بعد تفشي وباء كورونا في معظم دول العالم، تراجعت الكثير من القضايا والأزمات حول العالم عن الساحة، وعلى رأسها التوتر الإيراني الأمريكي، لكن حملة الضغط القصوى الأمريكية ما زالت مستمرة على إيران، بل يتم تشديدها، في الوقت الذي أصبح كلا البلدين بؤرة للوباء القاتل.
هل نجحت حملة الضغط القصوى؟
تقول مجلة The National Interest الأمريكية، منذ أن انسحبت بصورةٍ فردية من الصفقة النووية مع إيران في مايو/أيار 2018، شنَّت إدارة ترامب حملة سمّتها "الضغط الأقصى" على طهران، وذلك من خلال العقوبات الاقتصادية. وكانت إيران من جانبها ملتزمةً بخطة العمل الشاملة المشتركة، التي فرضت قيوداً مُشدَّدة على تقنياتها النووية، وفتحت المجال أمام المفتشين الأجانب نظير السماح للشركات الغربية بالدخول إلى السوق الإيرانية. غير أن منتقدي الصفقة اشتكوا من أن خطة العمل الشاملة المشتركة لم تُنظِّم قدرات إيران التي تتحسَّن بسرعة في الصواريخ الباليستية، ولا هي تناولت تورُّطها في الحروب الأهلية في سوريا واليمن، ودعمها لحزب الله.
ولعامٍ كامل، ظلَّت طهران ملتزمةً بخطة العمل الشاملة المشتركة، إلا أن الآثار المزعزعة للاستقرار للعقوبات الجديدة التي فُرِضَت عليها كانت لا تُحتمل.
تضاءلت صادرات إيران من النفط إلى خُمس مستواها السابق، إذ وصلت إلى 500 ألف برميل في اليوم الواحد، بعدما كانت 2.5 مليون برميل. وأبعدت العقوبات معظم الاستثمارات الأوروبية، وذلك على الرغم من التزام الدول الأوروبية المُوقِّعة على الصفقة النووية بخطة العمل الشاملة المشتركة. وقد أدى هذا إلى ركودٍ اقتصادي مُدمِّر، إذ تقلَّص اقتصاد إيران بنسبة 4% إلى 6%، وتأثَّر المواطنون الإيرانيون بتضخُّمٍ نسبته 40-60%، وكان يُتوقَّع أن تزيد معدلات البطالة بنسبة 12% إلى 26%.
لكن على الرغم من أن العقوبات التي فرضتها واشنطن ألحقت الضرر المُراد، فإنها لم تنجح إلا في إغضاب قادة إيران وليس إخضاعهم.
وبينما كانت الانقسامات السياسية الحادة في الولايات المتحدة حاسمة، حسبما قيل، في انسحاب ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة التي تعود لفترة أوباما، انقسمت مراكز القوى المتنافسة في إيران بسبب الاتفاقية. إذ صُوِّرَ الموافقون على الحلول التوافقية المحدودة على أنهم "حمقى"، لمنحهم الذخيرة لفصائل مُتشدِّدة ولقوات الحرس الثوري الإيراني التابعة لهم.
ولذا، تنتقم إيران بحملة "ضغطٍ أقصى" خاصة بها. وبينما هي غير قادرة على فرض العقوبات على الولايات المتحدة، إلا أن باستطاعتها أن تسبِّب ألماً اقتصادياً لها من خلال تهديد خطوط الملاحة المهمة التي تعبر من موانئ الخليج العربي، من مضيق هرمز إلى خليج عمان.
تقول المجلة الأمريكية، أوشكت الولايات المتحدة وإيران، وفقاً لمعظم السرديات، على الدخول في صراعٍ مسلح ضد بعضهما في 20 يونيو/حزيران 2019. في حوالي الساعة 4 صباحاً من ذلك اليوم، أُصيبت طائرةٌ مُسيَّرة من طراز آر كيو – 4 غلوبال هوك، كانت تطير في دائرة منتظمة فوق المجال الجوي الدولي في الخليج العربي، من خلال الصاروخ الإيراني أرض- جو "رعد".
وفي وقتٍ لاحقٍ من اليوم نفسه، بدت الولايات المتحدة على بُعد "10 دقائق" فقط من ضرب 3 قواعد إيرانية، بصواريخ باليستية تُطلَق من الجو والبحر، قبل أن يعدل ترامب عن رأيه ويلغي الهجوم. ثم أعرب لاحقاً عن مخاوفه من أن يكون قتل حوالي 150 إيرانياً بسبب فقدان طائرة مُسيَّرة، رداً مبالغاً فيه.
"الخليج هو برلين الغربية لإيران"
خلال الحرب الباردة، قال رئيس الوزراء السوفييتي آنذاك، نيكيتا خروتشوف: "برلين الغربية هي نقطة ضعف الغرب. عندما أريد أن يصرخ الغرب ألماً فإنني أضغط على برلين". وهنا، فإن الخليج العربي هو برلين الغربية لإيران.
