ما هو أزمة نفطية بالنسبة لأجزاء من العالم يمثل نعمة لمناطق أخرى، والعكس، ولكن سواء كانت الأزمة سببها قفزة في أسعار النفط أو انهيارها، فإن النفط تأثر بالأحداث والصراعات الكبرى في العالم، وفي الوقت ذاته فإن التغييرات في أسعاره شكلت العالم لعقود وتسببت في حروب وغزوات وانهيارات لدول عظمى.
لم تكن أسعار النفط بمثل هذه الأهمية قديماً، غير أن ثمة حدث بعينه جعل أسعار النفط قضية جوهرية يتابعها العالم يومياً وتؤثر على مصائر الناس وأرزاقهم وأحياناً أرواحهم.
كان هذا الحدث هو حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، التي أدت إلى خلق ما يعرف في الغرب بأزمة النفط أو الطفرة النفطية في العالم العربي.
في هذه الأزمة شعر الغرب بأنه في أيدي العرب أوراق قوة هائلة، ولكن في العالم العربي أيضاً، تصاعد الدول النفطية مثل دول الخليج والعراق والجزائر وليبيا على حساب الدول غير النفطية مثل مصر وسوريا والمغرب.
النفط في عالم ما قبل 1973
قبل حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 كان المتحكم في عالم النفط المستهلكين والشركات الغربية التي تستخرج النفط.
منذ اكتشاف النفط في العالم الثالث لاسيما أمريكا الجنوبية والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، سعى الغرب إلى وأد أي محاولة لكي تتحكم الدول المنتجة في مقدراتها، وكانت الثورة المضادة التي أطاحت برئيس وزراء إيران المنتخب محمد مصدق نموذجاً واضحاً لأن الغرب مستعد أن يفعل أي شيء من أجل الهيمنة على نفط الشرق.
ولكن خلال الستينيات حدثت تطورات محدودة في اتجاه تقوية موقف الدول المنتجة أمام الشركات والدول الغربية، ولكن ظل تأثيرها محدوداً رغم ضغوط حركات التحرر وبعض الدول المنتجة للنفط لرفع الأسعار، أو زيادة حصة الحكومات من ريع النفط الذي كانت الشركات الأجنبية تأخذ حصة كبيرة منه.
إذ كانت أسعار النفط مستقرة طيلة السنوات التي سبقت عام 1973 عند مستوى قريب من 3.6 دولار لإن أسعار النفط كانت بيد الشركات العالمية، وخاصة مجموعة من الشركات تعرف باسم الأخوات الـ7 (إكسون وموبيل وشيفرون وغلف وتكساكو وشل وبي بي)، وكانت هذه الشركات هي التي تضع الأسعار بالاتفاق فيما بينها، وكانت هي التي تحدد حجم العرض في السوق، ولهذا كان السوق مستقراً ومتوازناً في أغلب الأحيان.
وحدها حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 خلقت وضعاً لم يكن ليحلم به أي من الدول المنتجة للنفط.
الأسباب العميقة لأزمة النفط عام 1973
قبل حرب أكتوبر بدأ الإنتاج الأمريكي من النفط يتراجع بعدما وصل للذروة في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات ليبدأ بعدها النقص، لا سيما في زيت التدفئة .
وعندما اندلعت حرب رمضان من قبل مصر وسوريا بمعاونة عدد من الدول العربية الأخرى، قرر المنتجون العرب الرئيسيون تقييد إنتاج النفط دعماً للدول العربية المحاربة.
وأعلن أعضاء منظمة البلدان العربية المصدرة للنفط (أوابك وهي غير أوبك) حظراً نفطياً، رداً على قرار الولايات المتحدة بإعادة تزويد الجيش الإسرائيلي بالسلاح خلال الحرب واستمر الحظر حتى مارس/آذار 1974.
السعودية لم تحظر النفط بالكامل لأمريكا والعالم يتودد للعرب
وسبق أن جرت محاولات لتنفيذ حظر نفطي بعد حرب 1967، ولكن لم تنجح وكانت السعودية دائماً ترى ضرورة الفصل بين النفط والسياسة، ولكن حرب أكتوبر/تشرين الأول خلقت زخماً جديداً في هذا الملف.
