ظهر زعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، فجأة كما اختفى فجأة، بعد نحو ثلاثة أسابيع من انتشار شائعات وفاته وفتح باب التكهنات حول سيناريوهات خلافته، فأين كان الزعيم الأكثر إثارة للجدل؟ وهل هذه أول مرة يختفي فيها بهذه الطريقة؟ وما قصة إطلاق الرصاص؟
ماذا وراء إطلاق الرصاص؟
صباح الأحد 3 مايو/أيار، قالت هيئة الأركان المشتركة بكوريا الجنوبية، في بيان لها، إن عدة طلقات نارية أُطلِقت من كوريا الشمالية تجاه موقع حراسة بكوريا الجنوبية على الحدود صباح اليوم بالتوقيت المحلي، وأضافت أن كوريا الجنوبية ردت بإطلاق رصاصتين باتجاه كوريا الشمالية، ولم ترد أنباء عن وقوع إصابات.
إطلاق الرصاص يأتي بعد واحد من تقرير بثته وسائل الإعلام الرسمية في كوريا الشمالية عن حضور كيم افتتاح مصنع أسمدة، في أول ظهور للزعيم منذ 11 أبريل/نيسان الماضي.
تبادل إطلاق النار بين الجانبين ليس أمراً طارئاً أو حادثاً غير عادي، فالكوريتان تعتبران في حالة حرب من الناحية الفنية، والمنطقة معزولة السلاح بينهما واحدة من أخطر البؤر المتوترة حول العالم ويوجد بها نحو 35 ألف جندي أمريكي في إطار معاهدة الدفاع المشترك بين سول وواشنطن، لكن توقيت حادث اليوم لا يمكن تفسيره بعيداً عن "دراما اختفاء الزعيم".
وقال تشوي كانج نائب رئيس المعهد الآسيوي للدراسات السياسية، لـ"رويترز"، إن توقيت هذا الاستفزاز يثبت أن كيم ما زال مسؤولاً عن الجيش الكوري الشمالي، وأضاف أن "كيم بالأمس كان يحاول إثبات أنه بصحة جيدة، واليوم كيم يحاول إنهاء كل التكهنات بأنه ربما لا يسيطر بشكل كامل على الجيش، وبدلاً من أن يطلق صواريخ ويشرف على إطلاق صاروخ فكيم ربما يذكّرنا بـ(نعم، إنني بصحة جيدة وما زلت في السلطة)".
وقال ليف-إريك إيزلي أستاذ الشؤون الدولية بجامعة إيهوا في سول، إن حادث إطلاق النار ربما استهدف تعزيز الروح المعنوية في الجيش الكوري الشمالي، وأضاف: "ربما نظام كيم يتطلع إلى رفع معنويات قواته المرابطة على خط المواجهة، واستعادة أي نفوذ تفاوضي فُقد خلال أسابيع غياب الزعيم التي دارت خلالها شائعات"، مؤكداً أنه "على كوريا الجنوبية والولايات المتحدة عدم الاستخفاف بمثل هذه الانتهاكات الكورية الشمالية للاتفاقيات العسكرية القائمة".
وبحسب لورا بيكر مراسلة هيئة الإذاعة البريطانية في سول، فإن التوقيت "مثير للاهتمام للغاية، حيث يأتي بعد 24 ساعة فقط من ظهور كيم بعد اختفائه لثلاثة أسابيع، كما أن الشهور الأخيرة شهدت عدداً كبيراً من التدريبات العسكرية في الشمال؛ لتحسين جاهزية المعركة استعداداً لحرب حقيقية، بحسب وسائل الإعلام الرسمية في كوريا الشمالية".
وأضافت بيكر أن بيونغ يانغ تستخدم أحياناً أسلوب التصعيد بغرض التهدئة، بمعنى الظهور بمظهر المستعد للحرب؛ لتقوّي موقفها التفاوضي، وأن أي تأكيد على أن حادث اليوم متعمّد سيمثل خيبة أمل كبيرة لسول، التي تسعى منذ عامين لتخفيف التوتر مع الشمال، خصوصاً بعد لقاء رئيس كوريا الجنوبية مون جاي-إن مع كيم، وتوقيعهما اتفاقاً عسكرياً يعتبر بموجبه أي إطلاق متعمد للرصاص انتهاكاً للاتفاق.
أين كان كيم مختفياً؟
عودة إلى اختفاء الزعيم، نجد أن آخر ظهور علني له كان يوم 11 أبريل/نيسان الماضي، وذلك في اجتماع للمكتب السياسي لحزب العمال الحاكم، وجاء غيابه غير المسبوق عن احتفالات كوريا الشمالية بالذكرى السنوية لجد الزعيم ومؤسس كوريا الشمالية كيم إيل-سونغ في 15 أبريل/نيسان.
غياب كيم عن احتفالات ذكرى جده المؤسس كان سابقة لم تحدث قط منذ توليه السلطة، وهو ما أثار التكهنات بشأن سبب ذلك الغياب، ثم ظهر تقرير على موقع تابع لمنشقِّين من كوريا الشمالية، يفسر غياب الزعيم بتدهور حالته الصحية وإجرائه عملية جراحية دقيقة في القلب.
