في الدول التي نجحت فيها إجراءات المراقبة والتتبع التي طبقتها الحكومات في التقليل من تفشي الوباء القاتل، لم تجد تلك الإجراءات معارضة كبيرة، لكن الأمر مختلف أكثر في أوروبا والولايات المتحدة، فكيف يمكن استخدام التكنولوجيا في محاربة كورونا دون اختراق خصوصية المواطنين ومراقبتهم؟
صحيفة واشنطن بوست الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "انتشار المراقبة عبر الهاتف المحمول بسبب فيروس كورونا.. وتسامح على مضض مع فكرة الرقابة"، ألقى الضوء على المعضلة المتمثلة في أهمية تطبيق إجراءات المراقبة والتتبع للوقاية من الوباء من جهة ومخاطر تراجع الحريات والخصوصية والفردية من جهة أخرى.
الكل مراقب
إلى جانب مشاعر الخوف والقلق وانعدام الأمان والحزن التي استحوذت على العالم، يضيف عصر الجائحة الذي نعيشه هذا حقيقة أخرى: أنَّنا مُرَاقَبون.
ففي غضون أشهر، وُضِع عشرات الملايين من الناس في عشرات الدول تحت المراقبة. وتراقب الحكومات والشركات الخاصة والباحثون صحة وعادات وتحركات المواطنين، في الكثير من الأحيان دون موافقتهم. وهو مسعى ضخم، يهدف لفرض قواعد الحجر الصحي أو تتبُّع انتشار فيروس كورونا.
وبسبب الجائحة، تقول لي يون يونغ، وهي طالبة جامعية من كوريا الجنوبية خضعت لحجرٍ صحي صارم تحت إشراف الحكومة بعد عودتها من دراستها بالخارج، إنَّ المراقبة "شر لابد منه". وأضافت: "لستُ منزعجة لأنَّني أتفهَّم أنَّ الضبط الأقوى للحجر الصحي يسمح لغير الخاضعين لأمر البقاء في المنازل بمواصلة حياتهم دون فرض حالة إغلاق على الصعيد الوطني".
وبحسب إدين أومانوفيتش، مدير قسم الدعم والمناصرة بمنظمة "Privacy International" المعنيّة بقضايا الخصوصية وتتبَّع برامج المراقبة، تستخدم 27 دولة على الأقل تحركات المواطنين، وقال إنَّ 30 بلداً على الأقل طوَّرت تطبيقات هواتف ذكية يمكن للعامة تحميلها.
اعتراضات على المراقبة
وأثارت المراقبة اعتراضاتٍ أقل في البلدان التي حققت نجاحاً أكبر في محاربة الفيروس، مثل سنغافورة، وأدَّت إلى نقاشٍ أكبر بكثير في أوروبا والولايات المتحدة، وهو الاختلاف الذي ينعكس في أعداد الأشخاص الذين حمَّلوا تطبيقات التتبُّع طواعيةً.
ففي كوريا الجنوبية، سجَّل الملايين لاستخدام المواقع أو التطبيقات التي تُظهِر كيفية انتشار الفيروس، وسرعان ما حمَّل أكثر من مليوني أسترالي تطبيقاً لتتبُّع الاختلاط مع المصابين بفيروس كورونا بعد إطلاقه الأحد الماضي 26 أبريل/نيسان، لكن وجد استطلاع رأي مشترك لصحيفة The Washington Post وجامعة ماريلاند الأمريكيتين أنَّ 3 من بين كل 5 أمريكيين يقولون إنَّهم غير مستعدين أو قادرين على استخدام نظام التحذير من العدوى الذي تطوره شركتا جوجل وآبل.
اضطلع خبراء الأوبئة ومسؤولو الصحة الحكوميون بدورٍ محوري في تصميم بعض برامج تتبُّع الفيروس، لكنَّ المجموعات المعنية بقضايا الخصوصية كانت أكثر قلقاً حين تولَّت وكالات الاستخبارات زمام القيادة، كما حدث في باكستان وإسرائيل، أو حين استعانت الحكومات بشركات خاصة لتولي عملية التتبُّع.
وقال جون سكوت رايلتون، الباحث الأول بمركز أبحاث Citizen Lab التابع لجامعة تورونتو الكندية، إنَّ الوباء أسكت تقريباً النقاش بشأن تعديات الشركات على الخصوصية، وأضاف: "الناس هلعون. إنَّهم يشعرون بالقلق. ويريدون العودة إلى الحياة الطبيعية، أن يعودوا للإمساك بمقابض الباب وإلى المواعدة الإلكترونية"، وتابع: "إنَّنا نتطلَّع لكل مَن ينشر الأمل".
