"اليوم نعلن المعركة الحاسمة والتقدم نحو قلب العاصمة".. تكررت هذه الكلمات أكثر من مرة على لسان خليفة حفتر منذ بدأ حملته العسكرية للاستيلاء على طرابلس والإطاحة بالحكومة المعترف بها دولياً قبل أكثر من 14 شهراً، وفي كل مرة تفشل ميليشياته يُعلن قبول المفاوضات بهدف التوصل لحلٍّ سلمي، وهذا أيضاً ما حدث بعد الهزائم التي تعرَّض لها، فهل يريد حفتر إنهاء معاناة الليبيين بالفعل هذه المرة؟
العودة لأصل المأساة
كيف بدأ الصراع المرير في ليبيا؟ هذا هو السؤال التائه دائماً بين الاستقطاب والاتهامات المتبادلة على الرغم من أن إجابته تضع الأمور في نصابها، وربما تُسهم في توحيد الليبيين مرة أخرى. والعودة إلى ما قبل بدء حفتر هجومه على طرابلس مطلع أبريل/نيسان 2019، للتذكير بما كانت عليه الأوضاع تمثل حجر الزاوية لفهم موقف جميع الأطراف وسيناريوهات إعلان حفتر قبول العودة للمفاوضات على أساس مخرجات مؤتمر برلين الأخير.
بعد سقوط معمر القذافي عام 2011، دخلت ليبيا في حالة من الفوضى العارمة لأسباب كثيرة أهمها بالطبع عدم وجود مؤسسات حقيقية لإدارة الدولة، حيث كان القذافي يدير البلاد بأسلوب قمعي استبدادي، وهو ما أدى إلى عدم وجود تفاهمات أو مرجعيات يتم البناء عليها، إضافة للطبيعة القبلية للبلاد، وزادت التجاذبات الدولية وسعي الدول الكبرى لاقتسام الثروات النفطية لليبيا.
وظلّت الأمور على هذا النحو من الاقتتال الأهلي بدعم أطراف خارجية، ومع ازدياد العنف وتعرض المدنيين لمأساة إنسانية، لكن الأهم هنا هو صعوبة حصول الدول الكبرى على المكاسب التي تسعى إليها في ظل الفوضى، بدأت التحركات للتوصل إلى حل توافقي ترضى به مقومات المجتمع الليبي برعاية الأمم المتحدة كمظلة دولية، وهو ما تم بالفعل بعد اجتماعات برعاية الاتحاد الأوروبي والناتو، وتم أخيراً توقيع اتفاق الصخيرات في المغرب، وتم تشكيل حكومة الوفاق الوطني في فبراير/شباط 2016، وحظيت بالاعتراف الدولي بالإجماع.
أما عن خليفة حفتر فيرجع ظهوره على المسرح الليبي إلى قبل ست سنوات، أي في مايو/أيار 2014، عندما شكل ميليشيات مدعومة بشكل مباشر من فرنسا والإمارات ومصر واضعاً شعار "مكافحة الإرهاب"، ورغم التوترات المتقطعة بين حفتر الذي اتخذ من بني غازي مقراً له ولتابعيه من جهة وبين حكومة الوفاق المعترف بها دولياً ومقرها طرابلس العاصمة، إلا أن الأمور لم تصل لنقطة الانفجار أو الصراع المفتوح، حيث كان حفتر حاضراً في اتفاق الصخيرات ومنضماً إليه.
أمين عام الأمم المتحدة "مفطور القلب"
ومع ارتفاع حدة التوترات بدأت المساعي مرة أخرى للتوصل إلى اتفاق يجمع أطياف المشهد الليبي مرة أخرى، ودعت الأمم المتحدة لجولات من المفاوضات في تونس لإدخال تعديلات على اتفاق الصخيرات، تمهيداً لعقد مؤتمر وطني يشارك فيه جميع الفرقاء السياسيين في ليبيا، بمن فيهم الأطراف التي لم تشارك في الحوارات السابقة، وكان الهدف هو إجراء استفتاء على دستور جديد للبلاد، ومن ثم إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية يشارك فيها الشعب الليبي بأكمله، وبالتالي وضع نهاية لحقبة ممتدة من سفك الدماء والتخريب دون طائل، ولا يدفع ثمنها سوى المدنيين والأبرياء من جموع الشعب الليبي.
وتم بالفعل التوصل للاتفاق بموافقة جميع الفرقاء، بمن فيهم حفتر، وبينما ينتظر الليبيون التوقيع على خارطة الطريق وبدء مرحلة جديدة من البناء والعيش في سلام، شن حفتر هجوماً مفاجئاً دون سابق إنذار باتجاه العاصمة، معلناً أن هدفه هو السيطرة على كامل التراب الليبي بهدف "محاربة الإرهاب".
كان ذلك مطلع أبريل/نيسان 2019، وتزامن ذلك مع وجود الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريتش في العاصمة طرابلس -استعداداً لعقد المؤتمر الدولي للتوقيع على خارطة الطريق المتفق عليها- وتوجه غوتيريش بالفعل إلى بني غازي وعقد اجتماعاً مع حفتر بهدف إثنائه عن هجومه على العاصمة والعودة لطاولة المفاوضات، لكن ذلك الاجتماع لم يؤدِ لأي نتيجة، وغادر غوتيريتش ليبيا "مفطور القلب" بنص تغريدته وقتها.
