مع وصول مفاوضات سد النهضة الإثيوبي إلى مراحل متقدمة من التعقيد، وصف كثيرون مواقف الحكومة السودانية بأنها متقلّبة وغير مستقرة على وجهة محددة، وأن مواقفها من شركاء القضية متباينة، فهي تارة تبدو أقرب إلى مصر وتدعم موقفها، وتارة تقترب من إثيوبيا لتحقيق مصلحة ما، وأخرى تظهر في دور الوسيط بين الطرفين.
فما هي مخاطر سد النهضة على السودان؟ وما هي المكاسب التي قد تجنيها من السد إن تقاربت مع إثيوبيا؟
خاصة في ظل التصريحات التلفزيونية التي أدلى بها وزير الطاقة السوداني المكلف خيري عبدالرحمن عن اتفاق بين الخرطوم وأديس أبابا بموجبه سيحصل السودان على ٣٠٠٠ ميغاوات من الكهرباء الناتجة عن السد.
انهيار السد وحديث المخاطر
عزا كثيرون تباين المواقف السودانية في المفاوضات إلى اختلاف آراء المسؤولين الحكوميين وخبراء المياه حول تأثيرات سد النهضة على هذا البلد الذي يضم مشروع "الجزيرة" الزراعي، وهو أكبر المشاريع المروية نظام الري الإنسيابي، فمنهم من يرى أن إنشاء السد سيكون خصماً من السودان، ومنهم من يرى عكس ذلك.
وحذرت المجموعة المدنية السودانية ــ وهي رابطة تضم مختصين في شؤون المياه بجانب قيادات شعبية وأهلية ـــ من مخاطر وصفتها بـ"الكبيرة" على السودان جراء قيام سد النهضة، وذلك قبل أيام من قمة استثنائية مرتقبة للاتحاد الإفريقي، لحسم الخلاف بين إثيوبيا ومصر والسودان.
وقالت المجموعة في بيان صحفي، الخميس الماضي، إن انهيار سد النهضة وارد بنسبة كبيرة تصل إلى 100%، وإن انهياره بعد ملء البحيرة يعني فناء السودان النيلي من الوجود.
لأن طوفان الانهيار ــ إن وقع ــ سيعادل قوة الفيضان الذي وقع عام 1988م أكثر من 120 مرة، ذلك الفيضان الذي دمر أجزاء واسعة من السودان، ونوّه البيان إلى أن بحيرة سد النهضة تفوق بحيرة سد سنار السوداني، بأكثر من 200 مرة.
ولفتت المجموعة إلى أن سد النهضة يُقام داخل مناطق بني شنقول السودانية التي تحتلها إثيوبيا، وأنه يبعد حوالي 15 كلم من المناطق السودانية المأهولة بالسكان، وأشارت إلى أن ذلك يرفع درجة المخاطر المترتبة على بناء السد، خاصة أنه يُقام في أرض تحتمل حدوث الزلازل.
واستدلت المجموعة بتقرير فني، قالت إنه صادر من لجنة الخبراء الدولية ومن معهد ماسشتوشس الأمريكي للتكنولوجيا (MIT)، ونوّهت إلى أن التقرير حذّر من مخاطر ناتجة عن سد النهضة، وأنه أوصى بضرورة الاحتكام إلى المكتب الاستشاري الفرنسي حول أمن السد، وهو ما رفضته إثيوبيا.
وأكدت المجموعة المدنية أن دراسة أمريكية أُجريت في ستينيات القرن الماضي خلُصت إلى أن إقليم بني شنقول لا يحتمل أكثر من 11 مليار متر مكعب من المياه، في حين أن سعة سد النهضة المعلنة من إثيوبيا تبلغ 74 مليار متر مكعب، وقالت إن ذلك سيجعل السد معرّضاً للانهيار بسبب هشاشة التربة، ما قد ينتج عنه آثار سلبية خطيرة ومدمرة على السودان.
وكانت مجموعة من نشطاء السلام (PAG) بولاية النيل الأزرق، الحدودية مع إثيوبيا، نظمت في فبراير/شباط الماضي، وقفة احتجاجية، أمام مكتب رئيس الوزراء في الخرطوم، وسلَّمته مذكرة تطالب بوقف التفاوض حول سد النهضة الإثيوبي، ومحاسبة وفد التفاوض السوداني، وإقالة وزير الري الدكتور ياسر عباس.
فوائد السد ومزايا التقارب
في مقابل ذلك، عددت الحكومة السودانية الفوائد المترتبة على قيام سد النهضة، واعتبرت أن المحاسن من قيامه أكبر من المضار وأكثر من المخاطر.
