بعد أن أعلنت الصين الانتصار على فيروس كورونا المستجد، هل تتراجع حالة الرعب لدى المواطنين حول العالم، على الرغم من انتشار الفيروس في أكثر من 100 دولة وزيادة حالات الوفاة في إيطاليا بصورة لافتة؟ لكن السؤال الآخر هو: هل كورونا فيروس مرعب فعلاً لهذه الدرجة، أم أن حالة الهلع سببها عوامل لا علاقة لها بحقيقة الفيروس نفسه؟
لنبدأ بالأرقام التي لا تكذب
آخر تحديث بشأن أعداد المصابين وحالات الوفاة بفيروس كورونا المستجد حتى اليوم الأربعاء 11 مارس/آذار 2020، بحسب موقع الإحصاء وورلد ميترز هو نحو 120 ألف إصابة و4300 حالة وفاة في 120 دولة حول العالم، تتركز غالبية حالات الإصابة ومعظم حالات الوفاة في الصين، وبالتحديد في مقاطعة هوبي، وعاصمتها مدينة ووهان، حيث ظهر الفيروس هناك أواخر العام الماضي.
ونبدأ من الصين، التي أعلنت أمس الثلاثاء 10 مارس/آذار، على لسان الرئيس شي جين بينغ الانتصار على فيروس كورونا، فنجد أن حالات الوفاة هناك بلغت 3158، والإصابات بلغت 80700، فماذا يعني الإعلان عن الانتصار على الفيروس هناك؟
منذ أعلنت السلطات الصحية في الصين حالة الطوارئ الوطنية لمواجهة الفيروس، وفرضت إجراءات صارمة، منها فرض حجر إجباري على مقاطعة هوبي بالكامل (حيث يعيش نحو 60 مليون نسمة) في 23 يناير/كانون الثاني، كان المعدل اليومي لحالات الإصابة يتراوح بين 2000 و3000، وحالات الوفاة بين 100 و200 حالة.
هذه الأرقام بدأت في الانخفاض منذ الأسبوع الأخير من فبراير/ شباط، حتى بلغت حالات الإصابة الجديدة 17 فقط أمس الثلاثاء، وكانت محصورة في ووهان، وهو ما يعني محاصرة انتشار الفيروس في زمن قياسي، بحسب منظمة الصحة العالمية.
الوضع داخل الصين بالتفصيل
فريق خبراء منظمة الصحة العالمية الذي أشاد بجهود الصين في مكافحة الفيروس نشر أرقاماً تفصيلية عن حالات الإصابة والوفيات وحقائق من المهم التوقف عندها؛ 80% من حالات الإصابة بالفيروس أعراضها خفيفة إلى متوسطة، و13.8% أعراضها حادة، و6.1% عانت من أعراض خطيرة مهددة للحياة، تشمل فشل الجهاز التنفسي وفشلاً كلوياً، وغيرها من الأعراض المميتة.
أما أعلى معدل لحالات الوفاة فكان بين كبار السن (21.9% بين من هم في سن 80 فما فوق)، والفئة الثانية من يعانون من أمراض القلب والضغط المرتفع والسكر، أما أكثر أعراض الفيروس انتشاراً فهي ارتفاع درجة الحرارة والسعال الجاف، والمفاجأة هنا أن 4.8% فقط من حالات الإصابة ظهرت عليها أكثر أعراض الإنفلونزا انتشاراً وهو سيلان الأنف. من بين حالات الإصابة، 2.4% فقط أطفال، وليس من بينهم حالات أعراضها خطيرة.
حالات الإصابة ذات الأعراض الخفيفة والمتوسطة (التي تمثل 80% من الإصابات) تماثلت للشفاء في مدة زمنية متوسطها أسبوعان، وهذه معلومة مهمة للغاية.
ماذا عن الوضع عالمياً؟
في الوقت الذي أعلنت الصين السيطرة على الفيروس كان الوضع مختلفاً تماماً في بلاد أخرى، حيث بدا الفيروس أكثر شراسة وانتشاراً، ولنبدأ من إيطاليا التي يعيش سكانها بداية من أمس الثلاثاء حالة تشبه حظر التجول، بعد أن تخطت حالات الإصابة أكثر من 10100، والوفيات أكثر من 640، رغم أن أول حالة إصابة ظهرت هناك يوم 21 فبراير/شباط.
لكن الحقيقة المجردة تتعلق بمعلومة تخص نسبة كبار السن في المجتمع الإيطالي، والتي تتخطى 24% (65 فما فوق)، بل إن أكثر من 60% من سكان إيطاليا (60.8 مليون نسمة) هم فوق سن الأربعين، وبما أن كبار السن هم الأكثر عرضة للوفاة إذا ما أصيبوا بفيروس كورونا المستجد (بسبب ضعف جهاز المناعة)، تتضح الصورة أكثر.
