يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيجد نفسه مضطراً للدخول في مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة في ساحته الخلفية، فما قصة رئيس بيلاروسيا الذي يلعب بالنار مع الكرملين ويتقرب للغرب بعد عقود من الشراكة مع موسكو؟
وكالة Bloomberg الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "حليف بوتين يرتمي في أحضان الغرب.. والعلاقات تتوتر مع موسكو"، ألقى الضوء على الصداع الذي يمثله لوكاشينكو لبوتين، وانعكاسات ذلك على ما قد يحدث من مواجهة بين الغرب وموسكو في باحة بوتين الخلفية.
إن ألكسندر لوكاشينكو لا يحمل أي مودة للكرملين مؤخراً، مع أنه كان حليف بوتين الأقرب. فبعد عقود من الاعتماد على موسكو بدأ زعيم بيلاروسيا يشتري النفط من الولايات المتحدة ويتقرب من الغرب سياسياً، ويأمر بمُداهمة بنكٍ مملوكٍ للروس، لأن الرئيس السابق لذلك البنك يعتزم منافسته في الانتخابات القادمة.
تبعات ضم القرم
وقد سبّب كل ذلك صداعاً لبوتين في حديقته الخلفية، والأكثر من ذلك أن لوكاشينكو شبه متأكد من فوزه بالرئاسة لمدة سادسة في أغسطس/آب، ما يهدد بفتور علاقة البلد المهم استراتيجياً بحليفته روسيا.
ويُظهر توتر العلاقات الصعوبة التي يواجهها بوتين في الحفاظ على علاقاته حتى بأقرب حلفائه منذ ضم جزيرة القرم الأوكرانية في 2014، وما أحدثه ذلك من تقويض نظام ما بعد الحرب في أوروبا، وأثار تساؤلات بشأن أمن المنطقة، ويتمثل الخطر الآن في أن بيلاروس، التي تجاورها بولندا وليتوانيا ولاتفيا، والثلاثة أعضاء في حلف الناتو، ستصبح البؤرة الجديدة للصراع الجيوسياسي بين بوتين والغرب.
وهناك سوابق حرّض فيها لوكاشينكو الجانبين على بعضهما من أجل المُحافظة على درجة كافية من الاستقلالية تُمكنه من الحفاظ على حكمه السلطوي، في بلدٍ يبلغ تعداد سكانه 9.4 مليون، غير أن التوترات هذه المرة ربما تكون أكبر، وانهيار أسعار النفط يُضعف جاذبية روسيا كحليفة لبيلاروسيا.
الوقيعة بين الجارتين
وتتزايد العلاقة مع لوكاشينكو سوءاً، إذ تحاول الولايات المتحدة وحلفاؤها الوقيعة بين مينسك وموسكو، وقد انجذبت بيلاروسيا إلى المعركة على النفوذ، وفقاً لمسؤول بالكرملين الروسي.
وقد بدأت بيلاروسيا في معالجة الشحنات الأولية من أصل 80 ألف طن (586 ألف برميل) من خام النفط الذي شحنته سفينة صهريجية إلى ميناء ليتواني في مطلع الشهر، وهي المرة الأولى التي تشتري فيها بيلاروسيا النفط من الولايات المتحدة. ويأتي ذلك بعد لقاء وزير الخارجية الأمريكي مايكل بومبيو بلوكاشينكو في فبراير/شباط الماضي، وهو أرفع مسؤول أمريكي يزور بيلاروسيا منذ الرئيس بِل كلينتون في 1994، وتعهّد بومبيو بأن الولايات المتحدة يمكنها شحن "100% من النفط الذي تحتاجون إليه، بأسعار تنافسية".
كان لوكاشينكو في ذلك الوقت يتهم موسكو علانية بالضغط عليها للقبول بدمج سياسي، في مقابل إمداد بيلاروسيا بالنفط بأسعار زهيدة، بعد أن خفضت روسيا شحنات خام النفط إلى الربع تقريباً بسبب خلافات على التسعير. وقال بومبيو للوكاشينكو إن بيلاروسيا "ينبغي ألا تُجبَر على الاعتماد على شريكٍ وحيد في ازدهارها وأمنها".
ومع ذلك، تظل بحوزة بوتين وسائل ضغط قوية قد يُحاول بها كبح جماح لوكاشينكو. فمع أن الشحنات انخفضت بنسبة 65% عن العام الماضي، فقد أمدت روسيا بيلاروسيا بـ1.6 مليون طن من النفط في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2020، كما يعتمد اقتصاد بيلاروسيا اعتماداً كبيراً على تصدير الآلات والمواد الغذائية للجارة الكبرى. كما تلجأ بيلاروسيا مراراً إلى روسيا من أجل طلب القروض والمُساعدات للوفاء باحتياجاتها المالية، وينظم البلدان مناورات عسكرية مشتركة.
