التحرش في مصر بين السياسة والدين والمجتمع.. لماذا تبدو المرأة أقوى هذه المرة؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/07/09 الساعة 11:51 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/09/08 الساعة 14:05 بتوقيت غرينتش
متى تصبح مصر مكانا آمنا للسيدات؟

التحرش في مصر ليس قضية جديدة سببها ثورات الربيع العربي، كما تذكر غالبية التقارير الدولية والمحلية منذ عام 2011 وحتى اليوم، فهل يمثل القبض على المتهم باغتصاب وهتك عرض عشرات الفتيات وما صاحب تفجُّر تلك القضية من خلال منصات التواصل الاجتماعي نقطة تحوّل حقيقية في تحسين وضع المرأة في المجتمع بصورة حقيقية بعيداً عن التوظيف السياسي؟

تعديل تشريعي مهم للغاية

ونبدأ قصة هذا الملف المثير للجدل من آخر ما وصلت إليه، حيث اتخذت الحكومة المصرية، أمس الأربعاء، قراراً بتعديل تشريعي يتعلق بسرية بيانات ضحايا التحرش وهتك العرض والاغتصاب، لعرضه على البرلمان وإقراره ليصبح نافذاً ضمن أحكام قانون العقوبات، فماذا يعني ذلك؟ وما الهدف منه؟

الدكتور ثروت عبدالهادي هريدي، العميد السابق لكلية حقوق أسوان، قال في تصريحات تليفزيونية إن المقصود من هذه التعديلات هو أن "تكون بيانات ضحايا تلك الجرائم سرية تنشئ لها النيابة العامة ملفاً فرعياً لا يطلع عليه أحد سوى المحقق والقاضي ولا يتم تضمينها في ملف القضية مطلقاً، وبالتالي عند صدور الحكم في القضية لا تكون تلك البيانات متاحة للعامة لتداولها".

وتتمثل أهمية هذه التعديلات في أكثر من نقطة؛ أولاها حماية سمعة الضحية وأسرتها مجتمعياً، وثانيها أنه في حالة تعرض الضحية لحادث أو موقف قانوني يستدعي تحقيقاً، لا يكون هناك في الملف الخاص بالضحية أية إشارة لقضية التحرش أو هتك العرض أو الاغتصاب التي تعرضت لها سابقاً، بحسب الدكتور هريدي.

الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي/رويترز
الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي/رويترز

والمفترض أن يشجع مثل هذا التعديل التشريعي المهم ضحايا التحرش أو هتك العرض أو الاغتصاب أو أي اعتداء جنسي من أي نوع على عدم الصمت خوفاً من الفضيحة، كما يفترض أن يمثل أيضاً رادعاً لمن يحاولون ارتكاب مثل تلك الجرائم اعتماداً على إفلاتهم من العقاب.

ما الذي فجَّر القضية الآن؟

الضجة الكبيرة التي أثارها تعرض عشرات الفتيات لاعتداءات جنسية واغتصاب وابتزاز من جانب المتهم المدعو أحمد بسام زكي، المقبوض عليه حالياً رهن التحقيقات في المزاعم الموجهة ضده، أثارت جدلاً ضخماً ما زال مستمراً في المجتمع المصري، وتخطى ذلك الجدل الحدود وتناولته غالبية الصحف ووسائل الإعلام المختلفة حول العالم، ونشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية تقريراً مفصلاً حول القصة بعنوان: "اتهامات موجَّهة لمغتصب متسلسل تدفع مصر نحو الحساب".

التقرير الذي أعده ديكلان والش، مدير مكتب الصحيفة في مصر، ركز على أهمية القبض على المتهم في "بلد يتم غالباً توجيه اللوم للمرأة عندما تتعرض للتحرش الجنسي، على أساس أن هذه القضية قد رفعت الآمال لتغيير الاتجاهات" في قضية حقوق المرأة بشكل عام وقضايا التحرش والاعتداءات الجنسية بشكل خاص.

