من الاغتيال بالإشعاع لاستهداف الجنود الأمريكيين بأفغانستان.. قصة وحدة الجواسيس الروسية التي كشفت نفسها بسذاجة

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2020/07/02 الساعة 13:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/07/02 الساعة 13:13 بتوقيت غرينتش
رجل ألقت السلطات البولندية القبض عليه للاشتباه في قيامه بالتجسس لصالح الحكومة الروسية قبل سنوات/رويترز

معلومات صادمة تتكشف عن وحدة الاستخبارات الروسية التي حرّضت على قتل الجنود الأمريكيين في أفغانستان.

والمعلومات لا تتعلق بطابع أعمالها الذي يتسم بالتهور والصفاقة فقط، لكن الغريب أيضاً هو أساليب الفرقة الفجّة أحياناً والتي أدت إلى اكتشاف آثارها من قبل أجهزة الاستخبارات الأمريكية، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.

تاريخ وحدة الاستخبارات الروسية التي حرّضت على قتل الجنود الأمريكيين في أفغانستان

يوم الجمعة 26 يونيو/حزيران 2020، نشرت صحيفة New York Times الأمريكية تقريرها الصادم والمثير عن مزاعم بأن وحدة من الاستخبارات العسكرية الروسية –الوحدة 29155 التابعة لجهاز الاستخبارات العسكرية الروسية (مديرية الاستخبارات الرئيسية)- عرضت مكافآت لمقاتلين في أفغانستان مقابل قتل جنود أمريكيين. 

ولم يكن ذلك الظهور الأول لهذه الوحدة، إذ لطالما برزت "مديرية الاستخبارات الرئيسية" (GRU)، أو وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية، بوصفها جهة فاعلة أساسية في جهود موسكو لزرع الفوضى في جميع أنحاء العالم، ومنها عمليات القرصنة الإلكترونية وفضيحة الكشف عن رسائل البريد الإلكتروني لحملة هيلاري كلينتون الرئاسية لعام 2016.

ما هي بالضبط مديرية الاستخبارات الرئيسية الروسية (GRU)؟

يوجد في روسيا ثلاث وكالات استخبارات أساسية: "دائرة/خدمة الاستخبارات الخارجية" (SVR) و"مديرية الاستخبارات الرئيسية" (GRU) و"جهاز الأمن الفيدرالي" (FSB).

والأجهزة الثلاثة تشترك في عمليات خارجية، لكن مديرية الاستخبارات الرئيسية هو الجهاز الذي لديه الجرأة والصلاحيات الكافية لخوض عمليات عالية المخاطر.

مقر المؤسسة المعروفة باسم مديرية المخابرات الرئيسية الروسية (GRU)/رويترز

وأدارت الوحدة 29155، التي اتهمت بتقديم مكافآت لمقاتلين مرتبطين بطالبان نظير قتل جنود أمريكيين، بعض أكثر العمليات الروسية عدوانية في الخارج خلال السنوات الأخيرة، أو على الأقل الأكثر في العمليات التي نعرفها، من محاولة الانقلاب في الجبل الأسود في عام 2016 إلى المساعي الخرقاء لاغتيال الجاسوس الروسي السابق، سيرغي سكريبال، في إنجلترا، حسب وصف المجلة الأمريكية.

أدلة مصرفية على التحويلات المالية

ومع ذلك، فليس من الواضح بعد كيف تمكنت أجهزة الاستخبارات الأمريكية من ربط تلك العملية بالوحدة 29155. 

فالمعلومات بشأن مؤامرة تقديم المكافآت، التي وردت في موجز استخبارات يومي عُرض على ترامب في وقت مبكر من هذا العام، لا تزال تتسرب إلى الصحافة في أجزاء وقطع متناثرة. 

وذكرت صحيفة New York Times في وقت لاحق، أن التقييم الذي عُرض على ترامب كان مدعوماً بأدلة على تحويلات مصرفية بين حسابات مصرفية مرتبطة بوحدة الاستخبارات العسكرية الروسية وحركة "طالبان".

أعمالها تتسم بالرعونة، والأغرب سهولة تتبعها

غير أنه، وعلى الرغم من أن الوحدة عادةً ما توصف بأنها وحدة استخبارات سرية، فإن إدارتها لعملياتها اتسمت بالرعونة في كثير من الأحيان، ويشي بذلك بعض قصصها الصحفية غير القابلة للتصديق والاستخدام المتكرر لنفس الأسماء المستعارة. 

إذ بواسطة سجلات جوازات السفر المسربة وبيانات ركاب الرحلة وقواعد بيانات المعابر الحدودية، تمكّن صحفيون ومحققون يستخدمون المصادر المفتوحة عبر الإنترنت، في مواقع إنترنت مثل Bellingcat (موقع للتحقيقات على الإنترنت) ومنصة Insider الإلكترونية الروسية، من تتبع تلك القرائن لبناء صورة مفصلة على نحو لافت للوحدة الاستخباراتية الروسية وعناصرها.