سمح هذا الحظر النفطي للدول المشاركة به بأن يثبتوا لـ "الشارع العربي" أنهم يفعلون شيئاً من أجل القضية الفلسطينية والأراضي العربية المحتلة، ولكن من حيث السوق الحقيقية لم يكن الحظر شاملاً، بقدر ما هو تقليل في الإمدادات والإنتاج.
ولم يكن "الحظر" سارياً بالكامل من قبل السعودية تجاه الولايات المتحدة، كما أفاد جيمس أكينز، الذي كان السفير الأمريكي في المملكة العربية السعودية في ذلك الوقت.
ولكن الاحتمال الطويل الأجل الذي خلقه الحظر لارتفاع أسعار النفط وتعطل الإمدادات والركود، أدى إلى ارتفاع الأسعار، وخلق شرخاً قوياً داخل الناتو، وسعت كل من الدول الأوروبية واليابان إلى الابتعاد عن سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. كما ربط منتجو النفط العرب بين نهاية الحصار والجهود الأمريكية الناجحة لإحلال السلام في الشرق الأوسط.
وبدأت إدارة نيكسون مفاوضات موازية مع منتجي النفط العرب لإنهاء الحظر، ومع مصر وسوريا وإسرائيل لترتيب انسحاب إسرائيلي من سيناء ومرتفعات الجولان بعد توقف القتال، وكانت هذه السياسات سبباً رئيسياً في مفاوضات السلام المصرية الإسرائيلية برعاية أمريكية، والتي أدت لمعاهدة السلام بين الجانبين.
وبشكل مستقل، أدى الوضع الذي خلقه الحظر النفطي إلى قرار أعضاء أوبك استخدام نفوذهم للتحكم بآلية تحديد الأسعار العالمية للنفط، ورفع أسعاره، خاصة بعد أن تراجعت قيمة الدولار، بعدما تخلت واشنطن عن ربطه بالذهب.
جاء هذا الإجراء بعد عدة سنوات من الانخفاض الحاد في الدخل بعد فشل المفاوضات الأخيرة مع كبرى شركات النفط الغربية.
واستقرت الأسعار عند مستوى بين 12.5 دولار و14 دولاراً خلال الفترة ما بين 1974 و1978 وكان إنتاج أوبك حينها مستقراً عند 30 مليون برميل يومياً. ولكن بقاء الأسعار مرتفعة ساهم كذلك في زيادة الإنتاج من خارج أوبك خلال نفس الفترة ليرتفع من 25 مليون برميل يومياً إلى 31 مليون برميل يومياً.
تأميم النفط.. الرياض تتردد
كانت إحدى النتائج الطبيعية الهامة لأزمة النفط 1973-1974 التأميم الواسع ولكن التدريجي للنفط.
وقد تم تأميم النفط بعد الأزمة من قبل الدول التي كانت لديها وجهات نظر غير مؤيدة لسياسة الولايات المتحدة الخارجية في المنطقة.
بينما ترددت السعودية أولاً، وبالتالي اختارت "المشاركة في الأسهم" ، قبل أن تدخل في التأميم بشكل كامل.
وبدأت العملية تدريجياً في العراق (1972-1975) وليبيا (1971-1974) والكويت (1976) والمملكة العربية السعودية (1976) وفنزويلا (1976).
يمكن القول إنه بينما ناضلت الدول والتيارات المعارضة للغرب لزيادة حصة الدول المنتجة للنفط، وضغطت في اتجاه التأميم، كان الأكثر استفادة من ذلك هي دول الخليج وخاصة السعودية، كما كانت الرياض الأكثر استفادة من الحرب التي شنتها مصر وسوريا.
خرجت السعودية جراء هذه الأحداث عملاقأً نفطياً، ولكن لديها منافسون آخرون في المنطقة أبرزهم إيران وبصورة أقل العراق.
تضاعف نصيب الفرد في السعودية من الناتج المحلي الإجمالي تقريباً بالقيمة الحقيقية بين عامي 1968 و1978 بفضل الارتفاع الكبير في أسعار النفط خلال السبعينيات.