يمر ثُلث النفط العالمي من خلال مضيق هرمز. والخليج والمضيق كلاهما ضيق إلى حد ما -إذ تبلغ أضيق نقطة من المضيق 21 ميلاً فقط- وضحل، وفيهما مسارٌ واحد فقط أو اثنان صالحان يسمحان بمرور الصهاريج الكبيرة. ويعتبر النصف الشمالي الشرقي من ساحل الخليج منطقة إيرانية، ما يعني أن بإمكان الوحدات الإيرانية وضع الزوارق السريعة ومدفعيات الصواريخ بعيدة المدى في أي نقطة على طول الساحل لمسافة ألف ميل تقريباً.
تدرَّبَت القوات البحرية في الحرس الثوري الإيراني على هجمات الكر والفر على السفن الحربية والتجارية، باستخدام أفواج من الزوارق البخارية والألغام البحرية والصوراخ بعيدة المدى المضادة للسفن. وكانت إيران قد استخدمت، خلال حربها مع العراق، منصات النفط والجزر، وحتى الصهاريج المتحولة لتمركز القوات من أجل الهجمات.
تضم القوات البحرية في الجيش الإيراني ما يزيد عن 20 غواصة صغيرة وغواصين مزودين بمركبات توصيل السباحين، وهي مركبات مناسبة تماماً للاختباء بين الصخور الصاخبة الضحلة للخليج، لشنِّ هجماتٍ مفاجئة بالقذائف أو زرع الألغام في مسارات الشحن الرئيسية.
لنفكر إذن في تسلسل الأحداث منذ مايو/أيار 2019
- في 12 مايو/أيار، دُمِّرَت 4 سفن تجارية راسية في خليج عمان قبالة ساحل الإمارات العربية المتحدة، بالألغام الأرضية. وأشار مُحقِّقون إلى أن الدقة التي زُرِعَت بها الألغام تُرجِّح أن نخبةً من الغواصين المقاتلين هم مَن وضعوها.
- ثم في 13 يونيو/حزيران، انفجرت ناقلتان أخريان -الأولى هي سفينة Front Altair النرويجية والأخرى هي Kokuka Courageous اليابانية- على بُعد دقائق من بعضهما البعض في الساعة الثالثة صباحاً. وقد أنقذت الزوارق الإيرانية معظم طاقم السفينتين، وأطلقت صاروخاً محمولاً مضاداً للطائرات (أخطأ هدفه) على الطائرة الأمريكية المُسيَّرة MQ-9 التي كانت تراقب المشهد. وقد صُوِّرَ أيضاً زورق درية تابع للقوات البحرية في الحرس الثوري الإيراني، وهو يفك لغماً غير منفجر من جانب الناقلة Kokuka Courageous.
- كان واضحاً أن إيران تملك الوسائل (قواتها البحرية الخاصة) والدوافع (الانتقام من حملة الضغط الأقصى) لتنفيذ تلك الهجمات، وبدا أن تنفيذها الدقيق والمتزامن يشير إلى أنها من تخطيط إيران، مع المحافظة على تصنُّع الإنكار لأغراضٍ دعائية.
- في 17 يونيو/حزيران، أعلن الرئيس الإيراني، حسن روحاني أن إيران سوف تستأنف تخصيب اليورانيوم الأكثر نقاءً، منتهكاً الصفقة النووية.
- بعد ذلك بثلاثة أيام، أسقطت قوات الحرس الإيراني طائرةً بحريةً مُسيَّرة تابعة للولايات المتحدة؛ دون موافقة روحاني على الأرجح. وتختلف الروايتان الإيرانية والأمريكية فيما إذا كانت الطائرة المُسيَّرة قد اخترقت المجال الجوي الإيراني، لكن لنتذكَّر أن طائرات RQ-4 البطيئة واللافتة للنظر ليست مُصممة للتحليق فوق المجالات الجوية العدائية.
- وتُعد هذه طريقة طهران في الإشارة إلى أن بإمكانها الانتقام وأنها ستُنفذه إذا واصلت الولايات المتحدة جورها الاقتصادي. ولم "تفز" إيران من قبل في حربٍ ضد الولايات المتحدة -إذ تبلغ ميزانية الدفاع الإيرانية السنوية ما يعادل ميزانية حاملة طائرات أمريكية واحدة تقريباً- لكن باستطاعتها التسبُّب في خسائر تصل إلى عشرات أو مئات المليارات من الدولارات إذا تعطَّلَت التجارة، إلى جانب خسائر مُروِّعة في الأرواح وليس فقط في الطائرات المُسيَّرة وناقلات النفط المُدمرة.
