رغم سيطرة جائحة كورونا ومحاولة احتواء الفيروس القاتل على الساحة الدولية، فإن لغز اختفاء كيم جونغ أون رئيس كوريا الشمالية يثير اهتماماً دولياً كبيراً بسبب غموض آلية انتقال السلطة حال تأكدت وفاته، ومن ثم مصير الأسلحة النووية هناك، فهل تستغل الصين الأزمة وتسعى للتدخل لفرض خليفة لكيم؟ وكيف ستكون تداعيات ذلك على موازين القوى عالمياً؟
مجلة فورين بوليسي الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "هل تستغل الصين اختفاء كيم جونغ أون الغامض لمحاولة فرض سيطرتها على بيونغ يانغ؟"، ألقى الضوء على السيناريوهات المحتملة وتأثيرها على النظام العالمي الحالي.
السيطرة على السلاح النووي
قد تكون التقارير المنتشرة حول وفاة الديكتاتور الكوري الشمالي كيم جونغ أون، أو إصابته بعجز دائم مبالغاً فيها إلى حد كبير، لكن الغموض المحيط بمكان وجوده وحالته الصحية يجبر العالم على التفكير فيما قد تكون عليه أزمة خلافة الحكم في كوريا الشمالية. وعلى الرغم من أن نظام كيم العائلي يبدو من الخارج غير قابل للاختراق، فإن أياً ما يحدث للقائد يثير المخاوف بشأن طبيعة انتقال السلطة غير المحسوم في ظل غياب وريث واضح على الساحة. إذا تواجهت فصائل السلطة، فإن اشتعالَ صراعٍ داخلي شرس أمرٌ مؤكد، والحرب الأهلية ليست أمراً غير وارد، ومع احتمال وقوع الصواريخ النووية الباليستية في أيدي من يتصرف بسرعة أكبر، فإن آسيا قد تواجه أزمة نووية غير مسبوقة.
من بين هذه الاحتمالات غير المحسومة يبرز أحد تلك الاحتمالات قبل الجميع: هل يمكن لأي ضعف في نظام كيم أن يدفع الصين إلى محاولة فرض سيطرتها على بيونغ يانغ؟ وإذا كانت كل أزمة تنطوي على فرص يمكن استغلالها فمن الحكمة إذن النظر في الكيفية التي قد ينظر بها الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى جدوى اتخاذ خطوةٍ جريئة لإعادة تشكيل ميزان القوى الإقليمي. إذ من شأن تدخل بكين الناجح أن يغير على نحو دائم الخريطة الجيوسياسية لشرق آسيا، ويعزل اليابان ويحدّ من قوة الولايات المتحدة في المنطقة بأكملها.
سيناريو انتقال السلطة
هذه أخطر لحظة يواجهها النظام القائم منذ ثلاثة أجيال طيلة عقود حكمه، خاصةً أن كيم جونغ أون عندما وصل إلى السلطة في أواخر عام 2011 بعد وفاة والده كيم جونغ إيل، عزز سيطرته على البلاد بلا رحمة. عُيّن كيم وريثاً قبل عام واحد فقط من وفاة كيم الأكبر، لكن الخليفة الذي لم يكن يُعرف عنه الكثير في البداية أعدمَ عمه القوي المؤيد لبكين، جانغ سونغ تايك، وفيما بعد أوردت الأنباء مقتل أخيه غير الشقيق في ماليزيا، كما أن أطفاله لا يزالون صغاراً، وهو ما يفاقم الغموض بشأن من سيتولى الحكم أو الوصاية عليهم.
لكل هذه العوامل وغيرها فإن اشتعال صراع على السلطة هو سيناريو محتمل تماماً، سواء أكان كيم قد تُوفي أو كان يعاني عجزاً يضعفه، وحتى أخته، كيم يو جونغ، التي ترقَّت إلى ما يشبه المرتبة الثانية في سلم القيادة، فإنها تبلغ من العمر 32 عاماً فقط، وما إذا كان نظام السلطة الأبوية في كوريا الشمالية قد يقبل امرأة قائداً أعلى له يظل أمراً غير معروف. وقد يقرر كبار الضباط العسكريين تعيين دمية يحكمون من ورائها، أو القتال فيما بينهم من أجل الهيمنة، ولا ريب أن افتقار الغرباء إلى المعرفة بديناميكيات القوة في كوريا الشمالية يجعل تقييم أي من هذا أمراً من الصعوبة بمكان.
علاقة كيم وشي
كانت لدى كيم علاقة مشحونة مع شي، وقد ورد أنه رفض عدة طلبات للاجتماع برئيس الصين حتى حسم الأخير في مارس/آذار 2018، البقاء في السلطة مدى الحياة، وقبل بضعة أشهر فقط من قمة كيم غير المسبوقة مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وعلى الرغم من أن استقلال بيونغ يانغ أمر أسطوري في حد ذاته، فإن برامجها النووية وصواريخها الباليستية تجعل الدولة المارقة أعصى على الضغوط الخارجية.