وشدد عضو الوفد السوداني في مفاوضات سد النهضة، بروفسور محمد عثمان عكود، على أن إدارة سد النهضة بشكل فني متوافق عليه سينهي الفيضانات المدمرة التي كانت تضرب السودان من فترة إلى أخرى.
كما أنه يقود لتعدد الدورات الزراعية، ويقلل كميات الطمي التي كانت تصل السودان، وتعرقل عمليات الري في بعض القنوات والترع الرئيسية، على حد قوله.
وقال عكود لـ"عربي بوست" إن سد النهضة سيقود إلى استقرار منسوب النيل على المدى الطويل، ويضبط جريان المياه بالمنسوب العالي ويجعله ممتداً على مدار العام وليس فقط خلال الأشهر الثلاثة المعتادة من كل سنة.
وأكد عضو الوفد السوداني أن تشغيل سد النهضة بصورة آمنة سيُحسّن الملاحة النهرية في السودان، ويجعلها منتظمة على مدار العام، ويساعد في التغذية المتواصلة للمياه الجوفية المرتبطة بالنيل الأزرق ونهر النيل أيضاً.
وكان وزير الطاقة السوداني المكلف، خيري عبدالرحمن، أكد أن تشغيل سد النهضة سيؤدي إلى ارتفاع منسوب المياه في النيل الأزرق ونهر النيل، وأشار إلى أن ذلك سيعود بفائدة كبيرة على السودان، من خلال زيادة إنتاج الكهرباء من السدود الحالية، أو بناء سدود جديدة، أو شراء الكهرباء من إثيوبيا بأسعار قليلة.
وكشف خيري عن اتفاقية بين السودان وإثيوبيا بموجبها سيحصل السودان على ٣٠٠٠ ميغاوات من الكهرباء الناتجة عن السد.
وفي موازاة حديث خيري، فإن خبير المياه بروفسور سلمان محمد أحمد سلمان، قطع بأن سد النهضة سيتيح للسودان الحصول على كهرباء بتكلفة مالية منخفضة من إثيوبيا، مؤكداً أن فوائد سد النهضة للسودان تفوق فوائد السد العالي لمصر.
وقال سلمان، وهو أحد الذين كلفهم رئيس الوزراء السوداني دكتور عبدالله حمدوك، بكتابة خطة داعمة للوفد الحكومي في المفاوضات، إن سد النهضة سيعدد الدورات الزراعية في السودان.
وهو ما يساعد الحكومة السودانية في استرداد سُلفة المياه التي تقدمها لمصر من نصيبها في النيل، بموجب اتفاقية عام 1959م الموقعة بينها.
ومنحت اتفاقية عام 1959م، حصة سنوية من مياه نهر النيل، لمصر تبلغ 55.5 مليار متر مكعب، بينما خصصت للسودان 18.5 مليار متر مكعب.
وتقول الحكومة السودانية إن 6.5 مليار متر مكتب من حصتها تذهب سنوياً إلى مصر، بسبب ضيق مصارف التخزين الحالية.
مواقف سودانية متباينة
منذ بداية التفاوض حول سد النهضة، ظلت الخرطوم متهمة بأن موقفها من القضايا المفصلية والخلافية في المفاوضات، يتحدد بناءً على الطقس السياسي العام، فهي تبدو أقرب إلى الموقف الإثيوبي إذا كانت علاقتها السياسية عامرة بالاستقرار مع أديس أبابا.
وتبتعد عنها وتتجه شمالاً، إذا كانت علاقتها السياسية مع القاهرة أكثر استقراراً، وذلك ما جعل الكثير من المراقبين على قناعة بأن الخرطوم تتعامل مع سد النهضة كما لو أنها وسيط، وليست جزءاً من القضية.
ويرى أستاذ العلوم السياسية بالجامعات السودانية، دكتور عثمان المرضي، أن النظام البائد ظل يتعامل مع قضية سد النهضة من منظور سياسي وليس من منظور فني واقتصادي.
وقال المرضي لـ"عربي بوست" إن الرئيس المعزول عمر البشير ظل يدعم الموقف الإثيوبي، طمعاً في دعمها له ضد المحكمة الجنائية الدولية، التي أصدرت مذكرة توقيف في حقه بتهم ارتكاب جرائم إبادة وجرائم حرب في دارفور.
ولفت أستاذ العلوم السياسية إلى أن إثيوبيا دولة ذات تأثير كبير على مجلس الاتحاد الإفريقي وعلى الدول الإفريقية، ولهذا راهن عليها البشير في معركته مع المحكمة الجنائية الدولية.