قضية المغتصب المتسلسل بدأت من خلال حساب على منصة إنستغرام تحدثت فيه إحدى الضحايا عما تعرضت له ليفاجئ المجتمع المصري بعشرات الفتيات والسيدات يتحدثن عن نفس "الشخص" وابتزازه واغتصابه لهن، مما مثل قنبلة اجتماعية انفجرت في وجه الجميع، والحديث عن هنا عن شاب يبلغ من العمر 21 عاماً ويدرس في الجامعة الأمريكية وينتمي لأسرة من الطبقة المتوسطة العليا ويعيش في كومباوند سكني فخم في أحد أرقى أحياء العاصمة.

وكالعادة في القضايا المجتمعية تفجرت زوايا متعددة، منها السياسي المتعلق باحتمالات مساعدة السلطة للشاب للإفلات من العقاب (تردد أن والده يتمتع بصلات نافذة)، وسرت شائعة أنه تم تهريبه خارج البلاد، لكن تحرك النيابة وإصدار أمر القبض عليه بعد ثلاثة أيام من تحول القضية للتريند الأكثر متابعة دحض كل تلك الشائعات.

شعار المجلس القومي للمرأة في مصر

وبمجرد إعلان القبض على المتهم وحبسه على ذمة التحقيقات، بلغ عدد الشكاوى التي وصلت للمجلس القومي للمرأة في مصر حتى أمس الأربعاء أكثر من 400 شكوى، بحسب بيان للمجلس، وبعد التحرك الحكومي أمس تشريعياً للحفاظ على سرية بيانات ضحايا الاعتداءات الجنسية، من المتوقع أن تتضاعف أعداد السيدات اللائي تقدمن ببلاغات بسبب تعرضهن لاعتداءات جنسية متنوعة، وهو ما يعتبر نقطة تحول هامة في قضية حصول المرأة على حقها الطبيعي في العيش بأمان.

الاستقطاب على خلفية الدين

الجانب الآخر الذي لا يقل أهمية في هذه القضية هو السجال المجتمعي المحتدم في وسائل الإعلام وعبر منصات التواصل الاجتماعي بين معسكرين يتمترس كل منهما وراء مجموعة من المبادئ أو الأفكار أو أرضيات التنظير ولكل معسكر رموزه ومؤثريه.

لكن قبل التطرق لأبرز أفكار ومبادئ كل معسكر، من المهم أن نذكر رأي الأزهر وهو المؤسسة الدينية الأكبر بالنسبة للمسلمين السنَّة وهم الغالبية الساحقة بين المصريين، خصوصاً أن إصدار الأزهر – على لسان الشيخ أحمد الطيب الإمام الأكبر ورأس المؤسسة – رأياً قاطعاً في المسألة ربما يعد سابقة في مثل هذه النوعية من القضايا.

لخَّص شيخ الأزهر الرأي الفقهي بقوله: "غض البصر فرض حتى لو تبرجت كل النساء، والحجاب بشروطه فرض حتى لو بين أطهر الرجال، فليس الحجاب إقراراً للتحرش، ولا غض البصر تحليلاً للتبرج. ضعوا الحلال محله والحرام محله، ولا تبرروا فتخسروا دينكم، واستقيموا يرحمكم الله".

شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب

كما تناولت مجلة صوت الأزهر القضية بصورة متكاملة في عددها الأخير، بعد أن كانت قد طرحت قبل أيام غلاف العدد بعنوان "طمنوا بناتكم"، كرد على تزايد حالات التحرش، وانتشار ثقافة تبريره ومحاولة ربطه بملابس المرأة وسلوكها، ودعت عبر علماء في الأزهر إلي دعم ضحايا الانتهاكات الجنسية وتشجيعهن على الشكوى ورفض الصمت وتشجيع الحوار داخل الأسرة، معتبرين أن الردع القانوني هو الحل الناجز، ومؤكدين ضرورة إزالة الوصم الاجتماعي للضحايا باعتبار أن هذا الوصم يستحقه المتحرشون والمنحرفون وليس الضحايا.