أهم حدث اقتصادي منذ الكساد العظيم.. التفكير في تقنين الوقود وتغيير شكل السيارات للأبد
كان تأثير هذه الأزمة النفطية هائلاً على حياة المواطنين في الدول الغربية.
كانت الاقتصادات الصناعية تعتمد على النفط الخام وكانت أوبك المورد الرئيسي لها.
وقد اعتبرت "صدمة أسعار النفط" لعام 1973، إلى جانب انهيار سوق الأسهم 1973-1974، الحدث الأول منذ الكساد العظيم الذي كان له تأثير اقتصادي مستمر.
وفي بعض الأوقات، كانت هناك طوابير أمام محطات الوقود في الدول الغربية، وبطبيعة الحال كان العالقون في هذه الطوابير يلعنون دول أوبك والدول العربية، وكان درساً لا ينسى للغرب.
ووصل الأمر في بريطانيا جراء ارتفاع سعر البنزين إلى جعل جميع وسائل النقل أكثر تكلفة. وكان هناك حتى حديث في المملكة المتحدة عن التقنين باستخدام القسائم مثلما حدث خلال الحرب العالمية الثانية.
ورحب البريطانيون باليابانيين، الذين طوروا سيارات أصغر وأكثر كفاءة في استهلاك الوقود منذ فترة طويلة، وساعدت خبرتهم في إحياء تصنيع السيارات في المملكة المتحدة، ومنذ هذه الأزمة ازدادت شعبية السيارات الهاتشباك على حساب السيارات السيدان في أوروبا.
أما في الولايات المتحدة فإن ارتفاع أسعار الوقود أضر بصناعة السيارات الأمريكية التي كانت تميل لإنتاج مركبات ضخمة وشرهة للوقود، بينما منح فرصة كبيرة لصناع السيارات اليابانيين، الذين يبدون أكثر المستفيدين من هذه القفزة في أسعار النفط.
محور العالم
غيرت صدمة أسعار النفط أيضاً طبيعة العلاقات الدولية.
أصبحت منطقة الشرق الأوسط أكثر محورية في السياسة الدولية، ولكن اللاعبين الرئيسيين في المنطقة بدأوا يتغيرون.
فازدادت مكانة الدول النفطية مثل إيران الشاهنشاهية والعراق والجزائر وليبيا وبطبيعة الحال دول الخليج، ولاسيما السعودية.
تقول الغارديان عن ذلك: كانت العلاقات البريطانية في الخارج، أكثر تركيزاً على المخاطر التي تشكلها روسيا والصين كجزء من الحرب الباردة. وكان ينظر إلى دول الشرق الأوسط حتى عام 1973 على أنها أصدقاء يمكن الاعتماد عليهم، لكن المملكة المتحدة ودولاً أخرى في الغرب أعطت المنطقة مزيداً من الاهتمام بعد الحظر.
الكل في أزمة ما عدا الدول النفطية، والركود التضخمي يبرز كظاهرة اقتصادية جديدة
كان عقد السبعينيات فترة نمو اقتصادي محدود يرجع جزئياً إلى أزمات الطاقة في ذلك العقد.
وكان منتصف العقد أسوأ فترة للولايات المتحدة، وظل الاقتصاد الأمريكي ضعيفاً بشكل عام حتى الثمانينيات.
وشهدت فترة السبعينيات نهاية الطفرة الاقتصادية العالمية بعد الحرب العالمية الثانية. وقد اختلفت هذه المرحلة عن العديد من حالات الركود السابقة التي كانت تضخماً طفيفاً، حيث تزامن ارتفاع معدل البطالة مع ارتفاع معدل التضخم.
وشهدت هذه الفترة حالة اقتصادية نادرة تسمى الركود التضخمي تعزى بشكل كبير إلى ارتفاع أسعار النفط، أي ركود مع ارتفاع الأسعار، رغم أنه يفترض أن الركود يؤدي إلى تراجع الأسعار.
وشملت الأسباب الأخرى التي ساهمت في الركود حرب فيتنام، التي تحولت إلى تكلفة باهظة بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، وسقوط نظام بريتون وودز، الذي يسمح باستبدال الدولار بالذهب.
