رغم تواصل ارتفاع أعداد الإصابات المسجلة بفيروس كورونا حول العالم، فإن إجراءات الإغلاق والتباعد الاجتماعي قد حمت الملايين من العدوى، والآن مع مرور نحو شهر على بدء رحلة العودة للحياة الطبيعية في ظل الفيروس، ما شروط الفتح الآمن وتجنب ما حدث بالفعل في بعض الدول التي أجبرت على إعادة فرض الإغلاق ولو جزئياً؟
مجلة Foreign Affairs الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "سر عودة الحياة الطبيعية بأمان: إجراءات رفع الحظر في دول العالم"، ألقى الضوء على أسباب اختلاف الأوضاع بعد فتح الاقتصاد وعودة الأنشطة من دولة لأخرى.
من بدأ مبكراً.. فتح آمناً
في الأشهر الأخيرة، عاش معظم العالم تحت قيود غير مسبوقة لحفظ الصحة العامة، وأحكامٍ بالتباعد الاجتماعي، وإجراءاتٍ طارئة أخرى. فرضت 137 دولة على الأقل إغلاقاً جزئياً أو كلياً لإبطاء انتشار فيروس كورونا المستجد. حظرت 141 دولةً السفر الداخلي، وأغلقت 169 دولةً بعض مدارسها على الأقل. وقد آتت هذه الإجراءات بدرجة كبيرةٍ ثمارها المنشودة، وقللت معدل انتشار المرض وخففت الضغط على أنظمة الرعاية الصحية. ومع أن عشرة ملايين شخص قد تأكدت إصابتهم بمرض كوفيد-19 الذي يسببه الفيروس، ووفاة أكثر من 500 ألف، فإن الأرقام كانت ستتجاوز ذلك بكثير في حال عدم اتخاذ البلاد أي إجراءات.
لكن العديد من مناطق العالم بدأت الآن إعادة فتح الأنشطة، مع أن انتشار المرض في تسارعٍ مستمر بمناطق كثيرة، وقد سجلت الولايات المتحدة أكبر عددٍ من الإصابات المؤكدة في يومٍ واحدٍ هذا الأسبوع، حتى مع مضي العديد من الولايات قدماً في خططها لإعادة فتح الأنشطة الاقتصادية.
وهذه المرحلة الجديدة من الاستجابة للجائحة تنطوي على خطورة كبيرة، لكنه لا مفر منها، فالقيود الصارمة على حيوات الناس لا يمكن أن تستمر للأبد. وقد كان غرضها هو "تبطيط المنحنى"، أي تجنب إغراق المستشفيات بعدد هائلٍ من المرضى، ومنح الحكومات وقتاً لتعزيز أنظمة الصحة العامة بها. لكن في الأماكن التي تحقق فيها هذا الهدف، يصعب تبرير التكاليف الاقتصادية والاجتماعية المؤلمة لقرارات الإغلاق الممتدة. لا عجب، إذاً، أن الكثير من الناس يمرون بما يُعرف بـ"إنهاك العزل الصحي".
وبالنسبة للبعض في البلدان متوسطة أو محدودة الدخل، فإن العودة إلى العمل مسألة حياةٍ أو موت. وبالنسبة لآخرين، خاصة في الولايات المتحدة، فإن المسألة تتخذ بُعداً حزبياً، إذ يميل الجمهوريون إلى معارضة فرض قرارات الإغلاق المتعلقة بفيروس كورونا أكثر من الديمقراطيين. وما يزيد الصورة تعقيداً اندلاع التظاهرات في الولايات المتحدة وبلدان عديدة أخرى بعد مقتل جورج فلويد. ولم تنتهِ الموجة الأولى من الجائحة بعد (وربما تكون موجة ثانية في الطريق)، لكن الإغلاق سينتهي، على الأقل الآن.
لكن هذا لا يعني أن كل دولة على المسار نفسه، وأن كل استراتيجيات إعادة الفتح تتساوى مع بعضها. فالدول التي باشرت إجراءات إعادة الفتح بحذر، وحافظت على الإغلاق حتى السيطرة على تفشي الوباء وصارت أنظمتها الصحية جاهزة للتعامل مع الموجات الجديدة، أبلت بلاءً أفضل من الدول التي فتحت سريعاً وفي وقتٍ سابقٍ للأوان. وبالمثل، فإن الدول التي اتبعت عمليات حذرة خطوة بخطوة وتواصلت بفاعلية مع شعوبها، نجحت أكثر في التعامل مع المفاجآت الحتمية من الدول التي ضغطت زر الفتح مرة واحدة. بعبارة أخرى، إن توقيت وكيفية إعادة الفتح أثبتا أن لهما تبعات هائلة.
التوقيت المناسب
منذ شهرٍ فقط بدأ التوجه إلى إعادة فتح الاقتصاد، لكن اتضح بالفعل أن الدول التي انتظرت اللحظة المناسبة لتخفيف قيودها، في وضعٍ أفضل من الدول التي سارعت إلى إعادة الفتح برغم الانتشار المجتمعي المستمر والقصور في إمكانات الصحة العامة، وكما أن المناطق التي تحركت سريعاً لتطبيق إجراءات الإغلاق كان أداؤها أفضل من التي تباطأت في اتخاذ القرار، فإن المناطق التي انتظرت انخفاض معدل انتشار المرض لتبدأ إجراءات إعادة الفتح قد حققت أداءً أفضل من المناطق التي لم تنتظر.