لماذا أقدم حفتر على مهاجمة طرابلس؟
هذا هو السؤال الأهم، وإجابته ترسم صورة لما يجري على الأرض في ليبيا، خصوصاً في ظل الاتهامات المتكررة على لسان حفتر والناطق باسمه أحمد المسماري ولجانهما الإلكترونية بشأن التدخل التركي في الملف الليبي.
ففي الوقت الذي تم الاتفاق بين الجميع، بمن فيهم حفتر نفسه، على أنه من حق الشعب الليبي أن يقرر مصيره من خلال صندوق الانتخابات وبرعاية دولية، وسبق ذلك لقاء في أبوظبي بين السراج وحفتر اتفقا خلاله على إنهاء المرحلة الانتقالية وأجراء انتخابات، وكان ذلك في فبراير/شباط 2019، قرر حفتر الاستيلاء على العاصمة بالقوة، وفرض حكم عسكري ديكتاتوري بإيعاز من داعميه الإمارات ومصر والسعودية وفرنسا، الذين يجمعهم معاً العداء للإسلام السياسي، بغض النظر عما يسببه ذلك من دمار وتخريب لليبيا وشعبها.
وفي البداية شقت ميليشيات حفتر -الذي أعطى لنفسه رتبة المشير وسمى ميليشياته "الجيش الوطني الليبي"- طريقها نحو العاصمة دون مقاومة، لسبب بسيط، هو أنه لا توجد حرب تستدعي المقاومة، لكن مع وصول تلك الميليشيات إلى ضواحي العاصمة، بدأت حكومة الوفاق في اتخاذ الإجراءات العسكرية للدفاع عنها، وهذا طبيعي.
رفض المفاوضات بشكل قاطع
في ذلك الوقت، عبَّرت الأطراف الدولية عن رفضها لما أقدم عليه حفتر، والطريف أن الإمارات انضمت للدول المطالبة "بالوقف الفوري للتصعيد في ليبيا"، وشاركت في البيان الذي أصدرته الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا بهذا المعنى، في 5 أبريل/نيسان 2019.
وكانت ألمانيا التي تتولى رئاسة مجلس الأمن الدولي في ذلك الشهر قد دخلت على خط الأزمة، ودعت إلى اجتماع طارئ للمجلس، معلنة أنها تعوّل على الجهود الدبلوماسية في ظل الوضع المحتدم في ليبيا، وقال وزير الخارجية هايكو ماس في مدينة دينار الفرنسية: "لا نرغب في حدوث تصعيد عسكري آخر". وأضاف الوزير الألماني: "يعد ذلك وضعاً صعباً… يجب الآن إشراك جميع من يمكنهم المساعدة في ذلك لتجنب هذا التصعيد".
لكن حفتر -المغتر بقوته وميليشياته وسلاحه القادم من خلال داعميه الإمارات وفرنسا ومصر والسعودية- أعلن أنه لا تفاوض مع مَن سمَّاهم "الإرهابيين"، وجاءت المكالمة التي أجراها مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منتصف أبريل/نيسان 2019، بطلب إماراتي مصري، لتجعل موقفه أكثر تصلُّباً وعناداً؛ فبالنسبة لحفتر وداعميه كان سقوط طرابلس مسألة أيام وتنتهي الأمور.
لكن الأيام والأسابيع والأشهر مرت دون أن تتحقق أمنيات حفتر وداعميه، فحكومة الوفاق المعترف بها دولياً وقّعت اتفاقيات دفاع مشترك مع تركيا، وتمكّنت من الصمود في وجه ميليشيات زعيم الحرب، مما أدى لفشل الهجوم على طرابلس في تحقيق نصر عسكري حاسم وسريع، ومع ارتفاع حصيلة القتلى من المدنيين بسبب الضربات العشوائية واستهداف التجمعات السكنية ومراكز إيواء اللاجئين والمستشفيات من جانب طائرات حفتر ومدفعيته، اتضحت الصورة تماماً بالنسبة لليبيين، وهي أن حفتر لا يعبأ بحياتهم ولا مستقبلهم.
سقوط غريان ومعها مشروع حفتر
في الأسبوع الأخير من يونيو/حزيران 2019، حدث التحول الأول البارز في مسار مشروع حفتر وداعميه، وهو سقوط مدينة غريان الاستراتيجية الواقعة على بعد 100 كلم إلى الجنوب الغربي من طرابلس في أيدي قوات حكومة الوفاق، وكانت غريان هي مركز العمليات الرئيسي لميليشيات حفتر التي تهاجم العاصمة، ولم تسقط من خلال هجوم من خارجها، بل انتفض أهلها ضد الميليشيات، وقتلوا منهم من قتلوا وأسروا من أسروا وفرّ الباقون.
