اكتسب اليمين المتطرف في أوروبا وأمريكا شعبية متزايدة، وحققت أحزابه وجوداً كبيراً على الساحة السياسية، على خلفية رسائله المعادية للهجرة بشكل عام والمسلمين بشكل خاص، وفي بداية تفشي وباء كورونا ظل أنصار اليمين الشعبوي يوجهون سهامهم نحو الهجرة والإسلام أيضاً، لكن مع مرور الوقت وتراجع شعبية اليمين بشكل لافت مع ظهور الدور الحيوي للمهاجرين في حرب الوباء، وجّه اليمين المتطرف سهامه نحو الوباء ذاته، فما هي القصة؟
استهداف المهاجرين.. نتائج عكسية
في بداية الوباء وكعادة اليمين الشعبوي المتطرف، استغل قادته الموقف لتوجيه اللوم إلى "المشتبه بهم المعتادين"، حيث استغل ماتيو سالفيني زعيم اليمين المتطرف فيروس كورونا للترويج لسياساته المعادية للهجرة، وقام بنشر فيديو يوم 24 فبراير/شباط، لسفينة تحمل مهاجرين وصلت إلى إيطاليا، ملمحاً بشكل زائف أن المهاجرين هم السبب في تفشي الوباء.
في ذلك الوقت كان عدد المصابين بالعدوى في إيطاليا 200 شخص فقط، ولم يكن الوباء يمثل الخوف الأبرز، ووجدت رسالة سالفيني تفاعلاً كبيراً، وأعاد أنصاره نشرها عبر مواقع اليمين المتطرف وحسابات تويتر، كما استغل سالفيني وغيره من قادة اليمين المتطرف في أوروبا بدء الاتحاد الأوروبي التفكير في إغلاق حدوده لمواجهة التفشي، في التأكيد على أن المشكلة في الهجرة والمهاجرين.
لكن مع استمرار تفشي الوباء بصورة لم يكن أحد يتوقعها وانتشار الخوف مع الارتفاع المرعب في أعداد المصابين والوفيات، بدأ استهداف سالفيني ونظرائه من قادة اليمين المتطرف يأتي بنتائج عكسية، حيث كشف نواقص تلك الرسائل وتشتيتها عن معركة الوباء المستعرة، وهو ما أدى لتراجع حاد في شعبية التيار المتطرف، بحسب تقرير لمجلة فورين بوليسي الأمريكية بعنوان "كورونا يفضح السياسات الفارغة لليمين المتطرف"، كشف عن تراجع حاد في شعبية سالفيني لأدنى مستوياتها، منذ يولو/تموز 2018.
المهاجرون ومعركة الوباء
ومع تفاقم تفشي الوباء في إيطاليا وباقي دول أوروبا، أصبح دور المهاجرين في معركة كورونا ظاهراً ولا يمكن تجاهله مع المساهمات الحاسمة للعمال المهاجرين لدعم الاقتصادات المنهارة والخدمات العامة التي كان يمكن أن تتوقف والخدمات الصحية، ما وضع المهاجرين في الخطوط الأمامية في المعركة، بحسب تقارير للاتحاد الأوروبي، وقام زعماء فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها بتكريم كثير من المهاجرين لدورهم البطولي في المعركة.
وجد اليمين المتطرف نفسه فجأة في خلفية المشهد بسبب الوباء، كما جاء الإغلاق التام للحياة وتطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي بشكل حاسم ليحرم أنصار ذلك التيار من وجودهم في الشارع وعقد التظاهرات فلجأوا للإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، لكن رسائلهم القائمة على الأخبار المفبركة ورسائل الكراهية وجدت تضييقاً كبيراً من جانب تلك المنصات.
نظريات المؤامرة بشأن الوباء
ونشر موقع دويتش فيله الألماني تقريراً عن تراجع تأثير اليمين المتطرف بسبب الوباء وتحدياته، وكيف أنهم يحاولون استرجاع شعبيتهم من خلال استهداف الوباء ذاته ونشر نظريات المؤامرة، بحسب دراسات ونماذج من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا.
فقد شهدت بعض المدن الألمانية خلال الأسابيع الماضية تظاهرات تندد بالإغلاق العام وتقييد حرية التنقل وحرية التعبير، ورفع المتظاهرون شعارات تتهم الحكومة بالمبالغة في تشديد الإجراءات أو "استغلال الفيروس لقمع الحريات"، بينما وصف البعض الآخر طريقة التعامل مع الفيروس "بأنها أشد قسوة من الفيروس ذاته"، واللافت هنا أن نفس التوصيف كان قد جاء أولاً على لسان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أواخر مارس/آذار الماضي.
كما نشرت أليس فايدل، زعيمة الكتلة البرلمانية لحزب البديل اليميني الشعبوي تغريدة على تويتر تشكك في الرواية الرسمية حول الوباء، حيث وصفت الحجر الصحي "بحجر حرية التعبير".
