تسعينيات القرن الماض كانا من بين عدد قليل من الإيغور الذين عملوا في منشأة حكومية كبيرة في أورومتشي، عاصمة إقليم شينغيانغ. حصلت أمها على هذه الوظيفة المطلوبة لأنها كانت أفضل طالبة في مدرستها، التي كان جميع طلابها تقريباً من أبناء الهان. وتربت ديلارا بين أبناء الهان الصينيين في مجمع سكني حديث بإحدى المناطق الجذابة في المدينة. ومثل أمها كانت أفضل طالبة في المدرسة، وانضمت إلى جامعة مرموقة على الساحل الشرقي للصين.

زيارة تركيا جريمة!

لكن ديلارا ارتكبت خطأً. انتقلت الفتاة إلى تركيا مع زوجها في 2015. وزارتها أمها هناك، وظلت معهم لمدة عام كي تساعدها في رعاية رضيعها، وعندما عادت أمها إلى الصين في 2018 أُبلغت بأنها في حاجة إلى "التعليم". صودر جواز سفرها، وسُجنت في معسكر اعتقال لحوالي عام. قالت ديلارا: "جميع أصدقائي الإيغور في تركيا لديهم أقارب في المعسكرات".

منذ عام 2017، احتُجز ما يصل إلى 1.8 مليون من الإيغور والمسلمين الآخرين داخل ما يصفه الباحث أدريان زينز بأنه "ربما أكبر مكان احتجاز لأقلية عرقية دينية منذ الهولوكوست". اعتُقل كثير من هؤلاء لأسباب تافهة، مثل ارتداء الحجاب أو إعفاء اللحية، أو رفض تناول لحم الخنزير، أو السفر إلى الخارج، مثلما هو الحال في حالة والدة ديلارا. بحسب ديلارا كثير من هؤلاء صودرت ممتلكاتهم.

وقد قدَّم محامون أدلةً إلى المحكمة الجنائية الدولية للمطالبة بإجراء تحقيق مع مسؤولين صينيين بارزين، ومن بينهم الرئيس الصيني تشي جين بينغ، لارتكابهم جرائم إبادة جماعية ضد الإنسانية، وفرضت الولايات المتحدة عقوبات ضد مسؤولين صينيين بارزين، ما دفع الصين للردّ عليها بالمثل، بينما قالت بريطانيا إنه من الواضح أن هذه الأقلية عانت "من انتهاكات حقوقية فظيعة".

حتى لو كنت إيغورياً مثالياً فلن ترضى عنك الصين

وبرغم زيادة الاحتجاجات الدولية، تزعم الحكومة الصينية أن معسكرات الاعتقال ليست إلا "مدارس لتعليم اللغات ومراكز مهنية تجلب تنمية اقتصادية لهذه المنطقة الفقيرة". وتزعم الحكومة كذلك أن "سياساتها القاسية في شينغيانغ ضرورية للتصدي للإرهاب الإسلامي"، مستشهدة في تبريرها بحوادث عديدة مميتة في السنوات السابقة نفذها أشخاص من أبناء الإيغور.

بيد أن تجارب عائلة ديلارا وأصدقائها تدحض هذه الادعاءات. مثلما حدث مع والدة ديلارا، كان كثير من الأشخاص الذي اعتُقلوا من الإيغور المتعلمين المنفتحين، ومن أصحاب "الياقات البيضاء" الذين يحصلون على رواتب جيدة. كان هؤلاء معلمين وموظفي مكاتب وأطباء ومحامين يتحدثون الصينية بطلاقة، وفي كثير من الحالات لم يكونوا ملتزمين كلياً بشعائرهم الدينية، بل إنهم النماذج المثالية جداً ممن يوصفون بـ"الأقليات المنسجمة"، التي تدّعي الحكومة أنها تؤسسها، لكنهم لم يسلموا حتى من بطشها.

"نحن نحب الصين، ولسنا قوماً سيئين"

بينما كانت شهور العام 2018 تمر من دون معرفة أي شيء عن مكان أمها، زاد قلق ديلارا. حذف أقاربها أرقامها من هواتفهم، وانتقل أحد الغرباء من أبناء الهان، ويبلغ من العمر 85 عاماً، إلى منزل جدتها، في إطار حملة مراقبة ابتُعث بموجبها أكثر من مليون مواطن صيني ليحتلوا منازل الإيغور. علمت ديلارا لاحقاً أن جدتها كانت تسبّ الرجل كل يوم باللغة الإيغورية، التي لا يستطيع فهمها. قالت ديلارا: "لم تكن خائفة، لأنها عجوز جداً".