الأزمة النفطية الثانية.. الثورة الإسلامية في إيران
ظهرت الأزمة الثانية عام 1979، إثر اندلاع الثورة الإيرانية، وفرار حليف الغرب شاه إيران، محمد رضا بهلوي، من بلاده في أوائل عام 1979، مما سمح لآية الله الخميني بالسيطرة.
حطمت الاحتجاجات قطاع النفط الإيراني، وكان دور إيران في السوق النفطي أكبر من الوقت الحالي.
انقطعت إمدادات النفط حينها عن السوق بما يقارب نحو 2 مليون برميل يومياً. وتضاعفت الأسعار في ذلك العام لتصل القيمة الاسمية للبرميل إلى 25 دولاراً. وكانت هذه أعلى قيمة يصل إليها سعر برميل النفط منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
بينما استأنف النظام الجديد صادرات النفط، كان الإنتاج غير متناسق وبأحجام أقل، مما دفع الأسعار إلى الارتفاع. وزادت السعودية ودول أوبك الأخرى الإنتاج لتعويض الانخفاض، وبلغت الخسارة الإجمالية في الإنتاج حوالي 4٪ من إجمالي الإنتاج العالمي، ومع ذلك، نتج عن هذا الوضع ذعر واسع النطاق، مما دفع السعر إلى أعلى بكثير مما كان متوقعاً في الظروف العادية.
في عام 1980، بعد الغزو العراقي لإيران، توقف إنتاج النفط في إيران تقريباً، وانخفض إنتاج النفط العراقي بشدة أيضاً.
هبط إجمالي إنتاج النفط من البلدين من 6.5 مليون برميل يومياً قبل الحرب إلى نحو مليون برميل يومياً في عام 1981. ارتفع متوسط أسعار النفط إلى 35 دولاراً في 1980 ثم إلى 37 دولاراً في 1981 وكانت هذه هي أعلى قيمة يصل إليها برميل النفط في التاريخ.
إيران تتقزم نفطياً
كانت فترة منتصف السبعينيات ذروة قطاع النفط الإيراني، عندما وفرت نحو 10٪ من الإنتاج العالمي.
وانهار الإنتاج النفطي الإيراني بعد عام 1979 إلى ما يقرب من مليون ونصف المليون برميل.
ولم تعد إيران أبداً إلى الرقم القياسي البالغ 6 ملايين برميل يومياً التي كانت تضخه في عام 1974، وهو رقم يمثل 70٪ من الكمية التي أنتجتها السعودية أكبر منتج في أوبك في ذلك العام، وأكثر من ثلاثة أضعاف كمية جارتها العراق.
تخمة النفط تركع الدول المنتجة والغضب السعودي يوصل الأسعار لأدنى مستوى
في أعقاب هذه الأزمة أدى تباطؤ الاقتصادات الصناعية واستقرار العرض والطلب إلى انخفاض الأسعار في الثمانينيات.
بعد عام 1980 بدأت أسعار النفط في الانخفاض حيث بدأت دول أخرى في سد النقص في الإنتاج من إيران والعراق.
كما حدث تباطؤ للنشاط الاقتصادي في البلدان الصناعية (بسبب أزمتين الطاقة في 1973 و 1979) وترشيد استهلاك الطاقة نتيجة ارتفاع أسعار الوقود.
كان فائض النفط في الثمانينيات فائضاً خطيراً أدى إلى ما يعرف بتخمة النفط (1980s oil glut).
انخفض النفط عام 1986 من 27 دولاراً إلى أقل من 10 دولارات بعدما كان قد وصل إلى ذروته في عام 1980 التي بلغت أكثر من 35 دولاراً أمريكياً للبرميل (ما يعادل 109 دولارات للبرميل بقيمة الدولار 2019).
وبالإضافة إلى تراجع استهلاك الدول المتقدمة، كان التنافس بين أوبك ومنافسيها أحد أسباب الانهيار.
فقد تضاءل الاعتماد على إنتاج الشرق الأوسط مع تطوير الاستكشاف التجاري لحقول نفط غير تابعة لمنظمة أوبك في سيبيريا وألاسكا وبحر الشمال وخليج المكسيك؛ لأن هذه الحقول أصبحت اقتصادية بعد ارتفاع الأسعار، وأصبح الاتحاد السوفييتي أكبر منتج للنفط في العالم.