فقد حافظت أستراليا وألمانيا وهونغ كونغ ونيوزيلندا والنرويج على إجراءات الحظر أو إرشادات التباعد الاجتماعي الصارمة حتى انخفضت أعداد الحالات الجديدة إلى مستوى يجعل مخاطر عودة انتشار المرض منخفضة نسبياً. ومع انخفاض معدلات الانتشار، تمكنت هذه الدول من إعادة فتح المدارس والأعمال التجارية والسماح للناس بالاستمرار في حياتهم الاجتماعي دون مخاطرة كبيرة بأن تخرج الجائحة عن السيطرة.
أما الأماكن التي سارعت إلى إعادة الفتح رغم استمرار ارتفاع معدلات الانتشار وزيادة أعداد الحالات وسوء المؤشرات على نمو الجائحة، فهي الآن على مسارٍ أسوأ بكثير، فالعديد من مدن البرازيل الكبرى، على سبيل المثال، بدأت العودة إلى الحياة الطبيعية هذا الشهر رغم تصاعد حالات الإصابة بفيروس كورونا وازدحام المستشفيات وكثرة الوفيات. نتيجةً لذلك، تجاوزت البرازيل 50 ألف حالة وفاة، وهي في طريقها لتصبح أكثر الدول تضرراً من فيروس كورونا في العالم. وهي تُنافس الولايات المتحدة على اللقب، التي سارعت هي الأخرى لرفع القيود على الأعمال التجارية وأنشطة أخرى رغم تزايد أعداد الحالات في أكثر من نصف الولايات. وفي حين أوقفت بعض الولايات إجراءات إعادة الفتح بعد زيادة أعداد الإصابات ودخول الحالات إلى المستشفى، فإن ولايات أخرى مضت قدماً في إجراءاتها رغم العلامات المقلقة.
وقد أدت إعادة الفتح في البرازيل والولايات المتحدة إلى زيادةٍ في الأنشطة العامة، في وقتٍ يرتفع فيه معدل الانتشار المجتمعي للمرض بالفعل، وهي وصفة ممتازة لانتشار المرض بشكلٍ لا يمكن السيطرة عليه. وبكل تأكيد يكمن جزء من التحدي بالحكومات الفيدرالية مثل البرازيل والولايات المتحدة في أن جزءاً من مسؤولية الصحة العامة يقع على مستوى الولايات والمستوى المحلي، وهو ما يعني أن سياسات إعادة الفتح قد تكون غير متسقة مع بعضها، بل متناقضة في المناطق المختلفة. لكن النظام الفيدرالي لا يعني بالضرورة اتخاذ نهجٍ غير فعال لإعادة فتح الأنشطة، وتشهد على ذلك ألمانيا وكندا وأستراليا.
وقد أظهرت عدة بلدان في طريقها إلى فتح الأنشطة مدى أهمية إمكانات إجراء الاختبارات وتتبع المخالطين في حالة وقوع موجة جديدة من تفشي الفيروس. ففي أبريل/نيسان ومايو/أيار، أجرت كوريا الجنوبية اختباراتٍ على آلاف الأشخاص وتتبعت المخالطين تتبُّعاً بالغ الدقة؛ من أجل عزل مجموعات الحالات في العاصمة سيول. وقد تمكنت ألمانيا من الاستجابة بسرعة وفاعلية لموجبات الانتشار المرتبطة بمصنع معالجة اللحوم وباجتماعات دينية عدة. وأظهرت الصين أن بإمكانها اتخاذ إجراءات صارمة لمنع الموجات الجديدة، إذ أجرت الحكومة اختبارات على 11 مليون شخص في ووهان بعد ظهور حالات جديدة هناك، وفي وقتٍ سابق من الشهر أغلقت أجزاء كبيرة من العاصمة بكين وبدأت عملية فحص وتتبُّع ضخمة، بعد العثور على مجموعات من الحالات في العاصمة.
خطط مرنة ورسائل واضحة
لكن الأمر لا يتعلق فقط بالتوقيت والتجهيز. فالمرونة والتواصل مع الشعب مهمان أيضاً. وقد تعلَّم العلماء ومسؤولو الرعاية الصحية الكثير عن المخاطر المرتبطة بهذا الفيروس على مدار الأشهر الستة الماضية، لكن تظل هناك أشياء كثيرة لسنا واثقين بها. نتيجةً لذلك، فإن الدول التي تبنت نهجاً أكثر محافظة وتنظيماً في إعادة فتح الاقتصاد كانت قدرتها أفضل على إيقاف إجراءاتها أو إعادة ضبطها حينما تواجهها موجات تفشٍّ جديدة، بالمقارنة مع الدول التي ألغت إجراءاتها الاحترازية دفعةً واحدة. لهذا السبب ينصح خبراء الرعاية الصحية بفتح البلاد على مراحل، بدايةً بالمناطق والأنشطة التي يقل فيها خطر الانتشار إلى الحد الأدنى، والانتقال بالتدريج إلى مَواطن الخطر الأكبر.
ومع وجود إمكانات الاختبار والتتبع الضرورية، فإن الدول التي اتبعت هذا النهج تمكنت بصورة أفضل، من مراقبة آثار إعادة الفتح في أثناء تطبيقها، وهو ما مكَّنها من الانتقال إلى المرحلة الثانية، فقط عندما يتضح أن إعادة الفتح لم تتسبب في موجة جديدة من الإصابات، وقد تحركت ألمانيا بحذر لكن بوعي في إعادة الفتح، وقد وصلت الآن إلى مرحلة يتسنى فيها لجميع المتاجر خدمة العملاء، ويمكن فيها لعب مباريات كرة القدم (دون جمهور)، ويمكن رفع إجراءات حظر السفر الداخلي، وهو نهج يشبه ما فعلته بعض الولايات الأمريكية.