تقتل فيروسات الحمى النزفية مثل الإيبولا وفيروس ماربورغ نحو 90% من المصابين، ولكنها لم تؤدِ إلى الجزع الذي سبَّبه فيروس كورونا المستجد، رغم ضعفه كثيراً عند مقارنته بها، فلماذا انتشر فيروس كورونا بهذا الشكل المخيف؟
فالإيبولا وفيروس ماربورغ كلاهما مُعدٍ عن طريق الاتصال بسوائل الجسم المصاب، ويسببان النزيف وفشل الأعضاء.
ورغم ذلك فإن انتشار تلك الفيروسات الفتّاكة هو أمر بالغ الندرة، وبفضل فرق الخبراء الدوليين سُرعان ما ينطفئ لهيب تفشِّيهما.
وعلى الجانب الآخر، تنقل الفيروسات التي تتسبب في نزلات البرد الشائعة عدواها بين البشر دون قيودٍ أو حواجز.
فماذا الذي جعل فيروس سارس-كوف-2، الذي يسمي فيروس كورونا المستجد أو (كوفيد-19) بهذه الخطورة؟
كيف يصبح الفيروس ناجحاً؟ الأهم تجنُّب الانتحار
زانيا ستاماتاكي، الباحثة في علم المناعة الفيروسية بجامعة برمنغهام شرحت في مقال بصحيفة The Guardian البريطانية، ما الذي يجعل أحد الفيروسات مُميتاً وآخر مزعجاً لا أكثر؟
وما الذي يحدد ما إذا كان هذا الفيروس بصدد الانتشار ليصير جائحة، على غرار سارس-كوف-2، أو يتلاشى سريعاً في مكانٍ بعيد؟ وما الذي تعنيه كلمة "النجاح" في معرض الحديث عن فيروس؟ هذه تساؤلات تجول بأذهان الكثير من الناس بينما يستفهمون عمّا قد يكون في انتظارهم أيضاً. فهل الجائحة المقبلة ستكون أسوأ 50 مرّة من تلك التي نواجهها للتو، وهل فتك الفيروسات بنا مسألة مصير مبهمٍ قاتم، ووحده الحظ هو ما يفصلنا عن شيء مثل اجتياح الإيبولا لكوكب الأرض؟
تقول "في واقع الأمر، يتعيّن على الفيروسات بشكلٍ عام اتباع قواعد بعينها إذا ما أرادت المضي قدماً؛ التسلل أمر بالغ الأهمّية لأن مسببات الأمراض لا تتمكّن من الازدهار والتكاثر بمفردها".
بل إنها تغزو خلايا الجسم المضيف وتعتمد عليها، أوّلاً، من أجل فكّ شفرة معلوماتها الجينية لإنتاج المكوّنات اللازمة لتخلق فيروسات جديدة، ثم تجميع تلك المكوّنات، وأخيراً إطلاق الفيروسات الجديدة التي من شأنها إصابة المزيد من الخلايا. وإذا تسببت تلك العملية في تلف بالأنسجة، والذي يُسفر بدوره عن فشل الأعضاء، فإن الفيروس يكون معرّضاً لخطر الهلاك مع مُضيفه.
الجاسوس.. هناك شرط أساسي لكي ينتشر الفيروس
ولهذا السبب، ولحسن الحظ، لا تبدي الفيروسات "الكابوسية" -تلك التي تتسبب في نسبة وفيات تبلغ 90%- نجاحاً كاسحاً. فلكي يظل الفيروس على قيد الحياة ويزدهر عليه حتماً أن يعمل كجاسوسٍ على أرض العدو، وأن يكون ماهراً في تمرير مادته الجينية من خليّة إلى أخرى دون تنبيه الاستجابة المناعية للمُضيف.
وغالباً ما تندرج الفيروسات المسؤولة عن التهابات الجهاز التنفسي الخفيفة إلى المتوسطة تحت هذه الفئة، وهي تشمل الفيروس المخلوي التنفسي، والفيروسات الغدّانية، وفيروسات الإنفلونزا البشرية، والفيروسات الأنفية، والفيروسات التاجية البشرية.
وتشير تقديرات مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في الولايات المتحدة إلى أن البالغين يعانون من نزلات البرد مرّتين إلى ثلاثّ مرّات في السنة، بينما يتعرّض الأطفال للإصابة أكثر من ذلك، ولكن نزلات البرد لا تمثّل تهديداً يُذكر على أولئك الذين ينعمون بأجهزة مناعية بصحّة جيدة.
وكما نعلم الآن جيداً، فإن فيروس كورونا أخطر من ذلك بكثير، إذ يمكنه التسبب في إصابة بعض المرضى بمتلازمة الالتهاب التنفسي الحاد، الأمر الذي قد يودي بحياة 1% إلى 7% من المصابين.