كما ضاعف صغار المنتجين من خارج أوبك بما في ذلك البرازيل ومصر والهند وماليزيا وعمان إنتاجهم بين عامي 1979 و1985 ، ليصبح إجمالي 3 ملايين برميل يومياً.
من عام 1980 إلى عام 1986 خفضت أوبك إنتاج النفط عدة مرات وتقريباً إلى النصف، في محاولة للحفاظ على أسعار النفط المرتفعة. ومع ذلك، فشلت في التمسك بحصتها، وانخفضت حصة أوبك انخفاض في السوق العالمية إلى أقل من الثلث في عام 1985، من حوالي النصف خلال السبعينيات.
حدث انقسام في الآراء، بين أعضاء أوبك حول الإجراءات التي يجب اتخاذها. في سبتمبر 1985 سئمت المملكة العربية السعودية من دعم الأسعار بحكم الواقع عن طريق خفض إنتاجها في مواجهة الإنتاج العالي في مواجهة تنصل دول أخرى في أوبك لمسؤولياتها.
في عام 1985 بلغ إنتاجها اليومي حوالي 3.5 مليون برميل في اليوم، منخفضاً من حوالي 10 ملايين في عام 1981.
خلال هذه الفترة، كان من المفترض أن يستوفي أعضاء أوبك حصص الإنتاج من أجل الحفاظ على استقرار الأسعار. ومع ذلك، قامت العديد من الدول بتضخيم احتياطياتها النفطية لتحقيق حصص أعلى، أو قامت بممارسات خداعية بشأن حجم إنتاجها، أو رفضت صراحة الموافقة على الحصص.
في عام 1985 سئم السعوديون من هذا السلوك وقرروا معاقبة دول أوبك غير المنضبطة.
تخلى السعوديون عن دورهم كمنتج متأرجح وبدأوا في الإنتاج بكامل طاقتهم، ما خلق "فائضاً كبيراً أثار غضب العديد من زملائهم في أوبك".
وبطبيعة الحال لم يستسلم أحد في أوبك وبدأ الجميع في تقليد السعودية وإعطاء تخفيضات كبيرة، وهو ما أدى في الأخير إلى هبوط أسعار النفط إلى أقل من 10 دولارات.
وكانت بعض الدول في أوبك تبيع برميل النفط في ذلك العام بسعر 7 دولارات.
وأصبحت مرافق إنتاج النفط عالية التكلفة أقل ربحية أو حتى غير مربحة.
نذر العشرية السوداء
شكل انهيار أسعار النفط عام 1986 مكسباً للبلدان المستهلكة للنفط مثل الولايات المتحدة واليابان وأوروبا والدول النامية، لكنه مثل خسارة جسيمة في عائدات الدول المنتجة للنفط في شمال أوروبا والاتحاد السوفييتي وأوبك.
واجهت المكسيك أزمة اقتصادية وديون عام 1982. تقلص الاقتصاد الفنزويلي وارتفعت مستويات التضخم (تضخم أسعار المستهلكين) .
كما يعتقد أن انهيار النفط كان له دور رئيسي في الأزمة الاقتصادية التي واجهت الجزائر في الثمانينات والتي أدت إلى مظاهرات ضخمة دفعت الرئيس الشاذلي بن جديد إلى إجراء إصلاحات عاجلة تضمنت تنظيم انتخابات بلدية وبرلمانية فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، الأمر الذي دفع الجيش الجزائري لإقالته وإلغاء نتائج الانتخابات وشن حملة قمع ضد الإسلاميين ودخلت البلاد في حرب أهلية عرفت باسم العشرية السوداء والتي لقى فيها عشرات الآلاف حتفهم.
وفي الخليج، فإن المملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج ضعفت قوتها الاقتصادية بشكل ملحوظ.
لكن الثمن الذي دفعته دول الخليج لم يكن فقط تراجع ميزانيتها ومعاناتها من عجز بها فقط، ولكن تحول الخطر إلى خطر مصيري، أدى إلى تعرّض هذه البلاد إلى أكبر أزمة في تاريخها الحديث.
