كثير من الخبراء يطلقون على أي مواجهة نووية بين الهند وباكستان وصف "حرب نووية إقليمية محدودة"، لكن هذا التوصيف ليس دقيقاً، ولهذا أسباب كثيرة، فما تلك الأسباب التي تجعل من مواجهة كهذه – إن حدثت – كارثة عالمية بكل المقاييس؟
مجلة ذا ناشيونال إنتريست الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "نشوب حرب نووية بين الهند وباكستان قد يُخلِّف ضحايا في مختلف أرجاء العالم"، أعده سيباستيان روبلن، وهو حاصل على درجة الماجستير في تسوية النزاعات من جامعة جورج تاون الأمريكية، ويكتب في الشؤون الأمنية والتاريخ العسكري بموقع War Is Boring الأمريكي.
هل السيناريو وارد أساساً؟
شنَّت المقاتلات الهندية والباكستانية في الفترة بين 26 و27 فبراير/شباط 2019 ضربات على أراضي كل منهما واشتبكت في قتالٍ جوي للمرة الأولى منذ عام 1971، ولمَّحت باكستان على نحوٍ ينذر بالسوء بعقدها اجتماعاً لـ "هيئة القيادة الوطنية الباكستانية"، وهي المؤسسة المُخوَّلة السماح بشن ضربة نووية.
ولدى الدولتين، اللتين احتفظتا بعلاقاتٍ عدائية بينهما منذ نشأتهما عام 1947، رؤوسٌ حربية نووية يمكن إطلاقها براً أو جواً أو بحراً، ومع ذلك، فإنَّ تلك الأسلحة أدنى في العدد والقدرات من آلاف الأسلحة النووية التي تملكها كل من روسيا والولايات المتحدة، والتي تضم أسلحة من فئة الميغاطن القادرة على محو مدينة رئيسية بانفجارٍ واحد.
وقد أشار بعض المعلقين، على نحوٍ يتسم بالجمود والتحجُّر، إلى أنَّ هذا يعني أنَّ نشوب "حرب نووية إقليمية محدودة" سيبقى مشكلةً هندية باكستانية. ويجد الناس صعوبة في تقييم مخاطر تلك الأحداث النادرة لكن الكارثية؛ ففي نهاية المطاف، لم تقع حرب نووية شاملة قط، ولو أنَّ ذلك كاد أن يحدث.
ومثل هذه التقييمات لا تتسم بالجمود والتحجُّر على نحوٍ صادم وحسب، بل وقصيرة النظر كذلك. في الواقع، أجرت العديد من الدراسات عمليات محاكاة للتأثير العالمي لحربٍ نووية "محدودة" تستمر لعشرة أيام، تتبادل فيها الهند وباكستان 50 قنبلة نووية ذات قوة تدميرية تساوي 15 كيلوطناً، أي تعادل كلّ منها القوة التدميرية لقنبلة اليورانيوم المعروفة باسم "الولد الصغير" التي أُلقيَت على مدينة هيروشيما اليابانية.
وخلُصت نتائجها إلى أنَّ التبعات لن تكون "محدودة" بأي شكلٍ من الأشكال، وستؤثر مباشرةً على الناس –الذين ربما لا يعرفون أين تقع كشمير على الخريطة- في مختلف أنحاء العالم.
وتلك النتائج ليست إلا نقطة انطلاقٍ معتدلة؛ إذ يُقدَّر ما تملكه الهند وباكستان بأكثر من 260 رأساً حربياً. وعلى الأرجح تصل القوة التدميرية لبعض تلك الرؤوس الحربية إلى ما يتجاوز 15 كيلوطناً، وهي القوة التدميرية الضئيلة نسبياً بالمقارنة مع الرؤوس الحربية الاستراتيجية الحديثة.
الضحايا
أدَّت الهجمات الإرهابية المتكررة التي تشنها الجماعات المسلحة التي ترعاها باكستان بسبب الوضع في ولاية جامو وكشمير الهندية ذات الغالبية المسلمة مراراً إلى تهديدات بردٍّ عسكري تقليدي من جانب نيودلهي.
وتُصِرُّ باكستان بدورها على أنَّها قد تستخدم أسلحة نووية كسلاحٍ للضربة الأولى من أجل معادلة كفة القوات التقليدية التي تميل لصالح الهند، ومن بين الأسباب التي قد تدفع إلى هذا تعرُّض جزء كبير من الجيش الباكستاني للتدمير، أو توغل القوات الهندية عميقاً داخل الأراضي الباكستانية. وتقول إسلام أباد كذلك إنَّها قد تأذن بشن ضربة في حال فرض حصار هندي مدمر، أو تزعزع الاستقرار السياسي لديها بتحريضٍ من الهند.