التعامل مع فيروس كورونا
وقد زاد تعامل لوكاشينكو مع جائحة فيروس كورونا من انزعاج الكرملين، ففي حين أغلقت روسيا حدودها وفرض بوتين إجراءات إغلاق على مستوى البلاد، في مارس/آذار، صرَّح لوكاشينكو بأن "الموت واقفاً خيرٌ من العيش راكعاً".
وفي حين أجبرت أعداد الإصابات المتزايدة بالفيروس بوتين على تأجيل العرض العسكري المقرر يوم التاسع من مايو/أيار، احتفالاً بالسنوية الخامسة والسبعين للانتصار في الحرب العالمية الثانية، مضى لوكاشينكو في تنظيم حفله الخاص، معتبراً تأجيل الاحتفال "خيانة" لمن ماتوا في الحرب.
وقد سحق لوكاشينكو، البالغ من العمر 65 عاماً، المعارضين لرئاسته مراراً وتكراراً منذ وصوله إلى السلطة في 1994، ويتهم لوكاشينكو منتقديه في روسيا بتمويل الاحتجاجات ضده مع اقتراب الانتخابات في التاسع من أغسطس/آب، ولمّح إلى وجود دعمٍ أجنبي لمنافسَيه الأهم، أحدهما مصرفيٌّ والآخر مدونٌ على منصة يوتيوب.
وقال لوكاشينكو يوم الجمعة، 12 يونيو/حزيران، إنه أصدر أوامر للمسؤولين عن أمن الدولة بالتحقيق في فرع بنك غازبروم الروسي ببيلاروسيا، وقد نتج عن ذلك احتجاز 15 شخصاً حتى الآن.
وقد ترأس فكتور باباريكو بنك بيلغازبروم لعشرين عاماً، حتى استقالته في مايو/أيار، ليترشح في الانتخابات ضد لوكاشينكو، واتهم باباريكو يوم الخميس، 11 يونيو/حزيران، السلطات البيلاروسية بأنها "على استعداد لاستخدام أي وسيلة ممكنة لمنع إجراء انتخاباتٍ نزيهة"، بعد مداهمة البنك ضمن تحقيقٍ في التهرب من الضرائب وغسل الأموال.
ويتعهّد باباريكو بتنفيذ إصلاحات لتحرير السوق من أجل تقليل اعتماد بلاده على الدعم الخارجي، وقال لبلومبيرغ إنه لم يُناقش أمر ترشحه مع أي مسؤول روسي، مُشيراً إلى أن القانون البيلاروسي يحظر تلقي أي دعم أجنبي أثناء خوض الانتخابات.
قمع المعارضة
ومع ذلك، علاقة لوكاشينكو بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ما زالت على قدرٍ كبير من التوتر، بعد تشديد عقوباتهما على بيلاروسيا، بعد اعتقال قوات الأمن لقادة المعارضة، والاعتداء بالضرب على المحتجين في فترة الانتخابات الرئاسية في 2010.
وقد مدّد الرئيس دونالد ترامب يوم الخميس، 11 يونيو/حزيران، العقوبات الأمريكية على لوكاشينكو ومسؤولين آخرين ببيلاروسيا لمدة عام، وقد فرضت الولايات المتحدة هذه العقوبات في 2006 بسبب القمع السياسي والانتخابات "غير الديمقراطية من أساسها". ومع ذلك، فقد اتفقت الولايات المتحدة وبيلاروسيا على تبادل السفراء للمرة الأولى منذ أكثر من عقد.
وربما تُراهن روسيا على سيناريو مشابه هذه المرة، توجه فيه بيلاروسيا آلة القمع إلى الخصوم السياسيين، ما يُفسد محاولات التقارب البيلاروسي مع الغرب، وفقاً لبافلوفسكي، الذي عمل مستشاراً للكرملين من عام 2000 إلى 2011.
وأضاف بافلوفسكي: "لا يُمكن لروسيا إسقاط لوكاشينكو، ليس الآن على الأقل. لكنها تبحث عن طريقة لجعل حياته أكثر مشقة"، وقد ارتد موقف روسيا الصارم من أسعار النفط في يناير/كانون الثاني عليها، إذ يسعى زعيم بيلاروسيا إلى تقليل الاعتماد على روسيا عبر اللجوء إلى مزودين آخرين للنفط، من بينهم أذربيجان والسعودية.