يخوض محافظوا إيران مساراً لا هوادة فيه، من أجل أن يحظوا بسيطرةٍ سياسية لا نزاع فيها. كان انتصارهم في انتخابات فبراير/شباط 2020 البرلمانية خطوةً حاسمة في هذا المسار. وإذا فازوا بالرئاسة في مايو/أيار 2021، كما يُتوقَّع على نطاقٍ واسع، فسوف تضعهم شراكتهم القوية بالفعل مع المرشد الأعلى علي خامنئي في موضعٍ جيِّد لبسط نفوذهم على الصراع العصيب من أجل اختيار خليفته. باختصار، قد يُقال إن المحافظين يتمتَّعون حالياً بموقفٍ هو الأكثر تميُّزاً، كما يقول موقع Responisble Statecratf الأمريكي للدراسات الاستراتيجية.
غير أن قبضتهم مُتصاعدة الإحكام على السلطة محفوفةٌ أيضاً بمخاطر جمَّة. وفي الحقيقة، قد تُضعِف جهودهم الآليات المؤسَّسية نفسها التي يحتاجها النظام من أجل كسب -أو إعادة كسب- الدعم في الدوائر الانتخابية الرئيسية. وعلى الجبهة الإقليمية، تجنَّبَت إيران حتى الآن التورُّط في حربٍ إقليمية مع الولايات المتحدة أو إسرائيل. لكن سياستهم لـ"التصعيد المحكوم" لم تُحصِّن طهران من خطواتٍ انتقاميةٍ من أعدائها. وبالفعل يوضِّح الحريق الذي نَشَبَ في محطة نطنز لتخصيب الوقود، في 2 يوليو/تموز، هذه المخاطر، بعدما أقرَّ القادة الإيرانيون بأن الواقعة لم تكن حادثةً.
وإذا كانت الواقعة قد مَنَحَتهم هدنةً، فربما صَقَلَ حريق نطنز عزمهم، ليس فقط من أجل توطيد سلطتهم، وإنما أيضاً لتغيير طبيعة النظام السياسي الإيراني نفسه. ويتمثَّل التحدي القابع أمامهم في التأكُّد من أن التكاليف لن تتجاوز المنافع التي يأمل المحافظون حصادها بينما يتقدَّمون بهذا المشروع الطموح من أجل إعادة تشكيل السياسة الإيرانية.
فخُّ التحوُّل إلى نظامٍ أمني
من العديد من الجوانب، فإن هذه القبضة على السلطة لا تخدم نظام السيطرة مُتعدِّد الأبعاد الذي استخدمه قادة إيران بذكاءٍ من أجل منع أيِّ معارضةٍ من تشكيل تهديدٍ كبير على نظام الحكم. وهذا النظام مدعومٌ بجهازٍ أمني هائل تتصدَّره قوات الحرس الثوري الإيراني وفروعه. ولقد فضَّلَ حكَّام إيران الاعتماد على عددٍ لا يُحصى من المؤسَّسات، من ضمنها البرلمان، والرئيس، ومكتب المرشد الأعلى، من أجل الفصل في النزاعات الاجتماعية والسياسية. عادةً ما كان اللجوء إلى العنف الرهيب ملاذاً أخيراً، من النوع الذي مورِسَ حين أثبَتَت هذه المؤسَّسات عجزها عن احتواء أو إقصاء المعارضة. ولم تكن القوة مثل تلك التي استُخدِمَت ضد المتظاهرين العام الماضي إشارةً إلى نجاح النظام، بل إلى ضعفه.
كان هذا هو السبب نفسه الذي أدَّى إلى توسُّع قوى ونفوذ الحرس الثوري الإيراني في أعقاب كلِّ جولةٍ من المعارضة بالداخل، أو التحدي الأمني في الخارج. غير أنه إذا كان الحرس الثوري قد استغلَّ الكوارث من أجل منفعته، فإن إيران لم تنجح قط في التحوُّل من جمهوريةٍ إسلامية إلى نظامٍ بقيادةٍ عسكريةٍ مثل النظام في مصر، أو الأنظمة المُدارة عسكرياً التي هيمنت على تركيا وباكستان لعقودٍ من الزمن. إن الانتقال إلى نظامٍ "أمني" من شأنه أن يحرم الحرس الثوري الإيراني (والمرشد الأعلى) من الدرع السياسية التي يكتسبها من نظامٍ يسمح بدرجةٍ من النقاش الحقيقي والمنافسة المحكومة، لكنه مَنَحَ البرلمان الخاضع لسيطرة الدولة أو الصحافة الوسيلة لتقويض النظام نفسه.