لماذا انتشر فيروس كورونا بهذا الشكل؟ معادلة لخداع خلايا المناعة
إن الجاسوس الناجح عليه أن يكون بارعاً في التنكّر، والأمر نفسه ينطبق على الفيروسات؛ فإذا أرادت الفيروسات الإفلات من كشف خلايا المناعة لأمرها، فعليها حتماً أن تغيّر غلافها البروتيني مراراً وتكراراً. ويتحقق ذلك من خلال تعديلات طفيفة في المادة الجينية للفيروس تدعى الطفرات. وينطبق هنا مبدأ غولديلوك: فإذا كانت الطفرات طفيفة جداً فسيسهل التعرف على الغلاف الفيروسي من قبل الأجسام المضادة، أمّا إذا كانت قويّة للغاية فربما تعطّل ببساطة عمل الفيروس.
والطفرات التي تتيح للفيروس العمل مُحتجباً عن الأجسام المضادة تكون بين هذا وذاك. وفيروسات الإنفلونزا التي تستخدم الحمض النووي الريبي (رنا) سريع التطوّر خبيرة في هذه اللعبة.
ويلقّننا التاريخ درساً مفاده أن طفرات الإنفلونزا يمكن أن تؤدّي إلى أوبئة ينجم عنها ملايين الوفيات، وتعلّمنا كذلك أن نراقبها. ومع تطوّر الإنفلونزا على مدار أشهر يستجيب علماء الفيروسات للأزمة بإنتاج لقاحات موسمية تظل فعّالة لفترة على الأقل.
ولكن هناك نقطة ضعف في طفرات كورونا.. إنها بطيئة الحدوث
تمتلك الفيروسات التاجية جينومات من نوع (رنا) أيضاً، ولكنها كبيرة جداً، وهذا يعني أن الطفرات تملك فرصاً أكبر للفشل والإخفاق من وجهة نظر الفيروس، ونتيجة لذلك طورت الفيروسات نوعاً من آلية التصحيح التي تعدل الطفرات، وهو ما يعني حدوث الطفرات بسرعة أقل بكثير مما تفعل فيروسات الإنفلونزا.
وهذه أخبار جيدة لنا، وعلى مستوى تطوير اللقاحات، ولكننا ما زلنا بحاجة إلى مزيد من المعلومات لتحديد المدة التي يتّسم خلالها اللقاح بالفاعلية.
كيف يستمر الفيروس في تحقيق الهيمنة على العالم؟ إن الانتقال من المصاب الأوّل إلى الثاني أمر جوهري؛ والرزاز المحمّل بفيروس سارس-كوف-2 (كورونا) ينتقل بالسعال والعطس إلى مضيفٍ جديد، وتعد هذه طريقة أكثر فاعلية تستخدمها الفيروسات غير التنفّسية مثل الإيبولا لنقل المرض، وتزداد كفاءة تلك الطريقة إذا كانت جزيئات الفيروس أكثر استقراراً ويمكنها البقاء على قيد الحياة على الأسطح خارج جسم الكائن الحي.
ولهذا السبب، يصير الحفاظ على مسافة تباعد بين بعضنا البعض، فضلاً عن عزل المرضى، مفيداً في تفادي الإصابات الجديدة. ويحتوي سارس-كوف-2 على غلاف فيروسي يحتوي على مواد دهنية يمكنها الذوبان في المركبات العضوية، لذا فإن غسل الأيدي بالصابون الذي يُفتت الدهون يمكن أن يوقف مسيرة انتشار الفيروس.
كيف يمكن التصدي لفيروس كورونا؟
تقول الباحثة "لعلّه جليّ أن إنهاء وباء فيروس كورونا المستجد وإبقاء تفشيه عند أدنى المستويات يتطلّب تحسيناً حاداً لبرامج الكشف عن تلك الجواسيس. إننا في حاجة إلى فرق مراقبة من علماء الأوبئة تعكف على فك رموز أنماط الانتشار الفيروسي، وفرق خبراء علم الفيروسات الجزيئية لتتبع تطوّر الفيروس كي نتمكّن من تحديث دفاعاتنا. ونحتاج كذلك إلى علماء المناعة كي يساعدونا على فهم مكافحة الجسم للفيروس، ودعم أبحاث اللقاحات. ونحتاج أيضاً إلى الأطبّاء وأفراد التمريض المدرّبين المجهّزين ليعتنوا بالمصابين بأمان، والعلماء ليساعدونا على تصميم علاجات فعالة.
إننا بحاجة إلى تمويل هؤلاء الأبطال على نحوٍ جيد، وتحديث أدواتهم باستمرار، ونحتاج من هياكل واستراتيجيات الصحة العامة تعزيز اعتبارات النظافة، واحتواء تفشي الأمراض، ومنع انتقالها. إن فيروس كورونا المستجد قد أظهر لنا حتمية اليقظة، وأن كلاً منا له دور شخصي في كسر دائرة انتقال المرض.
ولكن، ماذا لو ظهر مُسبب جديد للمرض يتمتّع بكل تلك السمات المروّعة التي تؤهّلة للنجاح الفيروسي؛ أي أنه لا يقتلنا بسرعة، ويشهد طفرات كثيرة، ويسهل نقل عدواه. إننا نعتمد على منظمة الصحة العالمية في مهام الإبلاغ عن حالات تفشّي الأمراض الجديدة، وعلى فرق الخبراء الدوليين كي يعملوا سريعاً لاحتوائها. ومن المهمّ أن يتلقّى كل من هذين الجانبين التمويل والدعم المناسبين من جانب الحكومات.