تستحضر الجزائر اليوم، 8 مايو/أيار 2020، الذكرى الـ75 لواحدة من أفظع المجازر التي شهدتها البشرية وارتكبتها آلة الاستعمار الفرنسي خلال فترة الاستعمار (1830-1962)، والتي سقط فيها ما يزيد على 45 ألف شهيد جزائري، أغلبهم من الشباب والنساء والأطفال.
ومع حلول الذكرى يستحضر كل من المجاهدَين أحمد مسوس ولحسن اسعادي، أحد شهود العيان الذين حضروا المجازر، الذكرى بتفاصيلها، والتي حوَّلت فرحة الجزائريين بانتصار التحالف الفرنسي على النازية الألمانية؛ لكونه كان شرطاً لمنح الجزائر الاستقلال حينها، إلى أنهار من الدماء والآلاف الذين استشهدوا بأبشع الطرق.
"عربي بوست" هو الآخر عاش مع هذه الشهادات الحية جزءاً من تفاصيل المجازر، والذي حاول نقل مشاهد منها من الشهود.
"تُقتل وهي حامل أمام أعين أهل قريتها"
في قرية أفتيس الهادئة والتابعة لشمال سطيف شرق الجزائر (350 كم)، وفي صباح الثامن من مايو/أيار 1945، تنهض يامينة شقرة وهي شابة يافعة متزوجة حديثاً حينها، وتنتظر مولوداً، تنهض كعادتها لتربط عنزتها في الحقل المجاور للبيت.
في تلك الأثناء يروي المجاهد لحسن اسعادي، أحد شهود العيان على المجازر، لـ"عربي بوست": "بدأت أخبار الانتصار الفرنسي على ألمانيا تعم الأرجاء، وبدأ الجميع يحلم باستقلال كانت قد وعدتهم به فرنسا في حال تحقق ذلك النصر".
يامينة في حقلها، كانت إحدى أكثر الفرِحات بالخبر، وعادت مسرعة إلى المنزل، لتخبر من بالبيت بما سمعت، لدرجة أن الزغاريد تعالت بعدد من المنازل في القرية؛ أملاً في التخلص من قيد الاستعمار الفرنسي.
الفرحة لم تدم طويلاً، والمجاهد لحسن اسعادي ذو الـ12 عاماً حينها، يؤكد أن "حركة غير عادية بدأت لطائرات في الأجواء، وعربات على الأرض، على طول المسافة الفاصلة بين منطقة خراطة التاريخية ومنطقة أفتيس، ما كان يوحي بأمر جلل".
الساعة تشير إلى حدود الحادية عشرة قبل الظهر، يامينة الحامل تتوجه إلى الحقل المجاور لإعادة عنزتها إلى البيت، وفي طريق العودة تُصادف عربة للجيش الفرنسي، سألها راكبوها عن زوجها فأبت الإفصاح، قبل أن ينزل أحد العساكر ويوجه لها طعنة بالسكين مكان الحمل، وأتبعها بطلقات رصاص أردتها أرضاً.
هنا تأكَّد أهل القرية، حسب لحسن اسعادي، أن "الاستعمار يخطط ليوم أسود، وطويل على الجزائريين، خاصةً أبناء القرية المعزولة، قبل أن تبدأ الأخبار تتوالى عن كون الاستعمار قتل الآلاف بكل من سطيف، وقالمة وخراطة، وهي كلها مناطق بالشرق الجزائري".
"يُقذف في النار"
لم يتوقف جنود المستعمر الفرنسي عند جريمة قتل يامينة، بل امتدت جرائمه لتشمل أكثر من 75 حالة اغتيال فردية وجماعية بقرية أفتيس المجاهدة، وما يتذكره لحسن اسعادي هو قصة شيخ كان يعمل في جمع العشب الجاف لاستعماله في تغذية مواشيه.
فمحمد كان يبني بما يسمى بالأمازيغية "أنار"، أي المكان الذي يُجمع فيه العلف والقرط، ويتم تغليفه بعشبة تدعى "الديس"، لمنع تسرب الماء إلى الداخل، باغتته قوات المستعمر الفرنسي.
دار حوار بين محمد وعدد من الجنود لم يُعلم فحواه، جمعوا أهل القرية ليكونوا شهوداً على الجريمة، وأضرموا النيران في ذلك الكوخ القصبي قبل أن يقذفوا محمداً داخله.
"لتبدأ بعدها حملة اعتقالات واغتيالات جماعية، لم تفرق بين الكبير والصغير، الرجل والمرأة، وتأكد الجميع أن فرنسا خانت العهد، وعادت إلى الجزائر بضغينة وحقد أكبر"، يضيف لحسن اسعادي.
"وُضعوا في أكياس وتم رميهم بالشعاب الجبلية"
مما يتذكره المجاهد لحسن اسعادي خلال ذاك اليوم حسب ما رآه، وما رُوي له، أن "عمليات القتل التي شهدتها قريتهم، أُتبعت بعمليات إبادة جماعية وبوحشية أكبر، لما تعمد المستعمر نقل عدد من أهل القرية والقرى المجاورة إلى خراطة التابعة لبجاية (380 كم شرق الجزائر)، وتم رميهم داخل السد وشعاب جبال المنطقة.