بؤرة أخرى تسببت في نشر الفيروس في منطقة الشرق الأوسط وهي إيران، نجد أن الوفيات هناك بلغت 291 حالة فقط (الأرقام حتى اليوم بحسب موقع وورلد ميترز للإحصائيات)، أغلبهم أيضاً من كبار السن، وحالات الإصابة أكثر من 8000، ويلاحظ هنا أن نسبة الوفيات بالنسبة للإصابة منخفضة بأكثر من النصف مقارنة بإيطاليا، على الرغم من تدني النظام الصحي في إيران مقارنة بمثيله في إيطاليا.
ثالث أكبر بؤرة من حيث عدد الإصابات هي كوريا الجنوبية، حيث يوجد أكثر من 7700 إصابة، أما حالات الوفاة فهي 61 فقط، واليابان بها أكثر من 1300 حالة إصابة وسجلت 19 حالة وفاة، بينها 7 حالات كانت على متن السفينة السياحية دايموند برنسيس.
ماذا تعني تلك الحقائق؟
الأرقام إذن عند مقارنتها، على سبيل المثال، بفيروس الإنفلونزا العادية الذي أودى بحياة أكثر من 7000 شخص حول العالم خلال نفس الفترة الزمنية التي انتشر فيها كورونا، نجد أن حالة الهلع من الفيروس الصيني (كورونا المستجد) مسألة تحتاج للدراسة والتحليل.
"لا صوت يعلو على صوت الذعر من كورونا"؛ هذه المقولة هي العنوان الأبرز حول العالم خلال الأسابيع الماضية، منذ منتصف يناير/كانون الثاني، التداعيات مذهلة على كافة المستويات، خصوصاً الاجتماعية والاقتصادية، وتحولت قصص كورونا إلى "التريند" الأبرز حول العالم (بلغة السوشيال ميديا)، وهنا تكمن المشكلة.
نظريات المؤامرة والشائعات والنصائح التي تبدو طبية أغرقت المشهد، واستولت عليه تماماً، في إشارة مرعبة على مدى سيطرة مواقع التواصل الاجتماعي المطلقة على حياة الناس وتأثيرها الخطير، ما يطرح التساؤل حول الدور الذي تلعبه تلك الوسائل سلباً أو إيجاباً في تشكيل الرأي العام بشأن أي قضية في أي مجال.
فكم من منشورات تحمل أخباراً أو معلومات منسوبة لمنظمات وهيئات طبية عالمية أو مسؤولين محليين يتم تداولها ومشاركتها مئات الآلاف من المرات بين مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، واتساب… إلخ)، وهي مزيفة ولا أساس لها من الصحة، بل تروجها قنوات تلفزيونية ومحطات إذاعية وصحف ومواقع موثوقة دون التحقق من مصدرها (هذا الرابط يحمل تفاصيل أكثر).
الكل مشارك في نشر حالة الهلع
وحتى لا نحمل المسؤولية كاملة لمواقع التواصل الاجتماعي ومستخدميها من المواطنين حول العالم، يجب أن نتوقف عند دور الحكومات والمسؤولين أولاً، ثم دور وسائل الإعلام التقليدية ثانياً، ولنأخذ أكبر دولة عربية من حيث عدد السكان وهي مصر كمثال.
تكاد تكون مصر هي الدولة الوحيدة في المنطقة العربية التي تأخر فيها ظهور حالات إصابة بفيروس كورونا، ولم تسجل فيها إلا حالة وفاة واحدة لسائح ألماني قبل عدة أيام، وأعلنت وزارة الصحة مراراً وتكراراً أنه لا توجد حالات إصابة بالفيروس بين المصريين (حتى قبل عدة أيام عندما ظهرت حالات على الباخرة السياحية في الأقصر)، بل إن وزيرة الصحة المصرية فاجأت الجميع وقامت بزيارة الصين بتكليف من رئيس الجمهورية عبدالفتاح السيسي، لنقل رسالة تضامن مع الحكومة الصينية.
لكن الموقف عبر مواقع التواصل الاجتماعي في مصر كان مختلفاً تماماً، ويعبر عن حالة من القلق سببها اعتقاد الأغلبية أن الحكومة تخفي الحقيقة فيما يخص فيروس كورونا، يغذي تلك الحالة من القلق الإعلان عن حالات إصابة في دول مثل فرنسا والولايات المتحدة لمواطنين عائدين من زيارة مصر، ومع الوقت تحولت حالة القلق إلى الذعر، ووصلت إلى ما يشبه الهستيريا بين "جروبات الماميز" -إشارة إلى مجموعات واتساب بين أمهات تلاميذ المدارس- وجعلته المصطلح الأكثر تداولاً على منصات التواصل في الفترة الأخيرة.