لا مهرب
طلب تطبيقٌ للهواتف الذكية في تركيا من مراد بور الحصول على رقم هُويته، واسم والده، ومعلومات تخص أقاربه. ووجَّه التطبيق سؤالاً حول ما إن كان يعاني من أي حالة صحية باطنية، مُقدِّماً لمراد قائمة من الخيارات. وسأل التطبيق مراد كيف يشعر في تلك اللحظة. وطلب منه كذلك إذناً لتتبُّع حركته.
لم يبدُ أي من ذلك تطفلياً بالنسبة لمراد، المدرب الشخصي البالغ من العمر 38 عاماً، فالتطبيق، الذي حمَّله طواعيةً، كان قد حذَّره على نحوٍ مفيد من أنَّ المنطقة المجاورة له تمثل بؤرة لفيروس كورونا.
وتستخدم تركيا التكنولوجيا لتتبُّع انتشار الفيروس بطريقتين على الأقل، الأولى هي التطبيق، الذي يحمل اسم "Life Fits in the Home"، والذي يطلب تفاصيل شخصية لتتبُّع العدوى وتقديم المعلومات، بما في ذلك مواقع المستشفيات والصيدليات القريبة.
وقالت الحكومة إنَّها تجري تتبُّعاً إلزامياً لمَن هم في سن الـ65 أو أكبر، وهي الفئة المُطالَبة بالبقاء في حجرٍ صحي، وترسل إليهم رسائل هاتفية حين يخرجون من منازلهم، ولا يوجد رد فعلٍ عكسي عام يُذكَر ضد الرقابة في تركيا، وهدأت أي شكوك موجودة بسبب الشعور بأنَّ الدولة يجب عليها اتخاذ إجراءات أقوى للسيطرة على التفشي.
فقالت جيغديم شاهين، وهي أستاذة للاقتصاد بجامعة إسطنبول، إنَّها لم تتردد قبل أن تُحمِّل تطبيق التتبُّع، مع أنَّها في العادة حذرة من الرقابة الحكومية، لكنَّ مبعث قلقها الرئيسي هو ما إن كان التطبيق يمكنه العمل بصورة صحيحة أم لا. إذ لم يخبرها التطبيق بالكثير مما لا تعرفه بالفعل عن الحي الذي تسكن به، حي الفاتح، حيث يوجد تركُّز عالٍ للإصابات، لذلك توقفت عن استخدامه.
تطبيقات تتبُّع الفيروس
لم تفرض كوريا الجنوبية حالة إغلاق وطنية أو قيوداً على السفر رداً على فيروس كورونا، ولم تصدر إلا توصيات قوية بتجنُّب السفر غير الضروري، وكثيراً ما يُشار إلى استجابة البلاد لفيروس كورونا، والتي تتميز بإجراء الاختبارات على نطاقٍ واسع، باعتباره نموذجاً يُحتذى حول العالم.
وتتتبَّع السلطات الصحية بكوريا الجنوبية حركة الناس، ثُمَّ تعيد بعد ذلك تتبُّع حركة أولئك الذين شُخِّصوا بالفيروس من خلال كل من نظام تحديد المواقع "GPS"، وسجلات بطاقات الائتمان، وفيديوهات المراقبة، والمقابلات مع المصابين. وينشَر تاريخ سفر المرضى دون أسماء لمساعدة الآخرين على تحديد ما إن كانت مساراتهم تقاطعت مع أحد حاملي الفيروس.
ويراقب تطبيق هواتف ذكية آخر آلاف الأشخاص الخاضعين للحجر الذاتي، ويقدم تقارير عن تحركاتهم للحكومة، لكنَّ بيانات السفر في كوريا ليست متاحة فقط للسكان المهتمين بالشواغل الصحية، لكن كذلك للمتابعين المتلصصين، وهو ما قالت الطالبة لي يون يونغ إنَّه أمرٌ "مثير للقلق".
حشدت سنغافورة هي الأخرى مواردها مبكراً لاحتواء الوباء من خلال التتبُّع الصارم لسلاسل العدوى، ففرضت جزاءاتٍ قوية على المرضى الذين ينتهكون قواعد الحجر، وقامت بحملات توعية عامة في كل مكان، في حين تجنَّبت فرض حالة إغلاق كاملة، وجرى تطوير تطبيقات هواتف محمولة للمساعدة في فرض قواعد الحجر الذاتي والمساعدة في جهود تتبُّع الاختلاط بالمصابين باستخدام تكنولوجيا البلوتوث.