بعدما قتلوا، وحرقوا، واعتقلوا عشرات من أهل المنطقة، أوهموا عدداً من الشباب والرجال، بمساعدة القوات الاستعمارية لجلب السلاح من باخرة حطت على شاطئ مالبو في بجاية.
لكن مكر المستعمر الفرنسي فاق كل التوقعات، إذ قام بحمل أبناء المنطقة بالمركبات وتم تحويل عدد منهم إلى سد إيغيل آمده (اسم أمازيغي ويعني ذراع البركة)، حيث تم رميهم هناك بدم بارد، ويُجهل مصيرهم إلى يومنا هذا".
العدد الذي واصل الرحلة ظنوا أنهم يُقتادون حقاً لجلب السلاح من باخرة فرنسية بشواطئ بجاية، لكنهم حُولوا إلى شعاب بجبال خراطة والتي باتت منذ ذلك اليوم تسمى "شعبة الآخرة"؛ نظرا إلى ما عاشوه من لحظات مرعبة.
قام الجنود بوضع الجزائريين داخل أكياس، ومن ضمنهم ابن عمه عاشور، وإغلاقها بإحكام، ثم رموهم إلى أسفل الوادي الحجري، وهناك جثث جرَّها السيل الى البحر، ويُجهل مصيرها إلى يومنا هذا.
عدد الشهداء الذين سقطوا من أبناء قرية أفتيس وحدها يفوق 120 شهيداً.
استشهاد 8 من أفراد عائلته أمام عينيه
في يوم المجزرة نفسه، كان المجاهد أحمد بومسوس، صاحب الـ19 عاماً حينها، من بني عزيز بسطيف شرق الجزائر، متوجهاً إلى الخدمة العسكرية المفروضة من قبل قوات الاستعمار الفرنسي.
بومسوس، الذي يبلغ حالياً عامه الـ94، فتح قلبه وذاكرته لـ"عربي بوست"، مؤكداً أنه كان شاهد عيان على مقتل 8 من أفراد عائلته وعمومته في يوم واحد.
ويروي أحمد بومسوس قائلاً: "في صباح الـ8 من مايو/أيار 1954، ودَّعت عائلتي وأنا متوجه إلى الخدمة العسكرية، وفي طريقي قابلني أحد الجزائريين اسمه بويحيى مسعود وهو على فرس ويكبّر الله، ويدعو إلى الجهاد، وأخبرني بأن فرنسا خانت العهد، وهي تقوم بقتل الجزائريين في كل مكان، خاصة في قلب عاصمة الولاية سطيف".
منذ ذلك الحين، يضيف بومسوس، "قررت الانضمام إلى صف الجهاد، وبدل التوجه إلى ثكنات الجيش الفرنسي، احتوتني جبال وغابات بني عزيز والدهامشة".
بعد ظهر اليوم الأول من القرار يردف، "كانت هناك جنازة عادية بقريتي (الروابحة)، باعتباري كنت فارّاً من قرار الخدمة العسكرية، كنت أتابع تفاصيل الجنازة عن بعد، إذ وبعدما بدأت آليات الجيش الفرنسي تتحرك، وصلتْ لمكان الجنازة بشعبة القربي مركبتان محملتان بالجنود، لم يتكلم أحد مع مشيعي الجنازة.
بعدها بدقائق وصل قائد برتبة (كولونيل) على متن سيارة ومعه شخصان، توقف أمام الجنازة، ومن دون سابق تفكير، أطلق النار على المشيعين؛ وهو ما أدى إلى استشهاد 4 من آل بومسوس".
واصل المجرمون الطريق، يقول أحمد بومسوس، "وعلى بُعد أمتار من الجريمة الأولى، يلتقي الكولونيل ورفاقه ابن عمي، وهو مختلٌّ عقلياً، حاولوا الحديث معه بكلام لم أسمعه، قبل أن يردوه قتيلاً بعيارات نارية".
وآخر فصول الجريمة التي طالت العائلة في يوم واحد يضيف: "لما أجهز المستعمر على ثلاثة من أفراد العائلة قرروا الاستقرار بنواحي منطقة الدهامشة؛ هروباً من الوضع في بني عزيز، ليرتفع عدد الأهل والأقارب الذين استشهدوا في يوم واحد إلى 8 أشخاص".
الجزائر تستحضر الذكرى افتراضياً
قررت الجزائر هذا العام إحياء ذكرى مجازر 8 مايو/أيار 1945، على منصات التواصل الاجتماعي، والمواقع الإلكترونية، بسبب جائحة كورونا وإجراءات الحجر الصحي.
وراسلت الداخلية الجزائرية ووزارة المجاهدين وذوو الحقوق إلى جميع الإدارات، لإحياء ذكرى المجازر بطريقة افتراضية، من خلال نقل الشهادات، والصور وفيديوهات توثق للمجزرة في كل ربوع الوطن.