يقول مارك بوليمروبولوس، الذي كان قد أشرف في السابق على عمليات وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في أوروبا ومنطقة أوراسيا قبل تقاعده العام الماضي، إن المعلومات التي توصل إليها موقع Bellingcat اتسمت "بالدقة مرة بعد مرة. ولما كانت مفتوحة المصدر، فقد أتاحت لنا البحث ومناقشة أنشطة وكالة الاستخبارات الروسية على نحو أكثر انفتاحاً، خاصة مع أجهزة الاستخبارات الأجنبية المرتبطة بنا".

كيف يمكن أن تكون وحدة في وكالة استخباراتية سرية مكشوفةً على هذا النحو؟

يُعتقد أن الوحدة 29155 قد عملت لمدة عقد على الأقل، ومع ذلك فإن ما لفت الأنظار إليها وأتاح بعد ذلك لوكالات الاستخبارات ومراسلي التحقيقات الصحفية تتبعَ أفراد المجموعة تدريجياً والكشف عن عمليات المجموعة الأخرى في أوروبا، هو محاولة عملائها اغتيال الجاسوس الروسي السابق سيرغي سكريبال في بريطانيا عام 2018.

والقصة هي أنه في أوائل عام 2018، قام رجلان روسيان يتحركات تحت الأسماء المستعارة "ألكسندر بتروف" (الذي كُشف عنه فيما بعد بأنه ألكسندر ميشكين) و"رسلان بوشيروف" (اسمه الحقيقي أناتولي تشيبيغا) برش مادة الأعصاب السامة "نوفيشوك" على مقبض باب منزل سكريبال في ساليسبري، في إنجلترا. 

بعدها بستة أشهر، كان لدى المدعين البريطانيين ما يكفي من الأدلة لتحديد هوية الرجلين في العملية وتعيين انتمائهم إلى مديرية الاستخبارات الروسية واتهامهم بمحاولة الاغتيال. وقد تمكنت السلطات الإنجليزية من تتبع حركة الرجلين بواسطة كاميرات المراقبة المنتشرة في المملكة المتحدة من اللحظة التي نزلا فيها من رحلة طيران "إيروفلوت" الروسية القادمة من موسكو.

بعدها بأسبوع أو أكثر بقليل، ظهر بتروف وبوشيروف على قناة RT التلفزيونية الروسية التي تسيطر عليها الحكومة، للادعاء بأنهما لم يكونا سوى مدربين عاديين للياقة البدنية سافرا إلى المملكة المتحدة لقضاء عطلة نهاية الأسبوع وزيارة ساليسبري ليس مرة واحدة، لكن مرتين، لرؤية كاتدرائية المدينة.

ومع ذلك، فبمجرد نشر صورة الرجلين، تمكن الخبراء الرقميون في مجموعة Bellingcat الاستقصائية مفتوحة المصادر من تعيين هوياتهما وتتبعها. ولما كانوا يعرفون أنهم عناصر تتبع مديرية الاستخبارات الروسية، فقد نقبوا في مواقع الإنترنت والحوليات السنوية لأكاديمية التدريب التابعة لمديرية الاستخبارات في سيبيريا، التي رجحوا أن الرجلين تلقوا تدريبهما فيها، بالنظر إلى أعمارهما. وهناك وجدوا صورة تشيبيغا في الشيشان على موقع الأكاديمية في عام 2018، والذي أشار إلى أن خريجي الأكاديمية كانوا قد ذهبوا للحصول على جائزة "بطل روسيا"، أعلى تكريم عسكري روسي. 

وكانت هذه التفاصيل هي التي قادتهم إلى هوية تشيبيغا الحقيقية. وغالباً ما تستخدم جوازات السفر التي يستعين بها عناصر مديرية الاستخبارات الروسية نفس الاسم الأول، المشتق من اسم والد الشخص، وتاريخ ميلاده باعتباره الهوية الحقيقية للعميل. 

وبواسطة هذا الافتراض، تمكّن باحثو Bellingcat من العثور على اسم وهوية "ميشكين" الحقيقية في قواعد البيانات المسربة لجوازات السفر الروسية.

الثغرات التي امتلأت بها العملية، لا سيما استخدام مادة أعصاب سوفييتية مطورة، دفعت بعدد من الخبراء إلى الاستنتاج بيسر إلى أن العملية يمكن نسبتها إلى روسيا. وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى اكتشاف الوحدة 29155.

ومع ذلك، فقد أوردت صحيفة New York Times أن محاولة الاغتيال كانت بمثابة "حجر رشيد" لوكالات الاستخبارات الغربية، (الحجر الذي تم بناءً عليه فهم الأحرف الهيروغليفية المصرية القديمة).