ثم ظهر خبر في صحيفة Daily NK نقلاً عن مصدر مجهول، يقول إن الزعيم كان يعاني من مشاكل في الأوعية الدموية بالقلب وإن حالته تدهورت، وهو ما استدعى إجراء عملية جراحية، وتلقَّفت وسائل الإعلام الغربية القصة وبدأ سيل التكهنات والتحليلات بشأن الحكم في كوريا الشمالية في أعقاب رحيل الزعيم، وظهرت في الصورة تقارير أمريكية نقلتها صحيفة نيويورك تايمز، تقول إن المخابرات المركزية تتابع الموقف.
الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، دخل على الخط وصرح في أحد ملخصاته اليومية بشأن وباء كورونا، بأن لديه "فكرة جيدة جداً عن مكان الزعيم المختفي، وأنه يتمنى له السلامة"، دون أن يصدر أي شيء رسمي من كوريا الشمالية عن تلك الشائعات أو التقارير، وهو ما سكب مزيداً من البنزين على النار المشتعلة، والسبب ليس فقط شخصية الزعيم وتصرفاته غير المتوقعة، بل كون كوريا الشمالية تمتلك أسلحة نووية أضاف مزيداً من عامل التشويق والخطر للقصة.
ظهر فجأة ولا أحد يعرف أين كان!
وكما توارى عن الأنظار بشكل مفاجئ ودون تفسير، عاد الزعيم للظهور فجأة، من خلال تقرير مصوَّر نشره موقع صحيفة رودونج سينمون الرسمية، السبت 2 مايو/أيار، بدا خلاله مبتسماً ويتحدث مع مستشاريه، وقص شريط افتتاح مصنع للأسمدة، وقام بجولة داخل المصنع.
التقرير نفسه تم بثه في لقطات تلفزيونية حكومية، أظهرت أن حركات ساق كيم تبدو صعبة ومتشنجة، وأظهرت إحداها عربة غولف خضراء في الخلفية تشبه عربة استخدمها في 2014 بعد غياب طويل استمر عاماً.
لكن وكالة يونهاب الكورية الجنوبية للأنباء نقلت عن مسؤول بارز في البيت الأزرق الرئاسي؛ قوله إن تقدير بلاده هو أن الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون لم يخضع لعملية جراحية، وذكرت الوكالة، الأحد، نقلاً عن المسؤول الذي لم تذكر اسمه: "وردت تقارير عن تكهنات بشأن خضوع الزعيم كيم لجراحة استناداً إلى بعض الاختلاف في طريقة مشيه"، وأضاف: "لدينا أسباب لاعتقاد أنه لم تكن هناك جراحة.. لكن لا يمكننا الكشف عن مثل تلك التفاصيل".
ليست أول مرة وربما لن تكون الأخيرة
كوريا الشمالية عبارة عن ثقب أسود بالنسبة لبقية العالم، فلا أحد يعرف ماذا يدور على أراضي الدولة التي تحكمها أسرة الزعيم كيم بالحديد والنار ويخضع سكانها الذين يبلغ تعدادهم نحو 25 مليون نسمة، لرقابة صارمة تجعل من شبه المستحيل التأكد مما يصدر عن السلطات هناك من مصدر آخر.
وهناك عامل آخر يزيد صعوبة أو درجة استحالة التأكد مما يحدث في ذلك الثقب الأسود، وهو الآلة القوية لنشر الشائعات والتي يتحكم فيها الجناح الإعلامي لحزب العمال الحاكم.
لذلك من المستحيل التأكد حتى من مصداقية الصور أو مقاطع الفيديو التي تبثها وسائل الإعلام الرسمية، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية، الأحد، بعنوان "كيم جونغ أون وطاحونة الشائعات الكورية الشمالية التي لا ترحم".
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يختفي فيها كيم بتلك الطريقة ويظهر فجأة، فالرجل غاب أيضاً عن الأنظار ثلاثة أسابيع في فبراير/شباط الماضي، دون أن يثير ذلك كمّاً كبيراً من التكهنات والشائعات مثلما حدث هذه المرة، اللهم إلا من بعض التعليقات والتقارير المتناثرة التي زعم بعضها أنه ربما تعرّض لعدوى كورونا، لكنها لم تنتشر كما انتشرت شائعات وتكهنات وفاته هذه المرة.
وفي عام 2014، اختفى الزعيم لمدة 40 يوماً، وساعتها انتشرت شائعات وقوع انقلاب عسكري أطاح به، وتناولتها وسائل الإعلام الغربية على نطاق واسع أيضاً، لكن الزعيم عاد فجأة للظهور مرة أخرى لكنه كان يستخدم عصا تساعده على السير، واتضح أنه خضع لجراحة في ساقه اليسرى، ولم تكن هناك انقلابات أو هكذا ظهرت الأمور.