حيث نجحت إثيوبيا في خلق اصطفاف إفريقي مع البشير ضد الجنائية، حتى الإطاحة به من السلطة في الحادي عشر من أبريل/نيسان 2019م، بثورة شعبية انحاز لها الجيش السوداني.
واستغرب المرضي من موقف الحكومة السودانية الانتقالية، ووصفه بأنه متقلّب ويتبدل وفقاً لمجريات السياسة والعلاقات الخارجية وسياسة المحاور، لافتاً إلى أن العسكريين في الحكومة الانتقالية يدعمون الموقف المصري، مستدلاً بالزيارات المتكررة لرئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان، ونائبه الفريق أول محمد حمدان حميدتي، إلى القاهرة.
وأوضح المرضي أن العسكريين في مجلس السيادة استطاعوا خلق مناخ عدائي مع إثيوبيا، من خلال نشر الجيش السوداني على الشريط الحدودي بين السودان وإثيوبيا، في أبريل/نيسان الماضي، وهي الخطوة التي قادت لتصعيد الصراع في المنطقة بين الميليشيات الإثيوبية والجيش السوداني، حيث وقعت أربعة اشتباكات متتالية، خلال أقل من شهر.
ولفت أستاذ العلوم السياسية إلى أن تصرفات العسكريين خلقت جغرافيا ملتهبة، يمكن أن تتحول إلى منصات لعمل عدائي ممنهج ضد إثيوبيا وضد سد النهضة، إذا تطورت الأمور، حتى أصبح الخيار العسكري راجحاً وحتمياً.
وأكد المرضي أن الشق المدني في الحكومة العسكرية يبدو أقرب إلى إثيوبيا، خصوصاً الطاقم الفني، المتمثل في وزير الري ومعاونيه.
حيث يرون أن سد النهضة يخدم المصالح السودانية بدرجة كبيرة، وأنه لا يمثل أي خطر على السودان إذا جاء تشغيله بصورة توافقية، لافتاً إلى أن الوفد الحكومي يعلب دور الوسيط بين مصر وإثيوبيا في كثير من المواقف.
السودان ليس وسيطاً
نفى وزير الري والموارد المائية السوداني، بروفسور ياسر عباس، أن تقوم الحكومة السودانية بلعب دور الوسيط، مشدداً على أنها طرف أصيل في الأزمة، وأنها تتخذ قراراتها التفاوضية وفقاً لمصالح الشعب السوداني.
وقال عباس رداً على سؤال من "عربي بوست" إن الموقف السوداني ثابت، وليس فيه أي تذبذب، ولا يوجد أي ميل للمصلحة الإثيوبية.
وتابع: "ربما يكون هناك ميل من إثيوبيا نحو الموقف السوداني. أما المقترحات التوافقية التي نقدمها فهي نابعة من موقع السودان الجغرافي بين مصر وإثيوبيا".
وأكد وزير الري السوداني وجود خلاف في مفاوضات سد النهضة حول ثلاث نقاط قانونية، وخمس نقاط فنية، منوهاً إلى خلافهم مع إثيوبيا يكمن في التغيير اليومي لتصريفات سد النهضة التي تدخل إلى سد الروصيرص السوداني القريب من الشريط الحدودي بين البلدين.
مشيراً إلى أن السودان اقترح 250 مليون متر مكعب، كتغيّر يومي في التصريفات، بينما اقترحت إثيوبيا 50 متراً مكعباً، مؤكداً وجود تقارب محدود في هذه النقطة.
وأشار عباس إلى أن الخلاف يتصل أيضاً بتعريف منحى التشغيل المستمر لسد النهضة، بوصفه أمراً ضرورياً للتخطيط المستقبلي في استخدامات المياه في سد الروصيرص، بجانب الخلاف حول كيفية ملء سد النهضة مستقبلاً، وحول التصريفات في سنوات الجفاف الممتد.
وكان رئيس الوزراء السوداني، دكتور عبدالله حمدوك، قاد مبادرة في مايو/أيار الماضي، تكللت بإعادة أطراف التفاوض حول سد النهضة، إلى طاولة المفاوضات مجدداً، بعدما تم تعليق التفاوض لأكثر من شهرين، عقب فشل المبادرة الأمريكية في حسم الخلاف.
البشير وسد النهضة
في موازاة ذلك، علم "عربي بوست" من مصدر حكومي بارز أن نظام الرئيس المعزول عمر البشير كان قد شكّل لجنة فنية سرية لمتابعة المخاطر المتعلقة ببناء سد النهضة بالتنسيق مع الجانب الإثيوبي.
