مع بدء دول العالم في رفع إجراءات الإغلاق التام التي تم فرضها للحد من انتشار الوباء القاتل، وسط تحذيرات من خطورة الفيروس وحتمية اتخاذ تدابير وقائية صارمة للتعايش معه، تتزايد أعداد أصحاب نظريات المؤامرة ويعلو صوتهم، فكيف يمكن التعامل مع هؤلاء؟
العالم يفتح أبوابه تدريجياً
السؤال الآن لم يعد يتعلق بـ"هل يجب أن يعيد العالم فتح أبوابه ورفع الإغلاق المفروض على الأنشطة الاقتصادية من جراء جائحة كورونا ولا حتى متى يجب أن يحدث ذلك"، فقد بدأت دول العالم بالفعل -وإن بدرجات متفاوتة- فتح الباب تدريجياً، ولنبدأ من إيطاليا.
السبت 16 مايو/أيار، قال رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي، إن بلاده أقدمت على مخاطرة محسوبة، بتقليص تدابير العزل العام ابتداء من الأسبوع الجاري، مع تراجع عدد الوفيات من جراء مرض كوفيد-19 لأدنى مستوى له منذ التاسع من مارس/آذار، وقال كونتي في مؤتمر صحفي لإعلان تفاصيل الإجراءات التي اتخذتها روما لاستئناف معظم الأنشطة الاقتصادية ورفع القيود على تنقُّل الناس: "نواجه مخاطرة محسوبة، مدركين أن المنحنى الوبائي قد يرتفع مرة أخرى".
وبحسب خطة التعايش، ستفتح المتاجر أبوابها الإثنين 17 مايو/أيار، كما قال كونتي إنه سيتم السماح بالتنقل بين دول الاتحاد الأوروبي ابتداء من الثالث من يونيو/حزيران، دون أن يقضي من يدخلون إيطاليا فترة في الحجر الصحي، كما سيتم السماح باستئناف النشاط في صالات الألعاب الرياضية وحمامات السباحة والمراكز الرياضية الإثنين 25 مايو/أيار، في حين سيتم السماح بإعادة فتح المسارح ودور السينما ابتداء من 15 يونيو/حزيران.
وفي فرنسا، فتحت السلطات الفرنسية شواطئ الريفيرا للمرة الأولى منذ إجراءات العزل العام في منتصف مارس/آذار، حيث تمكّن المصطافون من السباحة بالبحر وظهر كثيرون وهم يرتدون الكمامات.
وتمكَّن السكان المقيمون في المناطق ذات الإصابات المنخفضة والتي تسمى المناطق الخضراء، من زيارة الشاطئ بعد تخفيف القيود الإثنين الماضي، كما أعادت السلطات المحلية فتح شواطئ محددة في شمال فرنسا والشواطئ المطلة على البحر المتوسط، السبت.
وجاء فتح الشواطئ مصاحباً لإجراءات شملت السماح بالأنشطة الفردية كالسباحة والصيد، بشرط الالتزام بالتباعد بين الأفراد، لكنها حظرت حمامات الشمس والجلوس على الشواطئ لساعات، وقال أحد المصطافين المحليين لـ"رويترز": "أشعر بضيق بعض الشيء. استطعنا السباحة هذا الصباح والاستمتاع بالبحر الذي لم نره قرابة شهرين. (لكن) لا يمكننا مع ذلك أخذ حمام شمس..نحن شبه أحرار".
وقال وزير الداخلية كريستوف كاستنيه: "الفيروس لا يزال موجوداً. ينبغي أن نتعلم التعايش معه… نحن جميعاً مسؤولون عن محاربة كوفيد-19"، في إشارة إلى المرض الناتج عن الإصابة بالفيروس، كما حذَّر الوزير من أن عدم احترام القواعد سيدفع السلطات "للتراجع عن قراراتها".
تزايد الاحتجاجات
الأمر نفسه ينطبق على بريطانيا وألمانيا وبقية دول أوروبا، لكن اللافت هو زيادة أعداد المحتجين على إجراءات التباعد الاجتماعي وغيرها من الضوابط التي تهدف إلى حماية المواطنين من خطر الوباء، الذي يقول خبراء الصحة إن خطره قائم وسيظل حتى يتم التوصل للقاح.
ففي ألمانيا، تجمَّع الآلاف في شوارع عدة مدن؛ للاحتجاج على خطط تلقيح محتملة أو وسائل رقابة مفترضة قد تعتمدها الدولة في إطار الوقاية من تفشي الوباء، بحسب تقرير لوكالة فرانس برس، واللافت أن أعداد الرافضين لهذه الإجراءات قد ارتفعت من عشرات الأشخاص في البداية لتصل إلى 5000 شخص في ميونيخ وشتوتغارت، و1500 شخص في فرانكفورت. ورفع المتظاهرون شعارات مشككة في فيروس كورونا وإجراءات الوقاية منه.
وفي بريطانيا، ألقت شرطة لندن القبض على 19 شخصا السبت؛ لخرقهم عمداً إرشادات التباعد الاجتماعي؛ احتجاجاً على القواعد، في أول عطلة نهاية أسبوع منذ أن أعلن رئيس الوزراء بوريس جونسون، تخفيفاً طفيفاً للإجراءات، بحسب رويترز.
