كيف سيتم توزيع لقاح كورونا المنتظر إذا تم التوصل إليه؟ ماذا لو قررت بعض الدول احتكاره لسكانها، أو فرضت بعض الشركات أسعاراً باهظة لا يمكن للإنسان العادي تحمُّلها؟
تثور هذه التساؤلات مع استمرار السباق إلى لقاح فعال لعلاج كوفيد-19، المرض الذي يسببه فيروس كورونا المستجد، والذي تخوضه عشرات المؤسسات الأكاديمية والشركات في مختلف أنحاء العالم باذلةً قصارى جهدها للتوصل إليه، وقد وصلت ثمانية لقاحات محتملة على الأقل أو تقترب من مرحلة التجارب السريرية.
كما أن ثمة محاولات مماثلة لتطوير عقاقير مضادة للفيروسات وغيرها من العلاجات- ولتغيير الغرض من العلاجات الحالية- لعلاج المصابين بفيروس كورونا.
وإذا أمكن التوصل إلى لقاح أو علاج أو كليهما، فإن المهمة التالية -وربما الأكثر صعوبة- ستكون إنتاج الأدوية وتوزيعها بشكل عادل على مستوى العالم. وستتطلب تلك المهمة براعة وتعاون عالميَّين للتغلب على عديد من العقبات المحتملة، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Affairs الأمريكية.
"لن نعطي اللقاح إلا لمواطنينا".. أزمة متوقعة بسبب توزيع لقاح كورونا المنتظر
يمكن أن تحاول إحدى البلدان قصر توزيع اللقاح على نفسها ومواطنيها. وبالمثل، قد تعيق حقوق الملكية الفكرية للقاحات أو الأدوية وصولها إلى الفقراء والضعفاء، أو قد تتعطل سلاسل التوريد العالمية، التي تعرضت بالفعل لضغوط شديدة في أثناء جائحة كوفيد-19، مما يمنع توزيع هذه اللقاحات في الوقت المناسب.
وأفضل طريقة لضمان توفير اللقاحات والعلاجات لجميع من يحتاجونها، مثل بلدان العالم النامي، هي أن تلتزم البلدان بالتعاون بعضها مع بعض، بما يتوافق مع قواعد منظمة التجارة العالمية، كي لا تصبح قيود التجارة وحقوق الملكية الفكرية عائقاً أمام الصحة العامة.
دروس من أزمة الإيدز.. 10 آلاف دولار للفرد
في يوليو/تموز عام 2000، مع اقتراب وباء فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز من ذروته، اجتمع العلماء وخبراء الصحة العامة والساسة من مختلف أنحاء العالم لحضور مؤتمر الإيدز الدولي الثالث عشر في ديربان، بجنوب إفريقيا. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يُعقد فيها هذا المؤتمر في بلد نامٍ، فضلاً عن أنه كان أحد البلدان التي تضم معدلات إصابة مرتفعة بفيروس نقص المناعة البشرية، وساعد المؤتمر على تركيز انتباه الجمهور على الفوارق العالمية المقلقة في الحصول على العلاج.
ففي إفريقيا، القارة الأكثر تضرراً من الإيدز، كان المرض متفشياً لدرجة أن 15% من الأطفال في أوغندا تيتَّموا بسبب المرض، وأصيب به أكثر من 35% من البالغين في بوتسوانا. لكن التركيبة المضادة للفيروسات المكونة من ثلاثة أدوية ART، واللازمة لعلاج المرض، كانت تكلف حينذاك أكثر من 10 آلاف دولار للشخص الواحد في السنة، وهو أكثر بكثير مما يستطيع 99% من الـ25 مليون شخص المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية تحمُّل تكلفته.
نقطة تحوُّل في تاريخ الأدوية
وقد أدان قاضي المحكمة العليا في جنوب إفريقيا، إدوين كاميرون، في خطاب ألقاه بمؤتمر ديربان، "الظلم المروع والوحشي" لنظام التجارة العالمي الذي فشل في تزويد مرضى الإيدز المحتضرين في البلدان الفقيرة بخيارات علاجية ميسورة التكلفة.
وحمّل كاميرون وغيره من القادة ونشطاء المجتمع المدني في البلدان الأكثر تضرراً، الشركات الغربية التي تتحكم في براءات الاختراع واتفاقية منظمة التجارة العالمية حول الجوانب التجارية المتعلقة بالملكية الفكرية TRIPS، مسؤولية ارتفاع أسعار الأدوية وصعوبة الحصول عليها. ويُشار إلى أن اتفاقية TRIPS- التي دخلت حيز التنفيذ عام 1995، وهو العام نفسه الذي تأسست فيه منظمة التجارة العالمية- ألزمت عديداً من البلدان النامية بحماية براءات اختراع العقاقير الدوائية للمرة الأولى؛ لضمان حق شركات الأدوية في فرض السعر الذي يتحمله السوق.