وقال المصدر إن اللجنة ظلت تعمل بصورة غير معلنة، وتقوم بزيارات ميدانية سرية إلى سد النهضة، وتضع ملاحظاتها الفنية وتخوفاتها على طاولة الجانب الإثيوبي، الذي استجاب لعدد كبير من شواغل اللجنة السودانية.
وأكد المصدر أن اللجنة الفنية تمكنت من إجراء تعديلات على جسم سد النهضة بإضافة فتحة ثانية لضمان انسياب التصريفات المائية إلى السودان، بعد أن كان مصمماً على فتحة واحدة، وذلك لتجنب أي إغلاق فجائي قد يعوق عمليات التصريف في الفتحة الأولى.
مشيراً إلى أن إثيوبيا قامت باستبدال إحدى الواجهات الإسفلتية في جسم السد بأخرى خرسانية، لأنها أكثر أماناً، وذلك استجابة لمطالب اللجنة الفنية السودانية.
وأشار المصدر إلى أن اللجنة لا تزال تنشط في تنفيذ ذات المهام غير المعلنة، على الرغم من أن عملها تأثر بموقف العسكريين في مجلس السيادة الداعم للموقف المصري، لأن إثيوبيا لم تعد تثق بالجانب السوداني حالياً، على نحو ما كان يحدث سابقاً.
وكانت الخرطوم دفعت بشكوى رسمية في خواتيم يونيو/حزيران الماضي، إلى مجلس الأمن أخطرته فيها بأنها ترفض أي قرار أحادي لملء بحيرة سد النهضة، لما في ذلك من مخاطر على خزان الرصيرص الذي يساوي عُشر سد النهضة الإثيوبي.
جدل قانوني وتقارب محدود
وبدوره، أقر الخبير القانوني عضو الوفد السوداني في مفاوضات سد النهضة، هشام عبدالله، بوجود خلافات قانونية حالت دون حسم الخلافات خلال المبادرة التي قادها رئيس جنوب إفريقيا سريل رامافوزا، بوصفه رئيس الدورة الحالية للاتحاد الإفريقي.
ورعى رامفوزا أسبوعين من التفاوض عبر الوسائط الإلكترونية، بين مصر وإثيوبيا والسودان، حيث تم إجراء تسع جلسات تفاوضية، مشتركة وثنائية، دون إحداث أي تغيير جوهري في المواقف.
وقال عبدالله لـ"عربي بوست" إن الخلاف يكمن حول إلزامية الاتفاقية، وهل ستقود المفاوضات إلى التوقيع على اتفاق يتسق مع القوانين الدولية للمياه، أم أن التفاوض يجب أن ينتهي إلى قواعد استرشادية كما تنادي إثيوبيا.
منوهاً إلى أن الجلسة الأخيرة تمكنت من حسم الخلاف والاتفاق على أن تكون الاتفاقية ملزمةً قانوناً لكل الدول، لافتاً إلى أن الأمر يتوقف حالياً على الصياغة وكيفية إدراج البنود.
ولفت عضو الوفد السوداني إلى أن هناك خلافاً حول آلية حل النزاعات التي يمكن أن تنشأ في المستقبل، مشيراً إلى أن إثيوبيا تفضل أن يكون الحل سياسياً، من خلال الاحتكام إلى رؤساء الدول الثلاث، بينما ترى الخرطوم والقاهرة ضرورة وجود آلية فعالة وليست سياسية، منوهاً إلى أن السودان اقترح اللجوء إلى التحكيم، لكن المقترح لم يحقق الإجماع، حيث اتفقت الدول الثلاث على الاحتكام إلى "الوساطة المُلزمة" لإصدار قرار نهائي وملزم لكل الأطراف.
وأضاف: "اتفقنا على آلية حل النزاعات، لكن إثيوبيا ترى أنه حتى في وجود الوساطة المُلزمة يجب الاحتكام لرؤساء الدول الثلاث لإجازة قرار الوساطة، ونحن نرى أن إدخال الرؤساء ليس مُجدياً".
وأكد عبدالله أن الخلاف القانوني الأبرز يتمثل في علاقة الاتفاقية التي سيتم التوصل إليها بالاتفاقات السابقة بسبب التخوفات الإثيوبية حول المشاريع المستقبلية، منوهاً إلى أن السودان قدّم مقترحا بأن تُقام أي مشاريع مستقبلية وفقاً لمبادئ القانون الدولي في الاستخدام المنصف والمعقول، وعدم حدوث ضرر ذي شأن للآخرين، مع ضرورة تبادل البيانات والمعلومات.