الثمن الأكبر.. الغزو العراقي للكويت
خاض العراق حرباً طويلة ومكلفة ضد إيران، وكانت عائداته النفطية ضعيفة بشكل خاص. وقد انزعج صدام حسين من الكويت التي ساهم إنتاجها في وفرة النفط في الأسواق، وزعم أنها تضخ النفط من حقل الرميلة أسفل الحدود المشتركة بين البلدين.
غزا العراق الكويت في عام 1990، وكان يخطط لزيادة الاحتياطيات والإيرادات وإلغاء الديون عبر استغلال النفط الكويتي، ولكن الغزو أدى إلى حرب الخليج الأولى التي تسببت في تدمير وحصار العراق وتكبيد دول الخليج خسائر فادحة.
هل أدى تراجع النفط إلى انهيار الاتحاد السوفييتي؟
يعتقد أن الاتحاد السوفييتي الذي كان أكبر منتج للنفط في ذلك الوقت، قد يكون سبب تدهور أوضاعه ومن ثم انهياره، وهو التراجع الهائل في أسعار النفط.
فمع انخفاض إنتاج النفط في الفترة 1988-1991، تراجعت قيمة صادرات النفط السوفييتية، ووجد الاتحاد السوفييتي نفسه في وضع صعب مالياً، ولم يكن بوسعه تحمل تكاليف استيراد المواد الغذائية، التي كان في أمسّ الحاجة إليها، وانهار البلد.
في الولايات المتحدة، انخفض إنتاج النفط وتوقف منتجو النفط عن البحث عن حقول نفط جديدة خوفاً من خسارة استثماراتهم.
العقد الضائع
أدى الغزو العراقي للكويت وتوقف إنتاج البلدين إلى طفرة في الأسعار في مطلع التسعينيات، لكنها كانت أقل مما حدث بعد عام 1973 ونهاية السبعينيات، إذ أثبت السعودية أهميتها بالنسبة للغرب واستطاعت مع دول الخليج الأخرى تعويض النقص.
لكن مع عودة الكويت للإنتاج بدأ النفط يتراجع في التسعينيات مجدداً، وعانت الدول النفطية منها دول الخليج من عجوزات مالية كبيرة.
ظلّت أسعار النفط خلال التسعينيات تتأرجح حول مستوى 20 دولاراً للبرميل، إلى أن وقعت أزمة النمور الآسيوية عام 1998، فانهار معها سعر البرميل مُسجلاً مستوى متدنياً، بلغ 11 دولاراً.
شافيز بطل النفط
في ظل أجواء انهيار أسعار النفط، نظّمت فنزويلا انتخابات الرئاسة في ديسمبر/كانون الأول عام 1998، التي أسفرت عن فوز المرشح الثوري هوغو تشافير بما نسبته 52% من أصوات الناخبين.
كان خطاب شافيز اليساري الشعبوي مركّزاً على النفط، في الداخل والخارج.
لعب الرجل دوراً في رفع أسعار النفط عالمياً، عبر قيامه بجولات على الدول المنتجة الرئيسية لضبط الإنتاج، وفي الوقت ذاته زيادة نصيب بلاده من ريع النفط الذي تنتجه.
زار الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز العراق في 10 أغسطس/آب 2000 في إطار جولة على البلدان الأعضاء في المنظمة النفطية، وكان بذلك أول رئيس دولة يزور هذا البلد منذ الحظر الدولي المفروض على العراق بعد حرب الخليج عام 1991.
وعملت أوبك مدفوعة بحماسة شافيز على وضع نطاق لسعر برميل النفط بين 28 و22 دولاراً، وقضت آلية ضبط الأسعار النفط التي أقرتها أوبك بشكل غير رسمي في يونيو/حزيران 2000، بزيادة إنتاج النفط 500 ألف برميل يومياً، إن زادت أسعار سلة أوبك عن 28 دولاراً لمدة 20 يوم عمل متصلة.
ونتيجة لهذه السياسات قفز سعر سلة نفوط أوبك السبعة من 14.29 دولار إلى 44.30 دولار خلال يونيو/حزيران 2000.
وتعرض شافيز لمحاولتي الانقلاب، ولكن في الوقت ذاته واصل النفط الارتفاع بعد مبادرته.
