لم تعد العلاقات بين الإمارات وإسرائيل خفية على أحد، بل إنها باتت تأخذ شكلاً مختلفاً عما سبق.
ففي الوقت الذي مازالت فيه أنظمة عربية تخجل من إشهار العلاقة بينها وبين إسرائيل، نجد العلاقات الإماراتية الإسرائيلية تأخذ طريقها إلى العلن، لكن الأمر لم يأت هكذا دفعة واحدة.
فقد مرت علاقة التطبيع السري بين الإمارات وإسرائيل بأربع مراحل وفق ما كشفه مصدر واسع الاطلاع في أراضي 48 لـ"عربي بوست"؛ الأولى الاستعانة بإسرائيل للوساطة لدى الإدارات الأمريكية المتعاقبة من أجل التقرب منها وتلبية طلباتها.
وقد عبر عن المرحلة الأولى ما قاله الوزير البحريني الأسبق، علي فخرو لراديو "راية الفلسطينية" إن "وزيراً في دولة خليجية أخبره قبل سنوات أنه إذا أراد شيئاً من أمريكا فإنه يتصل بتل أبيب ليحصل عليه".
ثم تطور الأمر في مرحلة تالية إلى تعزيز العلاقة التجارية والاقتصادية من خلال استثمارات إسرائيلية في الإمارات تحت عنوان "شركات متعددة الجنسيات".
إلا أن المرحلة الثالثة من العلاقة التطبيعية مثلت نقطة التحول بعد تعزيز التعاون الأمني المباشر بين الإمارات والبحرين والسعودية من ناحية وتل أبيب من ناحية ثانية في السنوات الأخيرة بما يشمل تبادل المعلومات والمد بأجهزة تكنولوجية متطورة وعتاد وسلاح.
لكن المرحلة التطبيعية الرابعة تطورت كثيراً بعد دخولها مرحلة العلانية التدريجية، والكشف عن سابق العلاقة السرية، وقد عبر عن هذه المرحلة مقال السفير الإماراتي بواشنطن يوسف العتيبة في صحيفة "يديعوت أحرونوت" قبل أيام، ارتباطاً ببند في صفقة القرن والذي يحث على التحول من التطبيع السري إلى العلني. ونصح العتيبة إسرائيل في المقال بأن ضم أراضي الضفة الغربية دون مفاوضات سيفشل التطور في هذا التطبيع.
العتيبة في صحف اسرائيل
وبحسب ما يقول مصدر فلسطيني رسمي لـ"عربي بوست" ـ رفض الكشف عن اسمه ـ فإن العتيبة كتب المقال في صحيفة "يديعوت أحرونوت" بإيعاز من مستشار الرئيس الأمريكي جاريد كوشنير الذي يتبنى وجهة نظر مختلفة عن باقي أقطاب الإدارة الأمريكية لا سيما السفير لدى إسرائيل ديفيد فريدمان، إذ يخشى أن خطوة الضم في هذا التوقيت وبهذه الطريقة ستفشل علنية "التطبيع" وتشكيل حلف عربي سني ـ إسرائيلي في المنطقة للوقوف في وجه إيران وتركيا، وهي النقطة الأهم في صفقة القرن.
ووفق ما توفر من معلومات لـ"عربي بوست" من مصدر يقيم في إسرائيل بصفته مختصاً بالشأن الأمني والعسكري، فإنه في السنوات الأخيرة تجسدت علاقات متواصلة بين إسرائيل ودول خليجية لا سيما الإمارات والسعودية، لدرجة أن إحدى الشركات التكنولوجية الأمنية الإسرائيلية باعت برنامجاً إلكترونياً مكّن المملكة العربية السعودية من القيام بعمليات تجسس في صفوف المعارضين بمجالات مختلفة.
وكشف المصدر عن أن معلومات أمنية إسرائيلية ساهمت في استقرار أنظمة بدول الخليج، ومنعت في الأعوام الأخيرة عمليات تفجيرية كاد تنظيم "داعش" ينفذها في هذه الدول، ومروراً بتزويد عواصم خليجية بمعلومات حساسة عن المعارضين السياسيين، الأمر الذي قاد إلى اعتقال العديد منهم.
وأوضح المصدر أنه تم بيع أسلحة وعتاد متطور لبعض دول الخليج منها الإمارات على أساس "العدو الإيراني المشترك"، ناهيك عن جهود للتصدي لإيران تحت عنوان الائتلاف الإقليمي الذي شكلته أمريكا قبل سنوات لهزيمة "داعش".. فبالرغم من أن إسرائيل لم تكن عضواً في هذا الائتلاف، فإنها واظبت على التنسيق الأمني مع الإمارات والسعودية على وجه التحديد بخصوص قضايا تتعدى محاربة "داعش".
وينقل المصدر عن جهة إسرائيلية نافذة قولها إن "هناك إنجازات حققناها من خلال العلاقة مع الإمارات والسعودية، بيدَ أنّ معظمها طيّ الكتمان لحساسيتها.. لكن كل هذا خلق نوعاً من التطبيع المتقدم غير الرسمي".
وأشار المصدر إلى أن التطبيع الأمني "السري" والسياسي كان قائماً على معادلة "اقضوا حاجاتكم بالكتمان".
جدير بالذكر أن إسرائيل عملت من خلال "جماعات الضغط" على حماية ولي العهد السعودي محمد بن سلمان من الإدانة في "الكونغرس" الأمريكي على خلفية اغتيال الصحفي جمال خاشقجي.