وكانت تلك هي المرة الأولى التي يتعرّض فيها حفتر لهزيمة مدوية، كان من المفترض أن تجعله وداعميه يعترفون بفشل خطة السيطرة العسكرية، وأنه لا مناص من ترك الحرية للشعب الليبي كي يختار من يحكمه من خلال صناديق الانتخابات، لكن الذي حدث هو أن ميليشيات حفتر كثَّفت من هجماتها العشوائية بالطائرات على العاصمة، وهو ما أوقع أكثر من 44 قتيلاً وإصابة أكثر من 130 آخرين، أغلبهم مهاجرون أفارقة في مركز لإيواء المهاجرين في تاجوراء، وكانت تلك هي الغارة الجوية الثانية في نفس الأسبوع، واعتبرتها بعثة الأمم المتحدة جريمة حرب ارتكبتها ميليشيات حفتر.
الموافقة على وقف إطلاق النار
ومنذ ذلك التاريخ، الذي مثّل بدايةَ النهاية لفشل مشروع حفتر العسكري، وافق زعيم الحرب على وقف إطلاق النار والعودة للمفاوضات في أكثر من مناسبة، أبرزها يناير/كانون الثاني الماضي، برعاية روسية في موسكو، بعد أن اتَّضح الدور الروسي في دعم حفتر أيضاً، وبالفعل وافقت حكومة الوفاق برئاسة السراج على قرار الهدنة ووقف إطلاق النار ووقعت عليه، ووصل حفتر إلى موسكو للتوقيع، لكنه انسحب فجأة ولم يوقع على الاتفاق لأسباب غير مفهومة.
وبعد انسحابه من التوقيع، أعلن عن مواصلة حملته لدخول العاصمة وحدد "ساعة الصفر" واتضح وقتها أن موافقة حفتر على المفاوضات لم تكن سوى خديعة تحت ضغط فشله عسكرياً وقرب تعرضه لهزيمة أخرى ربما تقضي على ما تبقى من معنويات بين صفوف ميليشياته، والأخطر أن يفقد داعموه الأمل في قدرته على تحقيق ما وعدهم به.
وبالطبع جاءت "ساعة الصفر" ومرت دون أن يقترب حفتر على الأرض أكثر مما كان عليه قبل الوقف المؤقت لإطلاق النار، وتكرر الأمر مرة أخرى ومُنيت ميليشياته بهزائم جديدة على الأرض، فوافق على المشاركة في مؤتمر برلين والالتزام بمخرجاته، وبدأت بالفعل اجتماعات بين قادة عسكريين من الطرفين برعاية الأمم المتحدة.
تكرَّر الأمر مرة أخرى بعد أن وصلت تدعيمات عسكرية ومزيد من مرتزقة فاغنر الروس لميليشيات حفتر، وأعلن بنفسه في أبريل/نيسان الماضي -تزامنا مع الذكرى السنوية لشنّ هجومه غير المبرر على العاصمة- "اليوم نعلن المعركة الحاسمة والتقدم نحو قلب العاصمة"، لكن هذه المرة تغيرت تفاصيل المشهد بصورة جذرية.
رغم تكثيف حفتر لهجماته التي تستهدف محطات المياه والكهرباء في العاصمة وإسقاط عشرات المدنيين بين قتيل وجريح، والتهديد الصريح لمن يقفون في صفِّ الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً، جاءت النتيجة على الأرض في صورة ضربات قاصمة متتالية بعد أن تحوَّلت استراتيجية الجيش الليبي المدافع إلى الهجوم ومطاردة ميليشيات حفتر، وهو ما توّجه سقوط قاعدة الوطية الاستراتيجية وانسحاب المرتزقة الروس إلى قاعدة الجفرة الجوية في الجنوب، والتي يبدو أنها الهدف الرئيسي لروسيا من وراء دعم حفتر.
وأمس الثلاثاء 2 يونيو/حزيران، أعلنت الأمم المتحدة موافقة حفتر على الدخول في محادثات للتوصل إلى هدنة، وهو ما يطرح تساؤلات حول ما يريده حفتر وداعموه هذه المرة، خصوصاً أن الإمارات ومصر أعلنتا اليوم الأربعاء 3 يونيو/حزيران ترحيبهما بذلك الإعلان.
في بيان لها على الإنترنت، قالت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا إنها رحّبت بخطة استئناف المحادثات التي تستند إلى اجتماعات ما يطلق عليه 5+5، التي شملت خمسة مسؤولين بارزين من كل طرف، فهل يسعى حفتر وداعموه لشراء الوقت في محاولة لتضميد جراحهم الغائرة وتكثيف التسليح واستجلاب مزيد من المرتزقة، استعداداً لجولة أخرى من القتال؟ أم أن مرحلة الرهان على حفتر قد وصلت لنهايتها وحان وقت التخلص منه بصورة أو بأخرى؟ أم أن الجميع قد اقتنعوا أن الحل العسكري لم يعد مُجدياً وحان وقت إدارة الملف بصورة مختلفة؟ الأيام القليلة المقبلة كفيلة بالكشف عن الاتجاه الذي ستسير فيه الأمور على الأرض في ليبيا.