فقد مئات الآلاف من العمال الأجانب وظائفهم داخل دول الشرق الأوسط الثرية في خضم جائحة فيروس كورونا، وبدأوا في العودة إلى أوطانهم الآسيوية التي اعتمدت لفترةٍ طويلة على الأموال التي كانوا يجنونها.
إذ ترك انهيار أسعار النفط وتوقّف السياحة الدولية عدداً كبيراً من العمال الأجانب منخفضي الدخل -عمال المتاجر والبناء والنظافة وغيرهم- دون وظائف داخل دول الخليج، مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية.
وخلال الأسابيع الأخيرة تقدّم نحو 300 ألف هندي وباكستاني بطلبات المغادرة وينتظرون الآن رحلات العودة إلى الوطن، وفقاً للسفارات الموجودة داخل الإمارات. فضلاً عن أنّ الكثير من الفلبينيين العاملين في الخليج -ويتجاوز عددهم المليون- قد فقدوا وظائفهم وينتظرون دعماً من حكومة مانيلا حتى يعودوا إلى أرض الوطن، بحسب تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
خلافات.. مَن يتحمل العودة؟
تسبّب هذا النزوح الشرق أوسطي في توتّرات بين دول الخليج والدول الآسيوية حول هوية من يجب أن يتكفّل بإعادة العمال الأجانب إلى أوطانهم.
إذ يأتي التحوّل على خلفية الاضطرابات العالمية في العمالة المهاجرة، والتي أبرزت مدى اعتماد العالم الغني على العمالة منخفضة الأجر من العالم النامي. ففي العام الماضي كان هناك نحو 246 مليون عامل أجنبي خارج أوطانهم، في ظل اعتماد الكثير من الصناعات على العمالة الأجنبية بدءاً من الرعاية الصحية ووصولاً إلى الزراعة.
وبلغت حوالات المُهاجرين إلى العالم النامي في عام 2019 رقماً قياسياً وصل إلى 550 مليار دولار، ويُمثّل الرقم انتقالاً هائلاً للثروة يفوق حجم الاستثمارات المباشرة والمعونات الأجنبية لتلك الدول.
لكن العاملين بدأوا في العودة إلى أوطانهم بعد أن خلّف الركود الاقتصادي العالمي ملايين العاطلين الجُدد. وزاد ذلك النزوح العكسي من وطأة الضغط الاقتصادي على العالم النامي؛ لأنه خفض حجم مدفوعات الحوالات التي كان المُهاجرون يرسلونها إلى أوطانهم.
تدفّق الأموال
وخارج الشرق الأوسط، فرّ نحو 60 ألف فنزويلي من نظام الزعيم نيكولاس مادورو واقتصاد البلاد الكارثي، قبل أن يعودوا مؤخراً من البلدان المُجاورة إلى وطنهم. وسيُرسل من تبقى في الخارج من الفنزويليين نحو 2.4 مليار دولار إلى أوطانهم هذا العام، بحسب تقديرات شركة Ecoanalitica للاستشارات التجارية، أي نصف المبلغ الذي كان مُتوقّعاً قبل الجائحة.
كما عاد نحو 27 ألفاً من أصل 500 ألف من الهايتيين الذين يعيشون في جمهورية الدومينيكان إلى أوطانهم منذ منتصف مارس/آذار، ويتوقّع الخبراء استمرار حركة عبور الحدود على جزيرة هيسبانيولا التي تتشاركها الدولتان. وتُشكّل حوالات المهاجرين من عمالة هايتي نحو ثُلث إجمالي الناتج المحلي للبلاد.
وتضرب دول الخليج مثلاً صارخاً في الاعتماد على العمالة المهاجرة. إذ نجد أنّ 80% من أصل تسعة ملايين مقيم على أرض الإمارات هم أجانب المولد. ورغم صغر مساحتها، لكن الإمارات هي ثاني أكبر دول العالم من حيث حجم حوالات المهاجرين إلى الخارج بعد الولايات المتحدة.
والآن تتصارع السلطات الخليجية مع حكومات الدول الأخرى حول كيفية إدارة الأعداد المتزايدة من المهاجرين العاطلين عن العمل.