وفي تصرح لرئيس مؤتمر وزراء داخلية الولايات الألمانية، غيورغ ماير، لصحف شبكة "دويتشلاند" الألمانية الإعلامية في (25 أبريل/نيسان 2020) وصف نظريات المؤامرة التي ينشرها اليمين الشعبوي بأن "كثيراً منها يعيد إلى الأذهان حركة "مواطنو الرايخ"، الذين سخرنا منهم في البداية، حتى انتشرت آراؤهم، وصار بعضهم مسلحاً في وقت ما"، مضيفاً أنه لهذا السبب "يتعين مراقبة أصحاب نظريات المؤامرة هؤلاء الآن".
وقالت بياته كوبر، الخبيرة في علم الاجتماع النفسي لموقع DW، إن أجواء الاحتجاجات الجديدة بأن كورونا ما هو إلا تذكير بأن الألمان "عاشوا قبل كورونا على وقع مزاج ساخن اجتماعياً"، وحذّرت دراسة أجرتها جامعة مونستر الألمانية بعنوان "الوباء واليمين الشعبوي" من تبعات نظريات المؤامرة التي ينشرها اليمين الشعبوي على المجتمع.
ويبرر خبراء عودة اليمينيين للتظاهر بمحاولة لتعويض تراجع تأثيرهم على مواقع التواصل الاجتماعي، ففي حوار لها مع إذاعة وتلفزيون وسط ألمانيا (mdr)، تفسر الخبيرة الألمانية بيا لامبرتي نجاح أصحاب نظريات المؤامرة في التأثير على المواطنين ودفعهم إلى التظاهر في الشارع بـ"الوضع الفوضوي ومشاعر الخوف السائدين، في وقت لا يعرف فيه المواطنون ماذا يفعلون".
الحكومة الفرنسية هي الهدف
أما في فرنسا، فيحاول اليمين المتطرف استغلال الوباء سياسياً، ففي حوار أجرته إذاعة "فرانس إنفو" مع مارين لوبان زعيمة التجمع الوطني، حاولت دعم المشككين في الروايات الرسمية حول الوباء، من خلال الدفاع عن أصحاب نظرية المؤامرة.
وعبّرت لوبان التي تنوي الترشح للانتخابات الرئاسية الفرنسية عن موقفها بالقول: "من حق المواطنين أن يتساءلوا إذا كان أصل فيروس كورونا طبيعياً أم أن مصدره من المختبر". وأضافت بأنه "لا يوجد هناك من يعرف حقيقة ما حدث فعلاً". وفي تغريدة لها على موقع تويتر كتبت لوبان "ما لا أستطيع تحمله منذ بداية هذه الأزمة الصحية هو الأكاذيب المتتالية التي يتم إيصالها للفرنسيين بشكل مستمر. هذا الأمر كسر الثقة بين الفرنسيين وقادتهم".
اليمين الإيطالي يستهدف أوروبا
وباء كورونا في إيطاليا أودى بحياة أكثر من 31 ألف مواطن وأصاب أكثر من 222 ألفاً، وكانت أول دولة أوروبية تتعرض لتلك الكارثة، وفي البداية كان المهاجرون هدفاً لليمين المتطرف وزعيمه سالفيني وغيره، لكن مع تفاقم التفشي والدور البطولي للمهاجرين لم تعد رسائل اتهام الهجرة بالتسبب في الوباء تجد صدى، كما أن مهاجمة الحكومة -كما حدث في فرنسا- لم يمكن ليجدي، لذلك وجه سالفيني وأنصاره سهام النقد إلى أوروبا، وبدأت نظريات المؤامرة الموجهة نحو قيام ألمانيا بمنع المساعدات من الاتحاد الأوروبي عمداً.
ووصف الصحفي الإيطالي أولغيش لادورنر، بمقال له على موقع صحيفة "دي تسايت"، استغلال اليمين المتطرف في إيطاليا لأزمة كورنا، بأن رسالتهم لم تتغير "فسواء تعلق الأمر بأزمة اليورو، أو أزمة الهجرة، أو الآن مع كورونا، يسعى اليمين لإرسال رسالة مفادها أن الأوروبيين يتركون إيطاليا تواجه مصيرها بمفردها، وأن الاتحاد الأوروبي ليس سوى مشروع لضمان سيادة ألمانيا على أوروبا".
لكن في جميع الأحوال يظل اليمين المتطرف متمسكاً برسالته الشعبوية، القائمة على نظريات المؤامرة ونشر الأكاذيب وتشويه الهدف -أياً كان- باستخدام لغة خطابية رنّانة من جانب زعمائه، يروج لها أنصاره بغض النظر عن الهدف، الهجرة أو الإسلام أو كورونا لا يهم.