كما شهدت الفترة التالية جملة من الأحداث الدولية التي أسهمت في صعود سعر النفط عن المستوى الذي بدأ به عهده، أي 11 دولاراً للبرميل. حيث أسهمت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 وغزو الولايات المتحدة أفغانستان والعراق ونمو الاستهلاك العالمي للنفط بفضل ارتفاع الطلب من الصين والهند إلى قفزة هائلة في أسعار النفط سجلت مستويات قياسية، اقتربت في معظم السنوات من 2000 إلى 2013 من حاجز الـ70 دولاراً للبرميل الواحد، في حين جاوزت حاجز الـ100 دولار خلال أعوام 2008، 2011، 2012.
ففي الأعوام ما بين 2000 و2008 ازداد الطلب على النفط في العالم بصورة كبيرة جداً بعد نمو الطلب من الصين والهند وباقي الدول الناشئة. إلا أن النمو في الطلب كان مفاجئاً ولم تكن أوبك جاهزة له، وهو ما تسبب في ارتفاع الأسعار بسبب محدودية نمو المعروض النفطي أمام نمو الطلب.
الربيع العربي يقدم لخصومه مزيداً من دولارات النفط
على غرار ما حدث مراراً من قبل، فإن السعودية كانت أول المستفيدين من التصرفات السياسية لخصومها في المنطقة من القوى الثورية سواء يسارية أو ديمقراطية أو إسلامية.
فمثلما استفادت من حرب أكتوبر والثورة الإسلامية في إيران، استفادت من ثورة دعاة الديمقراطية في العالم العربي وخلافات إيران مع الغرب.
ففي عام 2011 تفاقمت الاضطرابات السياسية في المنطقة العربية في أعقاب الربيع العربي، وأدى ذلك إلى انقطاع الإمدادات من الكثير من الدول المنتجة مثل ليبيا وسوريا واليمن. وخرج نحو 1.6 مليون برميل يومياً من النفط الليبي الخفيف عالي الجودة، ولم تتمكن دولة في أوبك من تعويضه. ولهذا ارتفعت أسعار النفط فوق مستوى 100 دولار واستقرت عند ذلك الحد نظراً لأن ليبيا ما زالت غير مستقرة إضافة إلى سوريا والعراق.
وفي عام 2012 فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حظراً على تصدير النفط الإيراني تسبب في خروج نحو مليون برميل يومياً من نفطها من السوق. وأدى هذا الأمر إلى تفاقم المخاوف من رد فعل عسكري إيراني، وهو ما أبقى أسعار النفط عالية.
ولكن كما حدث في الثمانينات، فإن بقاء أسعار النفط فوق 100 دولار لـ3 سنوات ونصف ساهم في إضعاف الطلب نوعاً ما، وسمح بدخول حقول جديدة ومصادرة جديدة لإنتاج النفط إلى السوق.
ففي الثمانينات دخل بحر الشمال، وفي السنوات الأخيرة دخل النفط الصخري إلى السوق. وتسبب هذا الأمر إضافة إلى تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي وانحسار المخاوف السياسية في المنطقة، في هبوط أسعار النفط من 115 دولاراً في يونيو/حزيران إلى 65 دولاراً.
السعودية وروسيا من التنسيق للحرب
يلاحظ أنه مع تورط إيران والعراق وفنزويلا في سلسلة طويلة من المشكلات والحروب والأزمات، فإن قطبي النفط أصبحا هم السعودية وروسيا، وأضيف إليهم منافس ثالث هو النفط الصخري.
وفي عام 2016 وقعت أزمة نفطية جديدة أو قل تخمة جديدة، إذ بدأ العام بانخفاض أسعار النفط إلى أقل مستويات لها منذ 15 عاماً حين وصلت إلى 27 دولاراً، ولكن انتهى العام عند ضعف ذلك تقريباً حين تعدى 55 دولاراً نهاية العام.
وبلغ متوسط سعر النفط في عام 2016 إلى 43 دولاراً تقريباً، وهو أقل متوسط منذ عام 2004 أي منذ 12 عاماً.