شكّل مؤتمر الإيدز في ديربان نقطة تحول في الرأي العام العالمي. وتصاعد الشعور بالغضب إزاء وفيات الإيدز التي يمكن تجنبها في البلدان الفقيرة، وبدأت شركات الأدوية ومنظمة التجارة العالمية في الاستجابة. إذ أُسقطت القضايا المرفوعة ضد الحكومتين البرازيلية والجنوب إفريقية عام 2001؛ لمحاولتهما توفير الدواء بأسعار منخفضة، وفي ذلك العام، بدأت شركة الأدوية الهندية Cipla في تقديم نسختها من التركيبة المضادة للفيروسات العكوسة ART مقابل 350 دولاراً لكل مريض سنوياً.
ونتج عن الاجتماع الوزاري لمنظمة التجارة العالمية بالعاصمة القطرية الدوحة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2001، إعلانٌ مفاده أن اتفاقية TRIPS "يمكن وينبغي تفسيرها وتنفيذها بطريقة تدعم حق أعضاء منظمة التجارة العالمية في حماية الصحة العامة، وعلى وجه الخصوص، تعزيز وصول الأدوية للجميع".
حقوق الملكية الفكرية التي تؤدي إلى الموت
وقد أثارت أزمة الإيدز أسئلة عميقة حول الدور الذي يجب أن تساهم به حقوق الملكية الفكرية في خضم حالة طوارئ صحية عالمية، وحول المسؤوليات التي ينبغي لدول عضوة في مجتمع عالمي مترابط أن تتحملها تجاه معظم أعضائه الضعفاء.
تلزم قواعد الملكية الفكرية التي وضعتها منظمة التجارة العالمية إياها بمنح الحماية التي توفرها براءات اختراع لجميع الابتكارات التكنولوجية، ومن ضمنها الأدوية واللقاحات، التي تلبي المعايير الأساسية. ولكن لأن البراءات تحمي حقوق الاحتكار، فإنها تؤدي إلى توتر متأصل بين حماية الملكية الفكرية والحاجة إلى صنع وتوزيع الأدوية بأسعار معقولة. وعادة ما تُحلُّ هذه التوترات عن طريق الترخيص، الذي يمكّن حامل براءة الاختراع من السماح للآخرين بصنع أو بيع المنتج المحمي، عادة بسعر مرتفع وبإشراف من صاحب البراءة؛ لضمان مراقبة الجودة.
غير أن هناك آلية تسمح باستثناءات لإنتاج الأدوية عبر التراخيص الإجبارية
ولكن قد تحاول بعض الشركات أو الحكومات في بعض الأحيان الحصول على ترخيص مطلوب على وجه السرعة، لإنتاج لقاح ينقذ الأرواح على سبيل المثال، ولكنها تفشل في ذلك. وفي هذه الحالة، بموجب اتفاقية TRIPS، بإمكان الحكومات التي تواجه حالة طوارئ صحية إصدار ما يسمى التراخيص الإجبارية للشركات المحلية، لتمكينها من تصنيع منتجات حاصلة على براءة اختراع دون موافقة أصحاب البراءات.
وبموجب اتفاقية TRIPS، لا تُمنح التراخيص الإجبارية إلا بموجب شروط صارمة، ولكن التركيز المتزايد لمنظمة التجارة العالمية، عقب اجتماعها في الدوحة عام 2001، على المرونة في تفسير القوانين لتلبية احتياجات الصحة العامة، شجَّع شركات الأدوية على إعادة دراسة نهجها. ورغبةً منها في تجنُّب تلطيخ سمعتها والتكلفة المالية المرهِقة للترخيص الإجباري، تبنَّت عديد من شركات الأدوية الرائدة، من تلقاء نفسها، نهجاً أكثر تساهلاً في منح التراخيص؛ مما أدى إلى تخفيضات كبيرة في أسعار الأدوية.
وبحلول عام 2011، انخفضت التكلفة السنوية لأدوية فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز في إفريقيا إلى 100 دولار فقط لكل مريض سنوياً، وكان غالبية المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى يحصلون على العلاج.
