مع تفشي وباء كورونا في الولايات المتحدة وخروجه عن السيطرة، وجد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفسه في مأزق يهدد هدفه الرئيسي وهو الفوز بفترة رئاسية ثانية، فسعى لتحويل الأنظار إلى حرب أسعار النفط المشتعلة حالياً بين السعودية وروسيا، فما القصة؟
ماذا حدث؟
مساء الثلاثاء 31 مارس/آذار، استغل ترامب المؤتمر الصحفي اليومي الخاص بتطورات تفشي كورونا في الولايات المتحدة -وكان يوما صعباً؛ بعد الارتفاع الحاد في أعداد حالات الإصابة والوفيات- كي يقول إن هناك أموراً أخرى تحدث وتحمل أخباراً جيدة.
قال ترامب إنه أجرى "مناقشات مثمرة مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والرئيس الروسي فلادمير بوتين، بشأن أسعار النفط وجهود مكافحة فيروس كورونا".
ترامب أطلق على الانخفاض الحاد في أسعار النفط "تخفيضاً ضريبياً" للمواطنين الأمريكيين: "الناس سيدفعون الآن 99 سنتاً لشراء غالون الجازولين، وهذا أمر رائع في كثير من المجالات. سوف يساعد أيضاً شركات الطيران".
سعر الغالون كان متوسطه 2.8 دولار قبل شهر واحد فقط تقريباً، وكان أكثر من 3 دولارات كمتوسط خلال العام الماضي، وهذا أمر جيد للمستهلكين بالطبع، لكن القصة أكبر بكثير من ذلك، وهو ما لمَّح إليه ترامب بقوله: "نخطط جميعاً للعمل معاً لتقييم ما يمكننا القيام به، لأنكم لا تريدون أن تفقدوا صناعة النفط. ففي هذا القطاع آلاف وآلاف من الوظائف".
ترامب قال إن روسيا والسعودية تخططان للاجتماع، وإنه قد ينضم إلى المحادثات بين الطرفين إذا دعت الحاجة إلى ذلك، على الرغم من عدم صدور أي بيانات من الرياض أو موسكو بهذا الشأن، بل إن المؤشرات توحي بأن حرب الأسعار بينهما لن تتوقف قريباً، في ظل إعطاء ولي العهد أوامر لشركة أرامكو بتكثيف الطاقة الإنتاجية، لتصل إلى 13.5 مليون برميل يومياً بداية من الأربعاء 1 إبريل/نيسان، كما أن روسيا أعلنت الجمعة 20 مارس/آذار، رفضها تدخُّل ترامب من الأساس.
ماذا يعني "اعتدال أسعار النفط"؟
حتى تتضح الصورة بشأن قصة حرب أسعار النفط التي أشعلتها السعودية ضد روسيا لرفض الأخيرة الانصياع للرغبة السعودية في خفض الإنتاج، من المهم أن نفسر المقصود باعتدال أسعار النفط أو السعر العادل لبرميل النفط، وهذا المصطلح أطلقه ترامب مطلع عام 2017، وقال وقتها إن السعر العادل لبرميل النفط يجب ألا يتخطى حاجز 70 دولاراً أمريكياً بأي حال من الأحول.
لكن السعر العادل لبرميل النفط يختلف من منطقة لأخرى، بحسب تكلفة الإنتاج للبرميل وأيضاً بحسب نوع الخام نفسه، فتكلفة إنتاج برميل النفط تتراوح بين 35 و40 دولاراً بشكل عام حول العالم، باستثناء منطقة الخليج وتحديداً السعودية، حيث تقل عن 10 دولارات للبرميل؛ ومن ثم فالسعر العادل يتمثل في الربح الذي يضاف إلى تكلفة الإنتاج.
لكن هناك أيضاً عامل آخر يعتبر حاسماً في تسعير النفط، ويتمثل في موازنة الحكومات المعتمدة بشكل رئيسي على إنتاج النفط كدول الخليج. وبحسب البنك الدولي مطلع عام 2019، فإن 84 دولاراً للبرميل هو السعر الذي يعني عدم حدوث عجز في ميزانية السعودية، وهو السعر الذي لم يصل إليه الخام مطلقاً طوال العام، ما يعني أن الرياض تواجه عجزاً كبيراً في الميزانية.