ما هو "الفوز" بالنسبة لأمريكا في حرب كهذه مع إيران؟
اعتقد بعض أصحاب الأيديولوجيات المناهضة لإيران، مثل مستشار الأمن القومي، جون بولتون، ومن يماثلونه في التفكير من القادة في إسرائيل والسعودية، أن التكاليف الباهظة للحرب تستحق أن تُنفَق من أجل إيقاف برنامج الأبحاث النووية الإيراني (ومما يناسب حلفاء أمريكا، أن تتحمَّل الولايات المتحدة بالدرجة الأولى هذه التكلفة). أما من يرون الحرب مع إيران منشودة و"يمكن الفوز بها" فربما يأملون أن يكون التصعيد من جانب إيران "هدية" للولايات المتحدة لتعتبره ذريعةً للحرب.
لكن ما هو "الفوز" بالنسبة للولايات المتحدة في حربٍ كهذه؟ لا شك أن البنتاغون لا يريد غزو إيران -التي يبلغ تعدادها السكاني ضعف العراق- أو احتلالها. ومن شأن الحرب الجوية المطولة -وهي النتيجة الأرجح- أن تقتل الآلاف، وتستنزف مخزون الصواريخ باهظة الثمن بعيدة المدى، دون النجاح بالضرورة في تدمير تقنيات الصواريخ الباليستية والنووية الإيرانية في حصونها المنيعة تحت الأرض.
في الوقت نفسه، ستثأر إيران بشنِّ حربٍ غير متكافئة في أنحاء الخليج العربي والشرق الأوسط، وربما في أماكن أخرى. ولن تتحكَّم الولايات المتحدة بالضرورة في فترة استمرار هذه الحرب. ولنتذكَّر أن إيران أمضت في حربها على العراق 6 سنوات بعد أن طردت القوات العراقية الغازية.
واشنطن تريد "عقاب" إيران ولا تريد غزوها
تقول ناشيونال إنترست، تأمل واشنطن بصورةٍ "غريزية" أن تعاقب إيران بحيث لا تُشجِّع أساليبها "العنيفة"، إذ بعد إلغاء الهجوم الجوي على سبيل المثال، أمرت إدارة ترامب بشنِّ هجومٍ إلكتروني على أنظمة الصورايخ الإيرانية، وفرضت في 24 يونيو/حزيران عقوباتٍ جديدة على المرشد الأعلى، علي خامنئي. ومن جانبه استجاب روحاني بأن وصف ترامب "بالمتخلف عقلياً"، وأعلن اعتزامه نقض النصوص الإضافية لخطة العمل الشاملة المشتركة، في حين صرّح وزير خارجيته أن هذه كانت بمثابة "نهاية أبدية للمسار الدبلوماسي".
لكن محاولة التفوُّق على الإيرانيين في المشاحنات الانتقامية -هجوم إلكتروني، وإسقاط طائرة مُسيَّرة، وفرض عقوباتٍ، ونقض التزامات المعاهدة- لعبة خاسرة. والأرجح أن إيران لن ترد بشكلٍ بنّاءٍ على التهديدات بـ"إبادتها".
إعادة بناء قنوات التواصل هو الحل
تقول المجلة، إذا كانت أمريكا تود أن تغيِّر إيران من سلوكها، فسيكون عليها إعادة بناء قنوات التواصل الممزقة وإعادة خلق محفزات أصلية للدبلوماسية، بدلاً من أن تسوق التهديدات بالحرب وفرض العقوبات، وربما تكون أزمة كورونا التي تصيب العالم الآن وطلب إيران للمساعدات الدولية فرصة لخفض التوتر.
وقد أضعفت العقوبات الأمريكية الاقتصاد الإيراني. وبالرغم من أن واشنطن تؤكد على أن المعدات الإنسانية والطبية لا تطالها العقوبات، فإن القيود المفروضة على المصرف المركزي الإيراني، وكذلك القيود على قدرة البلاد على التعامل مع بقية دول العالم تُفاقم مشاكل طهران.
وتعالت مؤخراً أصوات في الولايات المتحدة تدعو إلى منح إيران ما تحتاجه من مساعدات (قدمت لقرض بـ5 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي)، بل تحض إدارة ترامب على اتباع نهج أكثر رأفة في التعامل مع أزمة الوضع الصحي في إيران بصفة عامة.
يرى مارك فيتزباتريك، الخبير في شؤون التسلح والبرنامج النووي الإيراني أن هناك فرصة سانحة لكسر جمود الأزمة بين البلدين. وقال فيتزباتريك في تغريدة بموقع تويتر نُشرت مؤخراً إن "السياسة الأمريكية تجاه إيران عالقة، إذ فشلت في تغيير سلوك إيران إلا إلى الأسوأ".
في النهاية، فإن تهديد واشنطن المستمر بقيام حرب إقليمية مدمرة وفوضوية يدعم بالفعل استراتيجة إيران الأمنية، القائمة على الردع في الخليج العربي، ودائماً ما ينتهي أسلوب لعب "الدجاجة" -حيث لا يخفض طرف من الطرفين من حدة التصعيدات- نهاية سيئة لكل الأطراف المشاركة.