بصمة الموساد في التطبيع
بمتابعة طريقة إسرائيل في اختراق العلاقة مع الدول العربية، يتبين أن رئيس "الموساد" يوسي كوهين طور في أعقاب اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2011، آلية جديدة للتعامل مع العرب، مستفيداً من كون أصوله شرقية ويُلقّب بـ"الجاسوس الوسيم".
لقد غير كوهين كل النهج من خلال ربط مصائر أنظمة عربية بالمعلومة الأمنية الإسرائيلية عن الحاضر والمستقبل، لدرجة أنه تم تقزيم دور أجهزة المخابرات في هذه الدول وربطها بالمعلومة الإسرائيلية.
كما تمكن كوهين من تطويع أجهزة مخابرات هذه الدول بيد "الموساد"، وأنّ الأخير هو الذي يرسم ويفكك القنابل الموقوتة في الإمارات وغيرها.
اللافت أن كوهين أسس قسماً بـالموساد يتولى مهمة العلاقات الخارجية السرية مع الدول العربية، وذلك بطلب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي لم يُعط دوراً لوزارة الخارجية بهذا الاتجاه بل وهمشها في هذا المضمار.. فقط كان الدور مقصوراً على رئيس الموساد كوهين وبدرجة أقل رئيس مجلس الأمن القومي مائير بن شابات.
إيمان وثقة نتنياهو بإنجازات كوهين التي وصلت حدّ عمل المستحيل في تطوير العلاقات مع الدول العربية، دفعا الزعيم الليكودي إلى التصريح بأن يوسي كوهين هو الوحيد الذي له الحق في أن يجلس مكانه ويستطيع أن يتولى رئاسة حكومة إسرائيل. كوهين نسج خيوط العلاقة على أساس مصائر الأنظمة، وأثمرت علاقات وزيارات علنية وسرية لدول لم يفصح عنها.
إماراتيون في القدس
العلاقة المتطورة بين الإمارات وإسرائيل أنتجت زيارات سرية لشخصيات إماراتية إلى الدولة العبرية والمشاركة باجتماعات فيها على مختلف المستويات، أحدثها ذلك الاجتماع الذي جرى قبل أشهر قليلة من أزمة كورونا في مدينة القدس تحت غطاء مؤسسة اقتصادية بريطانية وفق معلومات وردت لـ"عربي بوست" من شخصية شاركت في أحد الاجتماعات، وأنه قد تمت مناقشة قضايا اقتصادية أمنية وما قالوا إنه "السلام الاقتصادي".
في هذه الأثناء، ينقل الكاتب الصحفي المختص بالشأن الأمريكي داود كتاب لـ"عربي بوست" عن مسؤول إماراتي في جلسة مغلقة، حديثه "أن بند التطبيع الموجود في المبادرة العربية ويشترط حل القضية الفلسطينية أولاً.. قد مر عليه زمن طويل، ولم يعد ذا قيمة". واعتبر ذلك المسؤول – وفق تصريحات داود ـ أن إسرائيل جزءٌ من المنطقة والشرق الأوسط وأن مقاطعتها إلى الأبد لا يمكن أن يطول.
وبينما تعتبر السلطة الفلسطينية أن التطبيع العربي يضعف موقفها التفاوضي بعدما كان ورقة رابحة بيد السلطة في وجه إسرائيل، يحاول المسؤول الإماراتي تسويق التطبيع الاستباقي لحل القضية الفلسطينية وبما يتجاوز مبادرة السلام العربية بالقول إنه "مفيدٌ لأنه من خلال التعاون مع إسرائيل، يمكن التأثير عليها أكثر من مقاطعتها أو محاربتها.. وأن بناء علاقات طبيعية مع تل أبيب عامل مساعد لطمأنة الإسرائيليين وإزالة التخوفات خاصتهم"، وفق ذريعته.
ولكن.. ما السبب الحقيقي الذي يجعل السلطة رافضة لفكرة التطبيع قبل حل القضية الفلسطينية؟ تتذرع السلطة في رفضها للتطبيع الذي يستبق الحل السياسي، بأنه يمكن أن يكون ذريعة لإسرائيل لتحقيق مرادها بالتطبيع دون أن تتقدم بالحل السياسي عندها يزول عامل الضغط عليها.. لكن هناك سبب آخر لدى السلطة كما علم "عربي بوست" من قيادي في حركة "فتح"، ويتصل رفضها للتطبيع العربي بمخاوف القيادة الفلسطينية من أن ذلك يفتح المجال أمام دول عربية لتفاوض إسرائيل بديلاً عنها وتأخذ دورها.. وهنا مربط الفرس.
وبالعودة إلى الجهود الأمريكية لتحويل العلاقة التطبيعية مع الدول العربية من السر إلى العلن، فإن مصادر سياسية مطلعة تفيد لـ"عربي بوست" بأن رفض الإمارات ودول عربية للضم والتحذير من مضارّه بالتطبيع، مجرد مسرحية.. فتوضح المصادر أن التعاون الأمني الاستراتيجي الحامي لمصائر أنظمة أهم بكثير من "ضم أراض فلسطينية"، مبينة أن العامل الوحيد الذي يحسم مدى تطور التطبيع بين الإمارات ودول خليجية وإسرائيل من السر إلى العلن، هو بقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في منصبه من عدمه على ضوء الانتخابات الرئاسية المرتقبة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.