ويمكن وصف 2016 بأنه البداية الحقيقية لتخمة النفط الصخري الأمريكي، إذ رفعت الولايات المتحدة حظرها على تصدير النفط بعد 40 عاماً، بالرغم من تخمة المعروض العالمي؛ ما أثر سلباً على توازن أسواق النفط العالمية، وخلق المزيد من المنافسة أمام أنواع الخام العالمية المشابهة للنفط الصخري الخفيف مثل نفط بحر الشمال النرويجي، ونفط ليبيا، نفط الجزائر، والأثر الأكبر لحق بنفط غرب إفريقيا (نيجيريا وأنغولا).
ولكن نهاية العام شهدت أخباراً جيدة بالنسبة لأوبك، إذ اتفقت المنظمة على تخفيض الإنتاج إلا أن الأهم هو تنسيقها مع روسيا فيما يعرف أحياناً باسم (أوبك + )، إذ حصلت على وعد من موسكو بخفض إنتاجها بحوالي 300 ألف برميل يومياً.
وتتضمن الاتفاق خفض أعضاء أوبك للإنتاج بمعدل بـ1.2 مليون برميل في اليوم مع بداية عام 2017 على أن يكون هناك خفض للإنتاج من الدول غير الأعضاء بحوالي 600 ألف برميل يومياً.
وأصبحت السمة الرئيسية لهذه المرحلة هي التنسيق السعودي الروسي في مجال أسعار النفط ، في ظل قيادة الملك سلمان عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان للمملكة.
وساد شعور بأن هذا التنسيق سيستمر مع توسع علاقات البلدين بعدما كانت تتسم بالجفاء تاريخياً، لكن التعاون توسع إلى مجالات أخرى مثل إبداء السعودية اهتمامها بشراء صواريخ إس 400 .
وتعزز هذا الشعور بعد تعرّض الأمير محمد بن سلمان للنبذ في الغرب إثر اتهامه بالمسؤولية عن مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وكان الصحف الغربية ترى أن هناك كيمياء بين بوتين وبن سلمان باعتبارهما رجلين قويين لديهما ميول استبدادية مشتركة وعداء للديمقراطية والحركات الإسلامية، خاصة مع تراجع السعودية عن دعمها للمعارضة السورية وهي نقطة خلاف أساسية بين الجانبين.
ولكن هذه المراهنات تحطمت على المفاجأة المدوية التي فجرتها السعودية بإشعالها حرب النفط في 2020، رداً على رفض روسيا البوتينية لإبرام اتفاق مع أوبك لتخفيض الإنتاج.
وعلى غرار ما حدث في الثمانينات، عندما رفض منتجو النفط المشاركة في ضبط الأسواق قررت المملكة أن تلجأ لخيار شمشون "عليّ وعلى أعدائي"، ثم جاءت أزمة كورونا لتضعف الطلب العالمي لمستوى غير مسبوق منذ سنوات، ورغم محاولات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لوقف حرب أسعار النفط بين السعودية وروسيا فإن النفط وصل إلى أدنى مستوى في تاريخه حيث سجل النفط الأمريكي سعراً بالسالب.
ويبدو أن المعادلة تتكرر، عندما تتفق أوبك وتخفض إنتاجها ترتفع الأسعار فيشجع ذلك المنتجين الآخرين أصحاب الحقول عالية التكلفة، فيزيدون الإنتاج، فتغضب السعودية وأخواتها، فتغرق الأسواق، فيخرج المنتجون ذوي التكلفة المرتفعة، ولكن هذه المرة تبدو صناعة النفط الصخري تحديداً أكثر تكيفاً، وكذلك الروس، وهو الأمر الذي جعل السعودية تخفض أسعارها بشكل هائل، لإخراجهم من السوق، ولكن هذا الأمر سيؤثر أيضاً على ميزانية المملكة التي كانت مثقلة أصلاً بالعجز.
المشكلة الأكبر أنه، كما أظهرت التجارب السابقة، فإن انهيار أسعار النفط يكون له تداعيات أكبر مما يتخيل أصحاب مثل هذا القرار أو الفرحون به في الغرب.
فقد أثبت النفط أنه سبب للأزمات في البلدان المستهلكة إذا قفزت أسعاره، وسبب للكوارث في البلدان المصدرة إذا انهارت.