اتَّضَحَ فخُّ التحوُّل إلى نظامٍ أمني في الفترة التي سبقت الحركة الخضراء في العام 2009، وما تلاها من توسُّعٍ لسلطات الحرس الثوري. وبدا انتخاب الرئيس حسن روحاني في 2013 مُبشِّراً بعودةٍ إلى نظامٍ أكثر توازناً -وإن كان غير عادلٍ- تضمَّن برلماناً سعى من داخله الإصلاحيون للدفع نحو إصلاحاتٍ اقتصادية واجتماعية.
لكن سلطة روحاني قُوِّضَت برفض إدارة ترامب الاتفاق النووي عام 2015، والمآسي الاقتصادية المتنامية التي تصاعدت جزئياً من جرَّاء إعادة فرض العقوبات، وسلسلة الاحتجاجات الشعبية (التي قُمِعَت آخر حلقة فيها بوحشيةٍ من قِبَلِ النظام في ديسمبر/كانون الأول 2019)، والتفشي السريع لفيروس كورونا المُستجَد في ربيع 2020. هذه العاصفة المُكتمِلة من الأحداث نصبت مسرحاً من أجل توسُّعٍ جديدٍ لنفوذ الحرس الثوري الإيراني داخل المؤسَّسات السياسية الرئيسية، وضمنها البرلمان. ويمتدُّ الخطر إلى ما هو أبعد من ذلك الجهاز، لأن الحرس الثوري يُضخِّم من مؤسَّساتٍ أخرى بطرقٍ قد تدفع إيران إلى مقربةٍ من التحوُّل إلى نظامٍ أمنيٍّ بشكلٍ كامل.
حسن روحاني ومحمد جواد ظريف يواجهان العزلة
مَنَحَت انتخابات البرلمان الجديد في فبراير/شباط الماضي، دفعةً كبرى للمُتشدِّدين. وقد تأكَّدت قبضتهم على البرلمان بانتخاب محمد باقر قاليباف رئيساً لهذا البرلمان. حَصَدَ عمدة طهران السابق، والقائد السابق لسلاح الجو بالحرس الثوري والذي عمِل أيضاً قائداً للشرطة من 1999 إلى 2005، 230 صوتاً بعدما ترشَّح لمنصب رئيس البرلمان، وهو ما يشير إلى أن الأعضاء الـ290 الجدد في البرلمان ليسوا بالكامل تحت هيمنة مسؤولي الحرس الثوري، لكن بعضهم أيضاً يتبعون جهاز الأمن القوي.
أكَّدَت الزيارة غير السارة لوزير الخارجية محمد جواد ظريف للبرلمان، في الخامس من يوليو/تموز، الحقائق الجديدة التي تواجهه هو والرئيس روحاني وكلَّ الإصلاحيين الذين نظروا قبلاً إلى الرئيس وحلفائه باعتبارهم منارةً للتغيير والإصلاح.
أصرَّ ظريف، بينما كان المُتشدِّدون يقاطعونه بهتاف "الموت للكاذب"، على أن سياسته الخارجية -التي لم يكن أقلها التفاوض بشأن خطة العمل الشاملة المشتركة- حظيت دوماً بدعمٍ ثابتٍ من المرشد الأعلى. ورغم أن هذا الادِّعاء قابلٌ للجدال، من الجدير بالالتفات إليه أن الاستجواب القاسي الذي خَضَعَ له ظريف لم يدر حول فشل جهوده في إنقاذ خطة العمل الشاملة المشتركة بقدر ما ارتبط بالجهود غير المسبوقة للحكومة في دفع الشراكة الاستراتيجية مع الصين. وهذه الشراكة، التي أمَرَ بها روحاني، قائمةٌ على عقدٍ مدته 25 عاماً جرى التفاوض عليه سراً. ورغم أن أوراق الاعتماد الديمقراطية التي حَصَلَ عليها أعضاء الحرس الثوري الذين هاجموا ظريف تحوم حولها التساؤلات بالتأكيد، فإن هذا لم يمنعهم من اتِّهام وزير الخارجية بالعمل "من وراء ظهر الأمة". وحين تحيَّنوا الفرصة، قدَّم 200 عضو برلماني مشروع قرارٍ بإقالة روحاني.