كما سطَّرت اللجنة الوطنية لتحضير حفلات إحياء الأيام والأعياد الوطنية، إحياءً للذكرى الـ75 للمجازر، برنامجاً خاصاً يضم نشاطات وندوات تاريخية وعلمية، سيتم نشرها على المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي للمؤسسات التابعة لوزارة المجاهدين.
وأرغمت السلطات في الجزائر جُل البلديات والدوائر وكذا الولايات، على توثيق أعمال خاصة بالذكرى، مع وضع تقارير تخص ذلك.
الرئيس يأمر بفتح قناة تلفزيونية تاريخية
بعد الإعلان عن قائمة الخمسة المعنيّين بسباق الرئاسيات في الجزائر، أعلن الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، الخميس 8 مايو/أيار 2020، أنه أصدر قراراً باعتبار الثامن مايو/أيار من كل سنة، "يوماً وطنياً للذاكرة"، كما أعطى تعليمات بإطلاق قناة تلفزيونية وطنية خاصة بالتاريخ.
وقال تبون حسب ما نشرته وكالة الأنباء الرسمية: "أصدرت بهذه المناسبة قراراً باعتبار الثامن مايو/أيار من كل سنة، يوماً وطنياً للذاكرة، كما أعطيت تعليمات بإطلاق قناة تلفزيونية وطنية خاصة بالتاريخ، تكون سنداً للمنظومة التربوية في تدريس هذه المادة التي نريدها أن تستمر حية مع كل الأجيال".
وكشف الرئيس تبون أنه أعطى توجيهات "بالانتهاء من إطلاق أسماء شهداء المقاومة الشعبية وثورة التحرير المجيدة على المجمعات السكنية، وأحياء المدن، والتوسع في ترميم المعالم التاريخية، لتقف شاهدةً على مر الأجيال، على الثمن الباهظ الذي دفعه شعبنا في التصدي لوحشية الاحتلال الاستعماري حتى يعيش حراً كريماً وموحَّداً فوق أرضه، فخوراً بماضيه ومسترشداً به في صياغة المستقبل، في ظل الديمقراطية الحقة والعدالة الاجتماعية".
هل هو رد على الاستفزازات الفرنسية؟
قالت صحيفة الشروق الجزائرية في عددها ليوم 6 مايو/أيار 2020، إن "قيادة أركان الجيوش الفرنسية قد سحبت من صفحتها الخاصة على موقع الرسائل النصية القصيرة (تويتر) صورة تاريخية كانت قد نشرتها تعود إلى الفترة الاستعمارية، بعدما استفزت الجزائريين في موقف فاجأ كثيراً من المراقبين، لكنه لم يفاجئ من يعرف الحقد الفرنسي على الجزائر"، حسب الصحيفة.
اضطرت قيادة أركان الجيوش الفرنسية، حسب الصحيفة، إلى حذف تلك الصورة الفضيحة، من صفحتها على تويتر، كما تدخلت لدى مسؤولي مؤسسة "جوجل"؛ لسحبها حتى من التداول العام، وبات من المستحيل العثور عليها في الصفحة الرسمية للجيش الفرنسي، أو في محرك البحث العالمي "جوجل".
القرار حسب "الشروق"، جاء بعدما تناقلت مختلف المواقع المحلية والعالمية الصور والرسائل، على غرار موقع وكالة سبوتنيك الروسية للأنباء، وموقع قناة "المنار" اللبنانية وعديد من المواقع الكبرى، واعتبار ذلك استفزازاً للجزائريين عشية استذكار مجازر 8 مايو/أيار 1945.
ويرى الأستاذ في الإعلام الآلي والخبير في شؤون الإعلام الرقمي، عثمان عبدلوش، حسب الصحيفة نفسها، أنّ "سحب أي مادة إعلامية من محرك البحث جوجل يتطلب دفع مستحقات مالية، ما يعني أن قيادة أركان الجيوش الفرنسية عندما أقدمت على حذف تلك الصورة الفضيحة، باشرت إجراءات وتحملت أعباء سحبها من التداول، ما يؤشر على أن باريس تلقت رسالة ما، دفعتها إلى التراجع عن هذه الحماقة".
في حين يرى الباحث والأستاذ في التاريخ المعاصر، بلال بارة، في تصريح لـ"عربي بوست"، أن "قرار الرئيس جعل تاريخ 8 مايو/أيار يوماً وطنياً، مع الإلحاح على فتح قناة تلفزيونية تُعنى بالتاريخ، ردٌّ على الحماقات الفرنسية التي تريد تلميع وجهها".
حتى طريقة الاحتفالات بالذكرى هذه السنة، يضيف بارة، "جاءت بطريقة توثق أكثر للجرائم الفرنسية عبر شبكة الإنترنت، خاصةً أن كل منطقة جمعت شهادات حية، وأفلاماً وثائقية، لموسوعة تكشف حجم تلك المجازر والجرائم".