وتتمثل السياسة الرسمية الهندية في أنَّها لن تكون أبداً البادئة بشن ضربة نووية، لكن بمجرد أن تُستخدَم الأسلحة النووية ضدها، ستطلق نيودلهي العنان لانتقامٍ شامل.
أدَّت قنبلة "الولد الصغير" وحدها إلى قتل قرابة 100 ألف ياباني –أي ما بين 30 إلى 40% من سكان هيروشيما- ودمرت 69% من المباني في المدينة. لكنَّ باكستان والهند لديهما بعض من أكثر المدن اكتظاظاً وكثافة سكانية في العالم، وتبلغ –أو تتجاوز- الكثافة السكانية بكل من مدن كالكوتا وكراتشي ومومباي 65 ألف نسمة في الميل المربع، وبالتالي، فإنَّ حتى القنابل ذات القدرة التدميرية الضئيلة قد تُخلِّف خسائر بشرية فادحة.
وتُقدِّر دراسة أُجريَت عام 2014 أنَّ الآثار الفورية للقنابل –كرة النار، وموجة الضغط المرتفع، والحروق الإشعاعية وغيرها- ستقتل عشرين مليون شخص. وقدَّرت دراسة سابقة أنَّ تفجير 100 قنبلة نووية ذات قوة تدميرية تبلغ 15 كيلوطن قد يقتل 26 مليون شخص في الهند و18 مليوناً في باكستان، وخلُصت إلى أنَّ التصعيد وصولاً إلى استخدام رؤوس حربية تبلغ قوتها التدميرية 100 كيلوطن -وهي الرؤوس الحربية التي يصل نصف قطر التفجير التي تُحدِثه إلى نطاقات أكبر ويمكن لموجات الضغط العالي الناتج عنها أن يُهشِّم الهياكل المقوّاة- قد يضاعف حصيلة الوفاة أربع مرات.
علاوة على ذلك، تستبعد تلك الحسابات المتوقعة للضحايا الآثار الثانوية للتفجيرات النووية، إذ سيعاني الكثير من أولئك الذين نجوا من الانفجار الأول الموت البطيء الطويل بسبب التعرُّض للإشعاع. وسيؤدي انهيار قطاعات الرعاية الصحية، والمواصلات، والصرف الصحي، والمياه، والبنية التحتية إلى حصد أرواح أخرى كثيرة. وقد يؤدي الانفجار النووي إلى عاصفة نارية مميتة. على سبيل المثال، أسفرت العاصفة النارية التي تسبب بها قصف الولايات المتحدة لطوكيو بالنابالم في مارس/آذار 1945 عن قتل أناسٍ أكثر ممن قُتِلوا في تفجير قنبلة "الرجل السمين" النووية التي أُلقيَت على مدينة ناغازاكي اليابانية.
تدفقات اللاجئين
تسببت الحرب الأهلية في سوريا في نزوح أكثر من 5.6 مليون لاجئ إلى خارج البلاد من مجموع سكان كان يصل إلى 22 مليوناً قبل بدء الصراع، وعلى الرغم من الاستقرار والرخاء النسبيين للبلدان الأوروبية التي نزح إليها اللاجئون، أثار هذا التدفق تبعاتٍ سياسية هزَّت كل حكومة غربية كبرى تقريباً.
الآن فكِّروا في تحركات السكان المحتملة في حال نشوب حرب نووية بين الهند وباكستان، اللتين تضمان معاً ما يفوق ملياراً ونصف المليار نسمة، وعلى الأرجح ستتسبب التفجيرات النووية –أو حتى مجرد احتمال وقوعها- في نزوح الكثير من سكان المدن إلى الريف أو إلى الأماكن الأقل احتمالاً للتعرُّض لضربة نووية، وسيستغل المواطنون الأكثر ثراءً، والذين يبلغ عددهم عشرات الملايين، مواردهم للفرار إلى الخارج.
وعند بدء إلقاء القنابل، قد يبدأ المواطنون الأكثر فقراً في التدفق إلى الحدود البرية، مثل الحدود مع أفغانستان وإيران بالنسبة لباكستان، أو نيبال وبنغلاديش بالنسبة للهند، وستعاني تلك الدول الفقيرة كي تُعيِل عشرات الملايين من اللاجئين، وتملك الصين كذلك حدوداً مع الهند وباكستان، لكن لم ترحب بكين باللاجئين تاريخياً.