وهذه النوعية من الاحتجاجات تتزايد حدَّتها ويرتفع أعداد المشاركين فيها أيضاً في الولايات المتحدة الأمريكية، على الرغم من إصابة أكثر من مليون ونصف المليون بالوباء القاتل الذي أودى بحياة ما يقرب من 90 ألف أمريكي، والأمر نفسه يحدث في البرازيل، التي شهدت ارتفاعاً مخيفاً في أعداد المصابين والوفيات، كما شهدت استقالة وزير الصحة، وهي الاستقالة الثانية من المنصب، بسبب الاختلاف السياسي حول كيفية الاستجابة للوباء.
اليمين المتطرف ونظريات المؤامرة
ينظم تلك الاحتجاجات ويقف وراءها تيارُ اليمين المتطرف حول العالم، ويعتبر هذا نتاجاً لقيام قادة وزعماء سياسيين ينتمون في أفكارهم إلى ذلك التيار، وأبرزهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره البرازيلي جاير بولسونارو، وفي أوروبا يقوم قادة الأحزاب المنتمية إلى اليمين الشعبوي المتطرف بتغذية نظرية المؤامرة بشأن الفيروس.
الاحتجاجات في ألمانيا شهدت رفع لافتات تشكك في الفيروس، من قبيل "كورونا زائف"، وهو ما يثير قلقاً متصاعداً لدى المستشارة أنجيلا ميركل، خصوصاً أن استطلاعاً بتكليف من مجلة "دير شبيغل"، أظهر مؤخراً أن نحو ألماني واحد، من أصل أربعة تم استطلاع آرائهم، أعرب عن تفهّمه للمظاهرات، وهو ما أثار صدمة الطبقة السياسية، وذكرت تقارير أن ميركل تحدثت مع كبار المسؤولين في حزبها المسيحي الديمقراطي (يمين وسط) عن الاتجاه "المقلق" الذي قد يحمل طابع حملات التضليل الروسية.
كانت ألمانيا من أوائل الدول حول العالم التي اتخذت إجراءات غير مسبوقة لتجميد الحياة العامة، وصحيحٌ أن الغالبية تدعم هذه الخطوات وتمنح حكومة ميركل تأييداً واسعاً، إلا أن هناك معارضة تتشكّل، خصوصاً عبر الإنترنت، وتجذب تسجيلات مصورة على "يوتيوب" تُدافع عن نظريات مؤامرة أو تقدِّم نصائح صحية زائفة عشرات الآلاف من المتابعين.
وفي مسعى لمواجهة الادعاءات غير المتسقة، قال الرئيس الألماني فرانك-فالتر شتاينماير، إنه على الرغم من أنه ليس طبيباً، يمكنه تأكيد أن "الكمامة الواقية غير المريحة والمزعجة موصى بها أكثر من وضع قبّعة مصنوعة من القصدير".
لكن حزب البديل من أجل ألمانيا وهو أكبر الأحزاب اليمينية في البلاد، يقف بشكل علني إلى جانب المتظاهرين المشككين في الفيروس والرافضين لإجراءات الحماية منه، وقال الرئيس المشارك للحزب ألكسندر غاولاند، إن "ممارسة الناس حقوقهم الأساسية والتظاهر ضد إجراءات كورونا أمر صحيح تماماً".
وأضاف أن مسؤولية أي انقسام في المجتمع في شأن المظاهرات يجب ألا تحمّل للمحتجين؛ بل لـ"الحملة الواسعة لتشويه سمعة المشاركين وتصويرهم على أنهم متطرفون يمينيون أو مجانين أو أصحاب نظريات مؤامرة".
القصة أكثر وضوحاً في البرازيل، حيث يقود الرئيس بولسونارو بنفسه احتجاجات ضد إجراءات الإغلاق التي فرضها حكام الولايات، وأقال وزير الصحة إنريكي مانديتا وعيَّن نلسون تيش بديلاً له، لكن نلسون استقال الجمعة 15 مايو/أيار أيضاً، بسبب خلافات حول إدارة جهود مكافحة الوباء الذي ارتفعت حالات الإصابة به بصورة صاروخية في الأسابيع القليلة الماضية، ليصل العدد إلى ما يقرب من ربع مليون شخص، وفاقت أعداد الوفيات 15500 شخص.
الرئيس يدين ما يسميها "الهستيريا" في مواجهة الوباء، ويصفه بأنه "إنفلونزا بسيطة"، ويدعو السكان إلى استئناف العمل، كما ينتقد باستمرارٍ إجراءات العزل التي اتخذها حكام معظم الولايات، خصوصاً ساو باولو وريو دي جانيرو الأكثر تضرراً، في وقت يحذِّر فيه العلماء من أن الأرقام الرسمية أدنى من الواقع بـ15 مرة على الأقل، في بلد يجري قليلاً جداً من الفحوص ولن يشهد ذروة الوباء قبل مطلع يونيو/حزيران.
بولسونارو يشجع على تنظيم التجمعات الصاخبة لمؤيديه الذين يتظاهرون في شوارع برازيليا أو ريو دي جانيرو ضد إجراءات العزل، كما صدم عديداً من البرازيليين أيضاً بممارسته رياضة التزلج على المياه أو تمارين رماية أو إقامة حفلات، في حين تعمل مستشفيات ريو دي جانيرو وساو باولو وولايات الشمال بأقصى طاقتها وأُنهكت طواقمها الطبية. والخميس الماضي طلب الرئيس من المتعهدين "الضرب بقوة" ضد الحاكم جواو دوريا، الذي فرض إجراءات عزل في ولايته ساو باولو التي تعد القاطرة الاقتصادية للبلاد، وسُجل فيها ثلث الوفيات.