أكبر حزب يساري ليس في المغرب بل في العالم العالم العربي كله متورّط في مشروع قانون مثير للجدل يقيد الحريات على مواقع التواصل الاجتماعي، أطلق عليه قانون تكميم الأفواه.
وبالنسبة لكثير من اليساريين المغاربة فلم تكن هذه الصدمة الأولى.
فقد تورط الاتحاد الاشتراكي المغربي، الشريك في الائتلاف الحكومي،
في العديد من القضايا الشائكة مؤخراً التي تتناقض مع خلفيته اليسارية وتاريخه النضالي، ما دفع البعض إلى التساؤل حول أفول نجم أكبر أحزاب اليسار في المملكة.
ورغم أنه تم تأجيل مشروع القانون إلا أن العاصفة التي خلّفها لم تهدأ، كما أن فكرة طرح القانون لم يتم الإعلان عن إلغائها.
مَن وراء قانون تكميم الأفواه الذي أغضب المغاربة؟
أحدث هذه المواقف هو تقديم وزير العدل، محمد بنعبد القادر، المنتمي للحزب، في أبريل/نيسان الماضي، مشروع قانون شبكات التواصل الاجتماعي، المعروف إعلامياً بقانون "تكميم الأفواه"، ما أثار نقاشاً واسعاً داخل الحزب، ولدى الرأي العام، الذي انتفض رافضاً المشروع، معتبراً أنه يقيد الحريات.
ويقود حزب العدالة والتنمية الإسلامي الائتلاف الحاكم في المغرب، لكن يعتقد أن القصر الملكي مازال له تأثير على سياسة البلاد، وأن بعض القرارات والقوانين قد تأتي بضغط من القصر.
وفي حالة هذا القانون تحديداً، وُجّهت اتهامات للمؤسسة الملكية التي يطلق عليها "المخزن" بأنها وراء هذا القانون الذي طرح في وقت تنشغل فيه البلاد بالتصدي لجائحة كورونا، وطالت الاتهامات حزب الاتحاد الاشتراكي بأنه متحالف مع النخب المخزنية والإسلامية لتمرير هذا القانون.
وبالفعل شكّل قانون تكميم الأفواه مفارقة كبيرة.
إذ إن الحكومة التي ناقشته يقودها حزب معارض في الأصل هو حزب العدالة والتنمية، بينما الوزير الذي اقترحه ينتمي لحزب يساري له تاريخ طويل ضد ما كان يصفه الحزب نفسه بالاستبداد الملكي.
وتبرأ حزب العدالة والتنمية الإسلامي من القانون حيث طالب بتأجيله واعتبره مثيراً للإرباك ويضعف عملية التضامن والالتفاف الحالية التي تشهدها البلاد والنجاح في التصدي لهذه الجائحة، والذي نال إشادة عالمياً.
العقوبة لمن يحث الجمهور على سحب الأموال من البنوك
وتداول رواد مواقع التواصل نسخةً من القانون المثير للجدل بشكل واسع.
ونصّت المادة المتداولة على عدة بنود منها: "الإحاطة بكافة الجرائم الإلكترونية لا سيما تلك التي تمسّ بالأمن العام والنظام العام الاقتصادي ونشر الأخبار الزائفة والسلوكيات الماسة بالشرف".
واللافت أن مشروع القانون يقترح الحكم بالسجن على من يحث الجمهور على سحب أمواله من البنوك.
وتحت وسم #قانون_الكمامة، أشار الإعلامي المغربي يوسف بلهيسي إلى "استغلال" السياسيين لجائحة كورونا بغرض "تصفية حسابات ومكاسب انتخابية"، مضيفاً أن ذلك "أخطر" من الجائحة ذاتها.
لماذا يمكن وصف الاتحاد الاشتراكي بأنه أكبر حزب يساري عربي؟
وأعلن وزير العدل محمد بنعبد القادر في 3 مايو/أيار الجاري، تأجيل نظر المشروع "22.20"، وإجراء مزيد من المشاورات بشأنه.
وأرجع التأجيل إلى "الظروف الخاصة التي تجتازها البلاد، في ظل حالة الطوارئ الصحية، إلى حين انتهاء هذه الفترة"، في إشارة إلى جائحة فيروس "كورونا المستجد" (كوفيد-19).
وينتمي للاتحاد الاشتراكي مفكرون كبار ووزراء ومسؤولون، مثل السياسي البارز عبدالرحمن اليوسفي، الذي توفي الجمعة الماضي عن 96 عاماً، والمفكر والفيلسوف محمد عابد الجابري.
وقاد اليوسفي الحزب وشارك في الانتخابات البرلمانية عام 1997، حيث تصدر الانتخابات، ثم قاد الحكومة بين 1998 و2002.