ولأن قصة التحرش هي فرع واحد فقط من قضية أعم وأشمل وهي حقوق المرأة، فقد تم عرض مواقف موثقة لشيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيب، تؤكد انحيازه لحقوق المرأة ورفضه أي انتهاك لها، ومنها رفض الختان وزواج القاصرات، والظلم في تعدد الزوجات، والتعسف في الطلاق.

التراشق عبر منصات التواصل

خلفية هذا الموقف الحاسم من جانب المؤسسة الدينية وإمامها الأكبر هو تداول آراء لبعض الدعاة من الشباب، مثل عبدالله رشدي، بدا منها أنه يبرر التحرش بسبب الربط بينه وبين ملابس المرأة، وهو ما أدى لهجوم شرس من المعسكر الآخر، رد عليه رشدي بتشبيه "ترك السيارة مفتوحة مما يعرضها للسرقة" وهو ما زاد من حدة الهجوم عليه.

يرجع بعض علماء الاجتماع هذا الاستقطاب في قضية يفترض أنها واضحة ومحسومة وهي جريمة التحرش، حيث لا يوجد أي مبرر للمتحرش (وهو ما يردده عبدالله رشدي نفسه قائلاً إن هناك فرقاً بين ما يراه أحد أسباب التحرش وهو ملابس المرأة وبين تبرير فعل التحرش ذاته)، إلى الخلط بين أمور لا يفترض أن يكون هناك رابط بينها من الأساس، ويرجع ذلك إلى سطحية التناول لقضايا جذورها عميقة في الثقافة المجتمعية من ناحية، ولأن منصات التواصل الاجتماعي حولت الأمور لتراشق بين ألتراس كل معسكر وليس حواراً مجتمعياً حقيقياً.

التوظيف السياسي للتحرش

من اللافت أن كثيراً من التقارير الخاصة بحقوق المرأة – إن لم يكن جميعها – في الفترة من 2014 وحتى اليوم قد جعلت من ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 السبب الرئيسي وراء انتشار ظاهرة التحرش وتراجع حقوق المرأة في مصر بشكل عام، وقد صدر تقرير في أكتوبر/تشرين الأول عام 2014 عن رويترز بعنوان: "دراسة: مصر أسوأ الدول العربية بالنسبة للمرأة وجزر القمر أفضلها".

وملخص تلك الدراسة، التي تمثل نموذجاً لتوجه عام، هو أن "التحرش الجنسي.. ارتفاع معدلات ختان الإناث.. زيادة العنف وصعود التيار الديني بعد انتفاضات الربيع العربي.. كلها عوامل جعلت من مصر أسوأ مكان بالعالم العربي يمكن أن تعيش فيه المرأة".

وفي أعقاب تنصيبه رئيساً للجمهورية، أمر الرئيس عبدالفتاح السيسي وزير الداخلية "بالتصدي بقوة لظاهرة التحرش الجنسي"، وذلك بعد احتجاز سبعة رجال بتهمة الاعتداء على فتيات قرب ميدان التحرير أثناء احتفالات تنصيبه، وبعدها أقرت مصر تعديلاً قانونياً يعاقب مرتكب التحرش الجنسي بالسجن "ستة أشهر على الأقل" أو بغرامة قدرها 3 آلاف جنيه (420 دولاراً).

لكن استطلاع رأي دولي أجرته مؤسسة تومسون رويترز في 2017، وضع القاهرة في المرتبة الأولى كأخطر المدن الكبرى على النساء في العالم، وهو ما يؤكد مخاوف ناشطي حقوق الإنسان عموماً، وحقوق المرأة خصوصاً، من مدى جدية التزام الحكومة المصرية بمواجهة التحرش الجنسي.