ورأت شيريل لو لين تان، وهي مؤلفة وصحفية تعيش في نيويورك، مدى صرامة التطبيق لقواعد الحذر حين سافرت إلى سنغافورة في أواخر مارس/آذار الماضي واضطرت للخضوع للحجر الذاتي في أحد الفنادق. كان موقعها مُراقَباً عبر هاتفها المحمول، وكانت مُطالَبة بتأكيد موقعها للحكومة مرتين يومياً، أحياناً من خلال إرسال صورة لمحيطها، وتلقَّت في إحدى المرات مكالمة عبر الفيديو من مسؤولي الصحة، فقط من أجل التأكد من أنَّها في المكان الذي قالت إنَّها موجودة به فعلاً.
ودفعتها تجربتها في نيويورك، حيث تشهد المدينة واحداً من أفتك التفشيات في العالم، لتكون أكثر استعداداً للقبول بالرقابة الحكومية، وقالت إنَّ قبول عمليات التطفُّل كان أيسر لما بدا من وضع حكومة سنغافورة سلامة المواطنين في اعتبارها، وليس لـ"دوافع خفية". لكنَّها كانت تخشى من تزايد التطفُّل على حياتها وإمكانية أن يستمر الوضع على هذا الحال دوماً.
أكثر خوفاً من كورونا
لكن تجربة البلدان التي سارعت باستخدام التطبيقات وبرامج الرقابة الشبيهة تسلط الضوء على حدود هذه التكنولوجيا وتحديات إقناع العامة واسع النطاق بها، حتى في المناطق المنفتحة إلى حد كبير على القبول بالرقابة.
فعلى سبيل المثال، يُحذِّر خبراء، بينهم جيسون باي، مدير تطبيق تتبُّع المخالطين "TraceTogether" في سنغافورة، من أنَّ الاعتماد على موجات البلوتوث قد لا يُقدِّم بيانات المواقع الدقيقة ويُخطئ في تحديد الأشخاص المصابين.
وقال سكوت رايلتون إنَّ التطبيقات تبقى ذات فائدة محدودة ما لم تُحمِّلها نسبة كبيرة من سكان البلاد، وحتى حين يحدث ذلك، يبقى وصول البرامج مقتصراً على الأشخاص الذين يملكون هواتف ذكية، وهو ما يستثني غالباً ذوي الدخل المحدود والأقليات العِرقية ومَن هم فوق سن 65، وقامت بعض المبادرات المعنية بقضية الرقابة كذلك بجهودٍ منظمة لكبح محاولات رقابة المواطنين.
فكان مركز "عدالة"، المركز العربي لحماية حقوق الأقلية العربية في إسرائيل، من بين المجموعات التي شاركت في إرسال التماس للمحكمة العليا تعترض فيه على اعتماد الحكومة على سلطات الطوارئ لتوسيع نطاق عمل أجهزتها الأمنية، وحكمت المحكمة الإسرائيلية العليا يوم الأحد الماضي بأنَّ التتبُّع الحكومي سيتطلَّب إصدار تشريع برلماني ليستمر إلى ما بعد نهاية أبريل/نيسان، التاريخ المقرر لنهاية إجراءات الطوارئ.
وقالت سهاد بشارة، إحدى المحاميات لدى مركز عدالة، إنَّه في حين يمثل تتبُّع المخالطين أداة مهمة لعزل المصابين، فإنَّ "مد نطاق عمل جهاز مثل الشين بيت (جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي) إلى المسائل ذات الطابع المدني يصبح إشكالياً للغاية"، مُضيفةً أنَّ الكثير من الفلسطينيين، الذين يخضعون للرقابة وعمليات الاعتراض من جانب الأجهزة الأمنية الإسرائيلية على مدى عقود، يخشون أن يسيء هذا الجهاز استخدام السجلات الصحية والبيانات الأخرى التي يحصل عليها.
في حين قالت روكسان هالبر (60 عاماً)، والتي تعمل في مجال التنمية الدولية وتميل إلى اليسار في الطيف السياسي الإسرائيلي، إنَّها عادةً تكون حذرة من الرقابة الحكومية، لكن ليس هذه المرة، ومثل الكثيرين، قالت إنَّ الاعتبارات الصحية الآن تُعَد أكثر إلحاحاً من الخصوصية.