المطالبات عبر منصات التواصل الاجتماعي في مصر بتعطيل الدراسة أصبحت حديث الساعة، وتناولتها جميع البرامج التلفزيونية، وقام وزير التربية والتعليم طارق شوقي (أكثر المسؤولين عرضة للانتقاد بين المصريين منذ وصوله لكرسي الوزارة) بعمل مداخلات كثيرة للتأكيد على أن تعليق الدراسة لن يحدث إلا إذا كانت هناك ضرورة لذلك.
حالة عدم التصديق لما يصدر عن المسؤولين في مصر لها ما يبررها بالطبع، كما أن مصداقية وسائل الإعلام تآكلت بصورة مطردة منذ ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، ووصلت إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق في السنوات القليلة الماضية، بعد أن وضعت الحكومة يدها على غالبية تلك الوسائل، وأصبح دورها قاصراً على الترويج لسياسات الحكومة في كل القضايا، ما دفع غالبية المصريين للجوء إلى مواقع التواصل الاجتماعي كمصدر للأخبار والمعلومات، وهو ما جعلهم فريسة لمنصات لا تخضع لأي منطق أو معايير ويستخدمها الجميع لأغراضه الخاصة.
لكن هذه الحالة -وإن كانت بدرجات متفاوتة- أصبحت عامة على مستوى العالم تقريباً، وبالتالي تاهت الحقائق وطغت نظريات المؤامرة والشائعات وأنصاف المعلومات، وهذا ما حوّل فيروس كورونا إلى سبب للهلع والعنصرية تجاه الصينيين، بل الآسيويين بشكل عام حول العالم، واختفى المنطق أو كاد وأصبحنا جميعاً نعيش في حالة من الرعب، لدرجة أن من يسعل في مكان عام أو في وجود آخرين حوله قد يتعرض للإهانة وربما العنف أيضاً، وهذه ليست مبالغة للأسف.
فيروس كورونا -شأنه شأن الفيروسات المعدية- يستدعي الحذر واتخاذ كل إجراءات الوقاية البديهية، والمفترض أن نقوم بها جميعاً على أية حال، ووزارات الصحة ومسؤوليها حول العالم ومنظمة الصحة العالمية يقومون بجهود كبيرة للتصدي للفيروس ومنع انتشاره، لكن حالة الهلع والعناوين البراقة التي تستخدمها وسائل الإعلام وتتلقفها مواقع التواصل الاجتماعي تعرقل تلك الجهود.
سأضرب مثالاً بعنوان براق "ميركل: 60 – 70 في المئة من سكان ألمانيا سيصابون بفيروس كورونا"؛ العنوان هنا ليس نقلاً عن مواقع التواصل الاجتماعي أو حتى وسيلة إعلام عربية، بل هذا عنوان موقع دويتش فيله الألماني، وبالطبع قام بمشاركة الموضوع مئات الآلاف في المنطقة العربية، وخصوصاً في مصر، ووضع كثير لمسته الخاصة مثل: (إذا كان ده حال ألمانيا يبقى عليه العوض فينا كلنا في مصر).
المستشارة الألمانية بالتأكيد ليست خبيرة فيروسات، ولا هي منجّمة مطلعة على ما هو قادم بالطبع، حيث لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى، كل ما في الأمر أن العبارة -التي تم تصديرها كعنوان براق- استخدمتها ميركل في بداية اجتماع مع الكتلة البرلمانية للاتحاد المسيحي الذي تنتمي إليه، بهدف لفت انتباه الحضور إلى خطورة الموقف، وضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع تفشي الفيروس.
أما العبارة نفسها فقد اقتبستها ميركل من الخبير الألماني كريستيان دروستن، عالم الفيروسات، الذي ذكر تلك النسبة قبل فترة "خلال الحديث عن توقعاته الخاصة بحجم الإصابات في ألمانيا"، وكان مدير معهد علم الفيروسات في جامعة شاريتيه في برلين قد أكد أن المدى الزمني الذي سيحدث فيه مثل هذا القدر من العدوى "ربما استغرق هذا الأمر عامين أو ربما أكثر".
تلك المعلومات بالطبع مذكورة في تقرير دويتش فيله، لكن العنوان براق، وسيدفع القارئ لأن يفتح الموضوع؛ المشكلة هنا أنه في زمن السوشيال ميديا أصبح غالبية من يشاركون المواد عبر حساباتهم الشخصية يقرأون العنوان فقط، وهذا ما يعرف باسم "أنصاف الحقائق" التي يتم تداولها وتتسبب في حالة الهلع التي وصلنا إليها الآن.