ففى فترة من الفترات كان يمكن اعتبار الحزب ليس أكبر حزب يساري مغربي، بل أكبر حزب يساري في العالم العربي برمته؛ لأن الإنجازات الانتخابية التي حققها الحزب لم يسبق أن حققها حزب يساري عربي في الأغلب، إضافة إلى ضخامة عدد أعضائه رغم أنه كان في المعارضة.
وتأسس حزب الاتحاد الاشتراكي عام 1959، وظل في المعارضة، وتعرّض بعض أعضائه للاعتقال والقمع خلال ما عُرفت بسنوات "الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان" في المغرب، قبل أن يقود الحكومة بزعامة اليوسفي، عقب تغيير الدستور عام 1996.
وفي عام 2002 احتل الحزب المرتبة الأولى في الانتخابات، لكن العاهل المغربي عيّن وزير داخليته السابق إدريس جطو، غير المنتمي لأي حزب، على رأس الحكومة، فاعتبر اليوسفي أن المغرب حاد "عن المنهجية الديمقراطية"، واعتزل العمل السياسي.
قيادته حوّلته إلى ما هو عليه حالياً
قال المحلل السياسي رشيد الأزرق، للأناضول، إن "الاتحاد الاشتراكي انتقل من حزب كبير يُحسب له ألف حساب إلى ما هو عليه اليوم".
وأضاف أنه "كان حزباً كبيراً له رؤية واضحة ومتقدمة في وقت سابق، لكنه ورغم تاريخه الحافل تحوّل إلى حزب عادي، أظهر محدودية في التعامل مع عدد من الأحداث".
ويرى مراقبون أن تراجع قوة الاتحاد الاشتراكي يأتي في سياق تراجع أدوار بقية الأحزاب، وأنه كغيره يمكن أن يعود إلى سابق عهده، إذا رجع عدد من قيادييه البارزين إلى صفوفه.
انقسامات داخلية، واجتماع لم يتطرق إلى الأزمة
البيت الداخلي لـ"الاتحاد الاشتراكي" ليس في أفضل أحواله، فعدد من أعضائه البارزين تواروا إلى الظل، بينهم قياديون ووزراء ومسؤولون سابقون، فدبّ الوهن في حزب كان صوت المغاربة في أوقات سابقة.
ولا يزال أعضاء غاضبون ينتقدون قيادة الحزب، رغم أنه أطلق، في يناير/كانون الثاني الماضي، مبادرة صلح تجاوب معها قياديون ورفضها آخرون.
وبعد الضجة التي أثارها مشروع قانون الشبكات الاجتماعية، اجتمع المكتب السياسي للحزب (أعلى هيئة تنفيذية بالحزب)، الخميس الماضي، بدعوة من ثلث أعضاء المكتب، لكن الاجتماع، بحسب تقارير إعلامية، لم يتطرق لهذا المشروع.
دعوات لتصحيح المسار وليس الانشقاق
"الخلاف الآن ليس معي فقط، بل مع شعب بكامله الذي يصرخ رافضاً هذا السقوط المدوي (بشأن مشروع القانون).
عبرت هذه الكلمات عن حجم الأزمة داخل الحزب.
وجاءت على لسان حسن النجمي، قيادي بـ"الاتحاد الاشتراكي"، في
في تدوينة بفيسبوك عقب نقاش حول المشروع.
وقال إنه لا يتزعم حركة انشقاق جديدة في الحزب، ويدرك أن العمل الذي ينبغي القيام به لاستعادة الحزب وتصحيح مساره الفكري والأخلاقي والسياسي والتنظيمي، لا يمكن أن يتم إلا من داخله.
وتابع: "القاعدة الاتحادية داخل المغرب وخارجه لا تعرف أي شيء عن نقاشات المكتب السياسي المحتدمة. وأود أن أؤكد أننا لسنا كلنا في القيادة الحزبية على توافق مع الكاتب الأول (رئيس) الاتحاد الاشتراكي (إدريس لشكر) ومع الأخ محمد بنعبدالقادر (وزير العدل)".
وشدد على أن مشروع القانون "لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بالاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ولا بمبادئه وقيمه ومرجعيته، وتاريخه، ومدونة نضالاته، وكتاب شهدائه".
واعتبر أن "مسؤولية هذا الانحراف يتحمّلها أساساً كل رئيس الحزب ووزير العدل".
ومضى قائلاً: "الحزب ليس مقاولة (شركة) خاصة أو ضيعة شخصية يتصرف فيها الكاتب الأول بمزاجه. ويكفي أنه بهدل حزبنا ومرغ سمعته في الأوحال، ولايزال".
وفي ظل أزماته الداخلية والخارجية المتوالية، تتصاعد تساؤلات في المملكة بشأن قدرة "الاتحاد الاشتراكي" على الإمساك بعقد الحزب، كي لا ينفرط في الساحة السياسية، لاسيما قبل انتخابات برلمانية وبلدية مقررة في 2021.