فعلى سبيل المثال، تحوّل مصير المهاجرين إلى قضيةٍ شائكة بين الإمارات وباكستان. إذ اتّهمت إسلام آباد الدولة الخليجية بإرسال طائرات مُحمّلة بالركاب المُصابين بكوفيد 19، قائلةً إنّ الاختبارات التي أُجرِيَت فور وصولهم إلى باكستان أثبتت إصابة نصف الركاب بالفيروس.
كما أغلقت الهند حدودها بالكامل أول الأمر -حتى في وجه مواطنيها- من أجل احتواء الفيروس. وفي الوقت ذاته، هدّدت الإمارات بتقليل أعداد عمال الدول غير الراغبة في إعادة مواطنيها.
ومع ذلك، ما زال يجب على المهاجرين تحمّل كلفة العودة إلى أوطانهم.
إذ فقد أنو توماس وظيفته في متجر أجهزة حين دخلت دبي في حالة إغلاق، ولا يستطيع تحمّل تكلفة تذكرة الطيران له ولزوجته وابنتيه من أجل العودة إلى وطنهم، إذ يصل سعر التذكرة إلى نحو 200 دولار للفرد الواحد. ويأمل أن تُسدّد حكومته قيمة الفاتورة.
وإلى جانب الـ300 ألف هندي وباكستاني الذين طلبوا العودة، هناك نحو 75 ألف عامل غير إماراتي سافروا على متن رحلات خاصة للعودة إلى الوطن منذ علّقت الإمارات خدمات الركاب العادية في الـ25 من مارس/آذار.
تراجع كبير في التحويلات
ونتيجةً للانكماش ونزوح العمال، تراجعت حوالات المهاجرين من الإمارات إلى الهند والفلبين وباكستان بنحو 40% خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري، وباتت في طريقها إلى الانخفاض بنسبة 25% هذا العام مقارنةً بالعام الماضي وفقاً لما أفاد به المدير الإداري لشركة Lulu Financial Group للعملات والحوالات أديب أحمد.
وجرى فصل الآلاف من الفلبينيين العاملين في الخارج من وظائفهم، لكنهم ما يزالون عالقين داخل الخليج في ظل تشديد إجراءات الدخول في أوطانهم. إذ حدّدت الحكومة الفلبينية أعداد الرحلات التجارية إلى البلاد، مع استقبال المطار الرئيسي لـ400 راكب فقط من تلك الرحلات يومياً بهدف تجنّب زيادة الضغط على مراكز الحجر الصحي وضمان إجراء الاختبارات على كافة رحلات الوصول.
إذ سُرّحَت المهاجرة الفلبينية شيفيل بيغلين مؤقتاً من وظيفة موظفة استقبال في دبي، وتوقّفت عن إرسال المال إلى وطنها. بينما يعمل زوجها الحرفي نصف الساعات التي اعتادها داخل مجمع تجاري فندقي ولا يكسب سوى 900 درهم (250 دولاراً) في الشهر، أي نصف تكلفة الإيجار والمرافق شهرياً.
وبدلاً من إرسال 600 دولار شهرياً إلى أطفالهم الثلاثة في الفلبين، طلبت شيفيل من أقاربها للمرة الأولى أن يُحوّلوا لها الأموال إلى دبي حتى تدفع الإيجار. وتخشى شيفيل وزوجها عدم العثور على وظائف في حال اضطروا للعودة إلى الفلبين.
واضطرت الفلبين إلى تعليق رحلات العودة إلى الوطن في وقتٍ مُبكّر من الشهر الجاري لأن مرافق الحجر الصحي اكتظّت بالمواطنين العائدين.
ولا شكّ أنّ نموذج العمالة في الإمارات والدول الخليجية قد تعرّض لصدماتٍ من قبل، حيث أدّت الأزمة المالية السابقة والانهيارات في أسعار النفط إلى تدفّق المهاجرين من ذوي الدخول المنخفضة والمغتربين من ذوي الياقات البيضاء، لكنّ النموذج كان يسترد عافيته لاحقاً. أما هذه المرة، فقد ابتلعت الجائحة صناعات مثل السياحة والضيافة.
وربما يميل العديد من العمال ذوي الدخل المنخفض إلى العودة للخليج بعد الرحيل، لأنّ الأجور هناك تكون أعلى في المعتاد من الأجور في أوطانهم بحسب الاقتصادي جيسون توفي من شركة Capital Economics. لكنّه حذّر قائلاً: "يكمُن السؤال المُهم هنا في ما إذا كانت ستتوافر لهم وظائف هناك من الأساس".