وفي نهاية المطاف، بعد حوالي عام كامل، تلقت ديلارا رسالة من خالتها قالت فيها: "لقد خرجت". تعمل ديلارا وزوجها في شركات صينية في تركيا، وكانا يرسلان خطابات نيابة عن عائلاتهما يقولان فيها "نحن نحب الصين، لسنا قوماً سيئين، ولسنا إرهابيين".

منذ إطلاق سراحها تتواصل ديلارا وأمها بانتظام عبر تطبيق WeChat الصيني. تبدو الحياة طبيعية على نحو غريب، فتمتلئ بالثرثرة عن الأحفاد والطعام -فقدت أمها 10 كيلوغرامات داخل المعسكر- لكنها ليست عادية برغم ذلك. فقد صودر جواز سفر أمها، ولا تجرؤ ديلارا على العودة إلى الصين.

على مدى أشهر تالية لإطلاق سراحها، توجب على أمها حضور احتفالات أسبوعية لرفع العلم داخل المعسكر، والوقوف في صمت بين صفوف الإيغور الآخرين. وفي كل مرة تنشر فيديو لهذه الاحتفالية على تطبيق WeChat. قالت ديلارا وهي تسحب هاتفها وتدخل إلى حساب أمها: "في كل يوم إثنين لعين، تنشر احتفال رفع العلم". وتردد بينما تمر إلى أسفل الصفحة عبر المنشورات العديدة التالية: "احتفال رفع العلم".

تدرك ديلارا أن هناك موضوعات كثيرة جداً تتجنب أمها الحديث عنها، لأن شرائح هواتفهم قد تكون مراقبة. ولا تشعر أمها بالأمان إلا عندما تقول شيئاً إيجابياً عن المعسكرات، إذ تفاخرت بأنها كانت أفضل طالبة هناك، وكانت تحصل على درجات عالية في الاختبارات الشهرية المتعلقة بـ"أفكار تشي جين بينغ" وعقيدة الحزب الشيوعي.

"لا يصدقونني"

أكثر ما يزعج ديلارا -وما يضطرها للحديث- أن أصدقاءها الصينيين من شعب الهان لا يعرفون ما يحدث. خلال العام الذي اعتُقلت فيه أمها حاولت أن تخبر زملاءها عن المعسكرات، لكنهم "كانوا يقولون دوماً: كلا، لا بد أنك مخطئة"، وذلك حسبما توضح. تدفع لها الشركة التي تعمل فيها مقابل زيارات إلى الصين كل بضعة أشهر، وفي كل مرة يسألها زملاؤها عن سبب عدم عودتها إلى الوطن هي الأخرى. وقالت عن هذا: "أظل أخبرهم أننا غير قادرين على العودة، لكنهم لا يصدقونني".

حتى هذه اللحظة، تعتقد ديلارا أنها إيغورية وصينية؛ إذ إن الهويتين غير متعارضتين في نظرها. ففي المحادثات العادية تقول إنها صينية. وتذهب مع أصدقائها الإيغور إلى المطاعم الصينية، وتعشق الشعرية الصينية، وتحلم كذلك بأن تكون قادرة على العيش في شنغهاي، أكثر مدينة مفضلة بالنسبة إليها في العالم.

ولكن عندما تتذكر الماضي تدرك أن الحكومة لا تعدها صينية، وقد علمت هذا عندما كانت في الـ19 من عمرها خلال رحلة إلى شنغهاي مع صديقة من الجامعة. عندما حاولتا دخول الفندق، قال لهما موظف الاستقبال: "أعتذر منكما، لا نقبل مكوث أشخاص من شينغيانغ هنا". وفي هذا الوقت لم تكن تعرف ديلارا شيئاً عن السياسة التي تمنع الإيغور وأبناء التبت من حجز غرف في الفنادق. حاولتا نفس الأمر في ثلاثة أماكن أخرى، لكنهما رُفضتا في كل مرة. 

وفي الواحدة من صباح اليوم التالي، بينما كانت كلتاهما مرهقة، وجدت ضابط شرطة، أجرى ضابط الشرطة عدة مكالمات هاتفية ووجد فندقاً باهظ الثمن مملوكاً لأجانب، ووافق على السماح ببقائهما ليلة واحدة. وفي غرفتهما بكت كلتاهما، تذكرت ديلارا ما حدث وقالت: "يؤلم هذا بشدة، جعلونا نشعر كأننا مجرمتان. وبسؤالها عن ضابط الشرطة أوضحت: "قال لنا: يجب أن تغادرا هذا المكان".

تحميل المزيد