ثورة 25 يناير

اللافت هنا أن ظاهرة التحرش الجنسي في مصر تعود إلى ما قبل 2011 بسنوات عديدة، حيث كان "التحرش الجنسي الجماعي" ظاهرة مرتبطة بالعطلات الرسمية الأبرز مثل أعياد الفطر والأضحى وشم النسيم، وذلك منذ حدثت واقعة تحرش بالفنانة دينا أمام إحدى دور السينما في وسط القاهرة أثناء افتتاح أحد أفلامها وكان ذلك عام 2006، ولم تتخذ السلطات الأمنية ولا الحكومة موقفاً رادعاً تجاه مرتكبي تلك الاعتداءات، مما أدى لتكرارها حتى أصبحت ظاهرة.

ولكن مع تكرار الظاهرة وتناولها في الإعلام العالمي وتسليط الضوء عليها من جانب المنظمات الحقوقية الدولية، اتخذ نظام مبارك بعض الإجراءات تجاه تجريم التحرش والختان لكنها بالطبع لم تكن كافية لردع المتحرشين ولا لتشجيع ضحايا التحرش على الشكوى بشكل رسمي؛ فالتغيير الجذري تلزمه إرادة سياسية وسلطة لتنفيذه، وهو ما أثبتت الأحداث في مصر منذ 1952 أن كليهما ليس متوفراً.

لماذا هذه المرة تبدو الأمور مختلفة إذن؟

هناك عدة مؤشرات على أن "قضية المغتصب المتسلسل" ذي الـ21 عاماً ربما تكون نقطة تحول فعلية في قضايا حقوق المرأة بشكل عام وقضايا التحرش والاعتداءات الجنسية بشكل خاص، وأبرز تلك المؤشرات هو قوة منصات التواصل الاجتماعي كأداة لم تكن متوفرة لدى الشعب بشكل عام وأثبتت ثورة 25 يناير/كانون الثاني قوة تلك الأداة، أحد تسمياتها في مصر كان "ثورة الفيسبوك" لمن لا زال يتذكر.

صحيح أن النظام السياسي في مصر حالياً أكثر عنفاً في محاولاته للسيطرة على تلك الأداة من خلال التشريعات التي تم تفصيلها خصيصاً لملاحقة مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي الذين يكتبون أو حتى يشيّروا (يعيدوا نشر) منشورات معارضة أو منتقدة للسلطة بأي شكل من الأشكال والأمثلة لا تعد ولا تحصى وأحدثها الأطباء المعتقلون من خلالها بسبب فضح الادعاءات الحكومية حول وضع وباء كورونا، إلا أن تلك الأداة تظل ذات قوة وتأثير في توجيه الرأي العام ومن ثم الضغط على الحكومة.

وقضية أحمد بسام زكي في حد ذاتها نموذج، فقد تفجرت من خلال تلك الأداة، ونتج عنها مكتسبات لا يمكن إنكارها سواء من ناحية تحرك النائب العام والقبض على المتهم، أو من ناحية إقرار تعديل "سرية البيانات" وهو ما شجع وسيشجع المزيد من ضحايا الاعتداءات الجنسية على التقدم ببلاغات والإصرار على معاقبة من أجرموا بحقهن.

لكن المؤشر الأبرز هنا هو حملة "طمنوا بناتكم" التي أصبحت عنواناً بارزاً ضمن ضجة الجدل وحدته، ومع الموقف الحاسم من الأزهر – الشق الديني – نجد أن هناك تغيراً جوهرياً في أرضية الجدل نفسها، وهي أن المرأة ضحية، وأن "العار" يطال المجرم وليس الضحية مجتمعياً، وهذه هي نقطة الارتكاز في القضية برمتها، حيث إن الهدف الجوهري هو أن تكون المرأة آمنة في بيئتها، وعندما تتعرض للتحرش أو الاعتداء الجنسي تتصرف كصاحبة حق مقابل متهم يلاحقه العار قبل الملاحقة القانونية، وهذا هو بيت القصيد.

تحميل المزيد