ومن غير المُحتَمَل على الإطلاق أن يسمح خامنئي بأن تمضي هذه العملية قُدُماً، إذ إنها خطوةٌ تمنح حلفاءه المُتشدِّدين فرصةً من أجل إحراج روحاني، لكن الخطوة القاسية المُتمثِّلة في إطاحة رئيس مُنتَخَب أمرٌ آخر. قد ترتد مثل هذه الخطوة من خلال الحشد الشعبي ودعم النخبة لروحاني وحلفائه الإصلاحيين العديدين، مِمَّا يحوِّل الساحة السياسية بطرقٍ قد تقوِّض فرصة المُتشدِّدين للظفر بالرئاسة في مايو/أيار 2021. إن صعودهم يعتمد على ألا تتمادى أيديهم في مثل هذه الأمور.
الاستراتيجية المزدوجة للحرس الثوري الإيراني
تؤكِّد الواقعة المُشار إليها أعلاه أيضاً، أن المحافظين يعتمدون استراتيجيةً ذات شقَّين. يتضمَّن الشقُّ الأول التوسُّع الاستثنائي للنفوذ المؤسَّسي والأيديولوجي للحرس الثوري الإيراني إلى بعض أكثر القطاعات التي لطالما اعتمد عليها النظام في شرعيته الشعبية. ولقد صعَّبَت الأزمة الاقتصادية المتنامية في إيران -والتي يدل عليها بصورةٍ أكبر الانهيار المتواصل لقيمة الريال الإيراني- على النظام استخدام استراتيجية طويلة الأمد حاوَلَ من خلالها احتواء الثِقَل السياسي للطبقة الوسطى المدينية من خلال توجيه الدعم الاقتصادي إلى المزارعين، والمسؤولين الحكوميين، والعمال الصناعيين في بلدات وقرى إيران الريفية. لكن ما يثير الغضب بوضوح لدى النظام، رغم (أو بسبب) قمعه لاحتجاجات ديسمبر/كانون الأول 2019، أن النظام لا يزال يواجه إضراباتٍ واحتجاجات من شأنها أن توطِّد -رغم تبعثرها- احتمالات جولة أخرى من المقاومة الأوسع نطاقاً.
وفي محاولةٍ لردع أو احتواء الاحتجاجات المستقبلية، وسَّع النظام على نحوٍ كبير، دور الحرس المحلي التابع للحرس الثوري الإيراني. وامتدَّت هذه الحملة إلى ما هو أبعد من الجهود الكبرى للنظام لإنماء شبكات الدعم القاعدي في المحافظات الريفية. وما يخشاه المُتشدِّدون -لسببٍ غنيٍّ عن التوضيح- هو تدهور الدعم الشعبي في القطاعات كافة للأسس الثيولوجية للجمهورية الإسلامية، وللتصدي لذلك وسَّع الحرس الثوري نفوذه إلى النظام التعليمي، بدايةً من مرحلة الروضة وصولاً إلى التعليم الجامعي. تتضمَّن هذه الجهود إنشاء مؤسَّساتٍ للتعليم العالي يمكن أن يلتحق الطلاب بها دون الخضوع لاختبارات قبول يخوضها طلابٌ إيرانيون آخرون من أجل الدخول إلى الجامعات الحكومية. وهكذا أسَّسَ الحرس الثوري بديلاً مُحيِّراً: تعليمٌ موازٍ مُصمَّم من أجل تعزيز الالتزام الأيديولوجي بالتوازي مع إمكانية التقدُّم الوظيفي في القطاعات الاقتصادية الواقعة تحت سيطرة الحرس الثوري نفسه أو المرتبطة به.
ولدعم مثل هذه الإجراءات، كافَحَ الحرس الثوري من أجل بسط سيطرته على الفضاء الإلكتروني. ولا تتضمَّن هذه الجهود قمع المعارضة على الإنترنت فحسب، بل أيضاً استخدام الفضاء الإلكتروني من أجل تجنيد المؤيِّدين على الشبكة العنكبوتية. هذا التحوُّل الأمني يحمل معه إمكانيةً لسيطرةٍ أكبر على إحدى المساحات التي كانت حاسمةً في تمديد النقد والفِكر المستقل.
يتمثَّل الشقُّ الثاني للاستراتيجية المزدوجة للمُتشدِّدين، في تعزيز وتوسيع قدرتهم على ممارسة السلطة والنفوذ على المؤسَّسات السياسية الرسمية. ويمثِّل هذا معضلةً واضحة، لأن جهود المُتشدِّدين من أجل إقصاء القوى السياسية البديلة قد تؤدِّي في نهاية المطاف إلى حرمان مؤسَّساتٍ مثل البرلمان من أيِّ سلطةٍ شعبيةٍ أو حقيقية. وهكذا فإنهم يواجهون مهمةً صعبةً متمثِّلةً في محاولة استخدام المؤسَّسات السياسية دون تفريغها من مضمونها إلى درجةٍ تنتفي فيها أهميتها العملية.