والآن هناك مجمع لبراءات اختراعات الأدوية
ساعدت أزمة الإيدز في إثارة حوار أكثر صراحة وموضوعية حول التكاليف والمخاطر المرتفعة لابتكار الأدوية وإنتاجها وتوزيعها. إذ إن تقديم دواء جديد إلى السوق يكلف شركة الأدوية ما يقرب من مليار دولار، في المتوسط، وتطوير اللقاحات- التي تعد أكثر خطورة وتتطلب اختبارات أكثر تعقيداً- ما يزال أعلى تكلفة بشكل عام. وفي أعقاب أزمة الإيدز، تعاونت الحكومات والمنظمات الدولية لمساعدة مُصنّعي الأدوية على تجاوز العوائق التقنية واستيعاب المخاطر.
وتنشأ بعض هذه المخاطر والعوائق من قيود الملكية الفكرية، وظهرت المنظمات التعاونية للمساعدة في معالجة هذه القيود. وأحد هذه المنظمات هو مُجمّع براءات اختراع مدعوم من الأمم المتحدة تأسس عام 2010، لتمكين شركات وحكومات عدة من مشاركة الابتكارات والتراخيص في الطب. تأسس المجمع الذي سُمي "مجمع براءات اختراعات الأدوية"، لتسريع الحصول على علاجات فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، ووسعّت المنظمة مؤخراً نطاق سلطتها لتشمل اللقاحات والعلاجات والتشخيصات للمساعدة في المواجهة العالمية لكوفيد-19.
والآن هناك تجمُّع خاص بمرض كورونا المستجد.. رخصة مؤقتة للجميع لمدة عام
وفي أبريل/نيسان 2020، أنشأت مجموعة من العلماء ومحامو الملكية الفكرية منظمة Open COVID Pledge، التي تشجع الشركات والمؤسسات البحثية على إتاحة حقوق ملكيتها الفكرية مجاناً بصفة مؤقتة لاستخدامها في إنهاء جائحة كوفيد-19.
ويعتمد أولئك المتعهدون رخصة تستمر حتى عام بعد إعلان منظمة الصحة العالمية انتهاء جائحة فيروس كورونا، وعندها بإمكان الشركات العودة إلى امتلاك التراخيص التجارية لملكيتها الفكرية وطلبها.
هل تضعف همة شركات الأدوية في العمل على تطوير اللقاحات جراء عدم احتكارها براءات الاختراع؟
من الطرق الممكنة لتعويض هذه المثبطات تقديم جوائز مالية كبرى لأولئك الذين يخترعون لقاحاً. وأما أولئك الذين ينتابهم القلق بشأن عدم المساواة رغم أفضل الابتكارات والنوايا، فيمكنهم اللجوء إلى الملاذ الأخير المتمثل في التراخيص الإجبارية، ووجودها، ووجود اتفاقية TRIPS الخاصة بمنظمة التجارة العالمية بشكل عام، يوفر الأمن لعديد من الأطراف التي تتعاون الآن لإنتاج وتوزيع لقاح أو علاج لكوفيد-19.
والآن بإمكان مبتكري اللقاح أن يطمئنوا إلى أن حقوقهم محمية، بينما بإمكان الدول الفقيرة الاعتماد على توافر العلاجات المُنقذة للأرواح بموجب ترخيص إلزامي إذا فشلت كل الإجراءات الأخرى.
إن اللقاحات ومضادات الفيروسات هي أمل العالم الأكبر لإنهاء هذه الجائحة، ويتطلب تطويرها وتوزيعها على النحو المطلوب تعاوناً عالمياً على نطاق غير مسبوق. ويتطلب تنسيق هذه الجهود من الشركات والحكومات التعاون معاً وفقاً لقواعد منظمة التجارة العالمية. وكما تبين من التجربة التي خاضها العالم خلال وباء الإيدز، فإن المواجهة الناجحة لتهديد يواجه الصحة العامة العالمية تتطلب مزيداً من الاستثمار في التعاون.
وخلال الأزمة الحالية، يجب أن يعتمد العالم على منظمة التجارة العالمية؛ للحفاظ على استمرار سلاسل التوريد المهمة، والحيلولة دون لجوء البلدان إلى حظر التصدير أو تخزين اللقاح، وتوفير إطار مرن للتجارة والتعاون.
ويجب أن يتعاون قادة منظمة التجارة العالمية ومنظمة الصحة العالمية ودول مجموعة العشرين والحكومات معاً لضمان التوزيع العالمي الفعال والعادل للقاحات والأدوية والابتكارات الأخرى الضرورية لمواجهة كوفيد-19. ولا بد أن العالم يأمل أن تلبي الحكومات هذه الدعوة.