إذ تمكنت من خلالها أجهزة الاستخبارات الغربية من فك أنشطة الوحدة الاستخباراتية الروسية وكشف عناصرها. 

في عام 2016، وفي الوقت الذي كانت فيه دولة الجبل الأسود على وشك أن تصبح دولة عضوة في الناتو، جرت محاولة لتنظيم انقلاب في البلد الصغير. وفي العام الماضي، فتحت المحكمة العليا في إسبانيا the Audiencia Nacional تحقيقاً في العلاقة المزعومة للوحدة الروسية مع محاولة إعلان الانفصال عن إسبانيا التي خاضها إقليم كاتالونيا الإسباني في عام 2017.

يقول أريك تولر، رئيس فريق تحقيقات موقع Bellingcat الاستقصائي في أوروبا الشرقية: "نحن لا نعرف عنهم سوى العمليات الفاشلة، لأنهم يفشلون كثيراً. غير أنهم ربما يفعلون كثيراً من الأشياء الأخرى التي لا نعرف عنها شيئاً".

يمكنك شراء أي معلومات عن روسيا

وقد أصبح الكشف عن كثير من أنشطة الوحدة الروسية ممكناً من خلال حقيقة وجود تجارة مزدهرة بشدة فيما يتعلق بتسريب البيانات المخترقة والمسروقة في روسيا. 

وبحسب مارك غاليوتي، الباحث في المعهد الملكي للخدمات المتحدة في بريطانيا، فإن "الروس لديهم مشكلة تتعلق بحقيقة أنه يمكنك شراء أي معلومات. الأمر ينطوي على نوع من المفارقة تتمثل في أن روسيا تتسم بمستوى عالٍ من الشفافية إذا اتبعت هذا المدخل" للحصول على معلومات عنها. (مدخل الأموال). 

وكانت قواعد بيانات سجلات الرحلات الجوية وبيانات الجمارك ومعلومات جواز السفر وتسجيل السفر مفيدةً للغاية في عمل الصحفيين والباحثين الاستقصائي خلال جمعهم المعلومات عن أنشطة عملاء الاستخبارات الروسية في الخارج.

لماذا تعتبر مسألة المكافآت للمقاتلين الأفغان تصعيداً كبيراً؟

يصر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على أن القصة عبارة عن تلفيق في الأساس، وزاد على ذلك بأنها "أخبار مزيفة" في تصريحات صدرت يوم الأربعاء 1 يوليو/تموز على الرغم من التأكيدات المستقلة المتعددة لتقرير صحيفة The New York Times. 

ومع ذلك فإن مسؤولين سابقين في الاستخبارات الأمريكية اتفقوا على حقيقة أنه بما أن التقييم وصل إلى الرئيس، فإن معلومات كتلك التي ترد في الإحاطات اليومية عادة ما تتسم بدرجة عالية من الموثوقية.

كما أنه، وإن لم يكن من الواضح لماذا ستحتاج طالبان إلى حوافز مالية من أجهزة استخبارات روسية لقتل جنود أمريكيين، وهي التي ما انفكت تحاربهم منذ عقود، فإن المكافآت المزعومة تظل مع ذلك تصعيداً كبيراً في مساعي روسيا لاستهداف المصالح الأمريكية بطريقة مباشرة.

ألا يخشون الرد الأمريكي؟ هكذا تعاملت واشنطن مع الروس في سوريا

وفي حين أن أجهزة الأمن الروسية لطالما أبدت خشونة فظّة في جهودها لقتل المعارضين والمنشقين والمقاتلين الشيشان السابقين في الخارج، على سبيل المثال، فإن هذا يمثل تحولاً كبيراً. إذ يقول غاليوتي: "لطالما أبدى الروس حذراً كبيراً بشأن الأمريكيين، لأنهم يعرفون أن هناك ثمناً باهظاً سيُدفع رداً على قتل الأمريكيين". 

وأشار خبراء إلى أن القوات الأمريكية بذلت بالمثل "جهوداً مضنية" لتجنب توجيه ضربات بالخطأ إلى القوات الروسية في سوريا.

وأثار امتناع ترامب عن الرد بحسم على التسريبات الاستخباراتية عاصفةً من الانتقادات في واشنطن من كلا الحزبين. 

ووصف السيناتور الجمهوري، تشاك غراسلي، التسريبات عن الإجراءات الروسية بأنها تنم عن "تصعيد خطير، يتطلب رداً قوياً". ويزداد الأمر بياناً إذا استدعينا حالة إيران، إذ عندما أقدمت ميليشيات تابعة لها على قتل متعاقد أمريكي العام الماضي، أصدر ترامب الأوامر باغتيال قائدها العسكري الأبرز، قاسم سليماني.

تحميل المزيد