مَن المتضرر من انهيار أسعار النفط؟
المتضرر الأول هو الدول المنتِجة للنفط ولكن الضرر يتفاوت؛ فالسعودية أكبر المتضررين لأنها تعتمد في ميزانيتها العامة على النفط بأكثر من 65%، مقابل روسيا التي تعتمد على النفط بنسبة 37%، كما أن الولايات المتحدة من المتضررين، ليس فقط بسبب تهديد صناعة الزيت الخام بأكملها، ولكن أيضاً بسبب التأثير المباشر على قطاعات أخرى مثل البنوك والبورصات.
جميع شركات البترول والطاقة في العالم متضررة، وجميعها تقوم بتسريح نسبة من موظفيها، وقد يفلس كثير منها، خصوصاً الشركات الصغيرة والمتوسطة، وهناك أيضاً الشركات التي توفر إمدادات ومنتجات وخدمات لصناعة الطاقة حول العالم، وهو ما يعني فقدان وظائف وربما إفلاس شركات بالكامل.
قطاع البنوك أيضاً من المتضررين بشكل مباشر، حيث إن شركات الطاقة الحاصلة على قروض ستتعثر في سدادها، وبصفة خاصةٍ شركات الخام الصخري في الولايات المتحدة والتي بلغت قروضها ما يقرب من تريليون دولار، العام الماضي، وأغلبها الآن مهدَّد بالإفلاس التام.
البورصات العالمية أيضاً متضررة بشدة؛ فشركات الطاقة والشركات الأخرى التي تدور في فلك المجال انهارت أسهمها، والبنوك أيضاً تراجعت أسهمها، وهو ما أثر على المؤشرات العامة لتلك البورصات وشهدت تراجعات تاريخية، وكثير من حمَلة أسهم تلك الشركات مواطنون فقدوا مدخراتهم أو أصبحوا معرَّضين لإجراءات قانونية، خصوصاً هؤلاء الحاصلين على قروض لشراء الأسهم.
هل هناك مستفيدون إذن من انهيار أسعار النفط؟
بالطبع وخصوصاً الدول المستوردة للنفط بشكل أساسي مثل الصين وتركيا والهند والدول الأوروبية، لكن هذا فقط جزء من الصورة وليس الصورة الكاملة، فالدول المستوردة للنفط تواجه أيضاً الآثار السلبية لانخفاض الأسعار، من ناحية انهيار أسواق الأسهم بها، وإفلاس شركات الطاقة وتسريح العاملين، وأيضاً من ناحية انخفاض الطلب على منتجاتها، في ظل تراجع القوة الشرائية لمواطني الدول المنتجة التي تمثل سوقاً رئيسية لتلك المنتجات.
تأثير وباء كورونا
توقيت حرب أسعار النفط أيضاً أسهم في أن يكون تأثيرها مدمراً من الناحية الاقتصادية، حيث يواجه العالم وباء كورونا الذي أجبر الجميع على إيقاف النشاط الاقتصادي بصورة شبه تامة، وأجبر نحو نصف الكوكب تقريباً على البقاء في منازلهم؛ وهو ما أدى إلى تراجع الطلب على النفط بأكثر من 80% تقريباً.
هذه المعطيات جعلت مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، تعلن قبل أيام، أن الاقتصاد العالمي دخل بالفعل في مرحلة كساد، وأنه يجري الآن البحث عن أفضل السبل لمنع تدهور الأمور أكثر وأكثر.
وبالعودة إلى ترامب، نجد أنه يوم 9 مارس/آذار (أي قبل نحو ثلاثة أسابيع فقط)، كان واثقاً بأن حرب أسعار النفط بين السعودية وروسيا تعتبر في مصلحة المستهلكين، وغرَّد على "تويتر" مبتهجاً: "أمر جيد للمستهلكين.. أسعار الجازولين ستنخفض!"، وهو ما حاول التركيز عليه أمس أيضاً، لكن التداعيات الاقتصادية الكارثية أصبحت الآن أكثر وضوحاً، ولا يمكن التغاضي عنها، لذلك قرر التدخل.
الغريب أن الأمر نفسه ينطبق على أداء ساكن البيت الأبيض بشأن وباء كورونا، الذي قال عنه ترامب أيضاً يوم 9 مارس/آذار، إنه أقل خطورة من الإنفلونزا العادية، واليوم أصاب الوباء نحو 190 ألف أمريكي، وقتل أكثر من 4000 شخص، وسط تقديرات مسؤولي الصحة الأمريكيين بأن يودي الوباء بحياة 250 ألف أمريكي خلال ذروة التفشي الحالية.