والواقع أن الفرصة المتاحة لربط كوريا الشمالية ربطاً أوثق مع الصين والحفاظ عليها كدولة عازلة في مواجهة حلفاء الولايات المتحدة؛ كوريا الجنوبية واليابان، ستكون هديةً جيوسياسية لشي، كما أن استعادة النفوذ الذي خسرته بكين في بيونغ يانغ بإعدام العم جانغ الذي كان مقرباً منها سيكون سبباً آخر يدفعها للتحرك. وإذا أضفنا إلى ذلك صعودَ اليسار السياسي في كوريا الجنوبية بعد انتصاراته التشريعية هذا الشهر، وتعميق الرئيس الكوري الجنوبي مون جاي إن علاقات بلاده مع بكين، يبرز لنا باختصار أن الإشارات كلها باتت أكثر ملاءمة لتوسع دراماتيكي للقوة الصينية في شبه الجزيرة الكورية.
إن فرض السيطرة السياسية من خلال القوة الاقتصادية هو أحد الطرق المتاحة لبكين، وغير ذلك، فإن الأصعب هو تحرك مادي فعلي إلى كوريا الشمالية، إذ في عالم تهيمن عليه جائحة فيروس كورونا قد تكون مقامرة متهورة من بكين إذا تدخلت في كوريا الشمالية باسم حفظ السلام والنظام، فيما يُفترض أنه تدخل لمنع انهيار الحكومة وحدوث أزمة إنسانية. في سيناريو كهذا، سيعمد القادة العسكريون الكوريون الشماليون المتمركزون بالقرب من الحدود الصينية إلى التخفيف من القيود المفروضة على الدخول إلى كوريا الشمالية، كما ستعقد الصين صفقات مع قادة النظام مسبقاً، ثم تأمين المواقع النووية والصاروخية، لضمان الاستقرار ظاهرياً، وهكذا تعزز بكين سيطرتها على نظام كيم، وتصبح لديها دولة موالية مطواعة لسيطرتها، وربما حتى برئاسة أخت كيم بعد ذلك دون مشكلات.
فرصة هائلة لبسط النفوذ
إن الآثار الجيوسياسية لسيطرة بكين على كوريا الشمالية ستكون فادحة، إذ بالنظر إلى احتمال وجود وحدات بحرية وجوية صينية في كوريا الشمالية فإن القوات الصينية والأمريكية ستكون في مواجهة بعضها عبر المنطقة منزوعة السلاح، وهو ما سيفاقم من تكاليف التحالف القائم بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية. وبضغط وإغراءات من بكين يمكن أن تقرر سيول الانحياز إلى الصين، وإذا استدعينا الهوى الكوري والعداء المستوطن لأمريكا في كوريا الجنوبية، فإن ذلك الأمر لا يبدو غير متصور. ثم يمكن لبكين تحييد أي معارضة كورية جنوبية لخفض أو قطع العلاقات مع واشنطن عن طريق التعهد لسيول بمساعدتها على فرض سيطرتها على "صخور ليانكورت"، وهي مجموعة من الجزر الصغيرة التي تحتفظ بها كوريا الجنوبية، وتشير إليها باسم "جزيرة دوكدو"، لكن اليابان تطالب بها أيضاً، وتشير إليها باسم "تاكيشيما". وبذلك ستتمكن البحرية الصينية من الوصول إلى مضيق كوريا الاستراتيجي، الذي يربط بحر اليابان والبحر الأصفر وبحر الصين الشرقي، وهو ما يضمن لبكين السيطرة على المياه الداخلية الحيوية لآسيا.
وهذا بدوره سيجعل اليابان معزولةً في شمال شرق آسيا، إذ ستكون في مواجهة شبه جزيرة كورية تسيطر عليها الصين، ولا خيار أمامها سوى رفع قدراتها العسكرية إلى حد كبير، وربما النظر في الخيار النووي. كما ستكثف طوكيو ضغوطها على واشنطن لكي تبقي على مزيد من القوات العسكرية الموثوقة في المنطقة.
ومع اقتراب القوات الجوية والبحرية الأمريكية والصينية إلى حد كبير من بعضهما، فإن احتمال وقوع حادث أو سوء تقدير يفضي إلى مواجهة مسلحة ستزداد أسهمه على نحو كبير. وسيكون على واشنطن حينها إما أن تقبل مخاطر أكبر بكثير وإما أن تقرر تقليص وجودها العسكري هناك.
كيف يمكن أن تتصرف واشنطن؟
وخلاصة الأمر أنه إذا حدثت أزمة خلافة في حكم كوريا الشمالية، فإن الخيارات المتاحة أمام الولايات المتحدة ستكون محدودة، لكن واشنطن مع ذلك ستحتاج إلى خطة لمواجهة أي تحركات محتملة من الصين إلى كوريا الشمالية.
إذ لكي تتمكن الولايات المتحدة من ذلك، فإن تحسين القدرات الاستخباراتية أمر لا غنى عنه، أقله للحصول على إشعار مسبق بأي نشاط عسكري صيني أو مكائد سياسية في بيونغ يانغ، ومن ثم سيكون العمل مع المخابرات الكورية الجنوبية أمراً أساسياً، إضافة إلى التشاور السياسي الوثيق مع سيول لإبقاء رئيسها ملتزماً بالتحالف بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية.
وبعيداً عن شبه الجزيرة، فإن التخطيط الأعمق مع اليابان للدفاع والردع أمر مهم بالقدر ذاته، لطمأنة طوكيو بشأن استمرار وجود الولايات المتحدة. وفوق كل شيء، يجب على الدبلوماسيين الأمريكيين أن يوضحوا لنظرائهم الصينيين أن تصميم الولايات المتحدة على ضمان منطقة المحيط الهادي الهندي منطقةً حرة ومفتوحة سيظل دون تغيير، حتى لو كان كيم سيحكم لنصف قرن آخر.