وقد يُقدِم بعض المواطنين على رحلات محفوفة بالمخاطر في البحر على متن قوارب مُحمَّلة بما يفوق طاقتها، واضعين نصب أعينهم بلوغ جنوب شرق آسيا وشبه الجزيرة العربية. ومن المؤكد أنَّ الآلاف سيغرقون. وستدير الكثير من الحكومات الإقليمية ظهرها؛ لأنَّها تستضيف بالفعل لاجئين نزحوا نتيجة صراعات سابقة في فيتنام وكمبوديا وميانمار.
الغبار الإشعاعي
سينتشر الغبار الإشعاعي كذلك في أنحاء العالم. وشقَّ الغبار الإشعاعي الناتج عن انفجار مفاعل تشرنوبل مثلاً طريقه من أوكرانيا باتجاه الغرب حتى أوروبا الغربية، مُعرِّضاً 650 ألف شخص للإشعاع ومُلوِّثاً 77 ألف ميل مربع (200 ألف كيلومتر مربع تقريباً). وقد تستمر الآثار الصحية طويلة الأمد لعقود. وسيتعرَّض جيران الهند وباكستان على وجه الخصوص للإشعاع، ومعظم تلك البلدان تفتقر إلى الرعاية الصحية والبنية التحتية اللازمة للتعامل مع أزمةٍ كهذه.
شتاء نووي
وجدت دراستان أُجريتا عامي 2008 و2014 أنَّه إذا جرى تفجير مائة قنبلة ذات قوة تدميرية بالغة 15 كيلوطناً، سيصل 5 ملايين طن من الجسيمات السخامية الدقيقة إلى طبقة الستراتوسفير بالغلاف الجوي، حيث ستنتشر في أنحاء العالم، الأمر الذي سيؤدي إلى تشويه أنماط الطقس العالمية على مدار السنوات الـ25 التالية.
وستحجب الجسيمات الضوء القادم من الشمس، ما يتسبب في انخفاض درجات حرارة سطح الأرض بمعدل 2.7 درجة فهرنهايت (1.5 درجة مئوية) في أنحاء العالم، أو 4.5 درجة فهرنهايت (2.5 درجة مئوية) في أمريكا الشمالية وأوروبا. وستقل المواسم الزراعية بما يتراوح بين 10 إلى 40 يوماً، وستصبح محاصيل معينة مثل القمح الكندي ببساطة غير متاحة. وسيتراجع الناتج الزراعي العالمي، ما يقود إلى ارتفاع الأسعار والمجاعات.
وقد تستنفد الجسيمات 30 إلى 50% من طبقة الأوزون، ما يسمح للمزيد من الإشعاع الشمسي باختراق الغلاف الجوي، الأمر الذي سيتسبب في زيادة الحروق الشمسية، ومعدلات السرطان، والقضاء على الحياة النباتية والعوالق البحرية الحساسة، مع امتداد التأثير إلى القضاء على القسم الأكبر من إنتاج الصيد.
وكي نكون واضحين، هذه هي النتائج المترتبة على سيناريو شتاء نووي "بسيط"، وليس صراعاً من الوزن الثقيل بين الترسانتين الروسية والأمريكية.
ركود عالمي
سيكون أيٌ من العوامل الواردة أعلاه على الأرجح كافياً للتسبب في ركودٍ اقتصادي عالمي. لكن كل هذه العوامل مجتمعة ستضمن حدوث ركود بالتأكيد.
إذ تُشكِّل الهند وباكستان خُمس سكان العالم، وبالتالي تُشكِّلان حصة كبيرة من النشاط الاقتصادي. وفي حال صارت مدنهما الكبرى ركاماً مشعاً وقُضي على الجزء الأكبر من سكانهما، سينتج بالتأكيد اختلالٌ هائل. فمن الواضح أنَّ حدوث تراجع ضخم في الاستهلاك والإنتاج سيؤدي إلى دورة كساد طويلة الأمد، يصحبها موجات حرمان وزعزعة للاستقرار السياسي تضرب البلدان النامية والمتطورة على حدٍ سواء.
وبالنظر إلى كل هذه النتائج معاً، فإنَّها تعني أنَّه حتى نشوب حرب نووية "محدودة" بين الهند وباكستان سيؤثر كثيراً على كل شخص في العالم، سواء كان مُعلِّماً في مدرسة بولاية نبراسكا الأمريكية، أو عاملاً في مصنع بمقاطعة شانغهاي الصينية، أو صياداً في مدينة مومباسا الكينية.
وللأسف، التصعيد الأخير بين الهند وباكستان ليس تصعيداً مفاجئاً وليد الصدفة، بل جزءاً من نمطٍ يغلي ببطء منذ أمدٍ طويل، وعلى الأرجح سيتواصل التصعيد ما لم تعمل نيودلهي وإسلام أباد معاً لتغيير طبيعة العلاقة بينهما.