بعد قتل الولايات المتحدة لقاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، في يناير/كانون الثاني الماضي، انصب معظم الاهتمام على الطريقة التي سترد بها إيران. وفي النهاية، رد الإيرانيون بهجمات صاروخية استهدفت القواعد العراقية التي كانت تتمركز فيها قوات عراقية وأمريكية. ولم تسفر هذه الهجمات عن أي قتلى أمريكيين (رغم ظهور تقارير عن إصابة الجنود بصدمات دماغية)، وبعدها بوقت قصير، أعلنت إيران أنها حققت "الانتقام الكبير" الذي سعت له من الولايات المتحدة.
هل انتهت طهران من ردها؟
تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية، إنه مع ذلك، لا يظن الكثير من المراقبين المطلعين أن طهران انتهت من ردها على موت قائدها العسكري رفيع المستوى، الذي كان يتمتع بنفوذ سياسي فريد في إيران. ويرث إسماعيل قاآني، الذي حل محل سليماني في منصب قائد فيلق القدس في إيران، شبكة وكلاء ممتدة تضم أطرافاً فاعلين مثل حزب الله في الأماكن البعيدة، وهو ما يستحضر شبح هجوم انتقامي على المصالح الأمريكية أو الحلفاء الأمريكيين في الخارج.
إذ تُذكّر ضربة سليماني باغتيال إسرائيل للمؤسس المشارك لحزب الله، وأمينه العام في ذلك الوقت، عباس الموسوي، في فبراير/شباط عام 1992. وردت إيران على تلك الضربة باستهداف المصالح الإسرائيلية في أمريكا اللاتينية، مستفيدة من شبكتها التي يديرها وكيلها حزب الله للتخطيط وتنفيذ تفجيرات في بوينس آيرس في كل من عامي 1992، و1994، وفقاً لمزاعم. وكانت هاتان الضربتان هائلتين ومدمرتين، وتسببتا في مقتل أكثر من 100 مدني وإصابة عدة مئات آخرين.
وفي أعقاب مقتل سليماني، قد تتجه إيران بناظريها إلى الخارج لتحقيق انتقامها ويمكنها أن تفعل ذلك مجدداً في أمريكا اللاتينية، حيث يتمتع حزب الله بنفوذ كبير. تقول المجلة الأمريكية، إن على الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهم من دول أمريكا اللاتينية التزام الحيطة والحذر في حماية أنفسهم من الانتقام الإيراني المحتمل في المنطقة، بالنظر إلى تاريخ الهجمات التي نفذتها في الأرجنتين.
واشنطن عينها مفتوحة على أمريكا اللاتينية
خلال زيارة وزير الخارجية الأمريكي مؤخراً إلى كولومبيا للمشاركة في المؤتمر الوزاري السنوي لمنظمة الدول الأمريكية (OAS) حول الإرهاب، سلط مايك بومبيو الضوء على أنشطة حزب الله في أمريكا الجنوبية والدعم المادي القوي الذي يتلقاه الحزب من نظام نيكولاس مادورو في فنزويلا.
تعود هذه العلاقة إلى عهد الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز، الذي قدم لإيران دعماً مالياً خلال الفترة الأولى من العقوبات الأمريكية. وخلال هذه الفترة، طورت إيران عقيدة عسكرية مشتركة تركز على الحرب غير المتكافئة، وشاركت في تدريب عسكري مشترك، وأقامت قنوات اتصالات خاصة مهمة وغير مشروعة وشبكات سرية. وفي المجمل، شيدت إيران 11 سفارة وتعاونت، حسب بعض التقديرات، مع أكثر من 100 "مركز ثقافي غير رسمي" في أمريكا اللاتينية.
متغلغلة الجذور في أمريكا اللاتينية
تعمل إيران أيضاً وراء الكواليس للتأثير على مجموعة من الجماعات غير الإسلامية في أمريكا اللاتينية، مثل جماعة Quebracho في الأرجنتين. وتتبنى هذه الجماعات مزيجاً من الأيديولوجيات الثورية واليسارية، وتُظهر طهران مرونتها الإيديولوجية من خلال الترويج لخطاب معاداة الإمبريالية، والبوليفارية، ومعاداة الولايات المتحدة، وكان لكل ذلك صدى مباشر مع هذه الجماعات. كما أنها توفر لإيران خيارات بعيدة عن حزب الله لتنفيذ أعمال عنيفة بدوافع إيديولوجية وسياسية في دول جنوب الأنديز.
وما عزز حضور حزب الله شخصيات سياسية رفيعة المستوى مثل طارق العيسمي، نائب الرئيس السابق لفنزويلا ووزير الصناعة والإنتاج الوطني الحالي، الذي اُتهم بتشجيع نموه من خلال الهجرة ومنح وثائق مزورة في القنصليات في الشرق الأوسط. وقال أحد معارضي مادورو إن حزب الله يستغل مناجم الذهب والموارد الأخرى في ولاية بوليفار بفنزويلا. ويُنقل جزء كبير من هذا الذهب من فنزويلا عن طريق استغلال الحقيبة الدبلوماسية وتسيير رحلات شبه خالية بين طهران وكاراكاس.
ومؤخراً، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على شركة Conviasa، وهي شركة الطيران المملوكة للحكومة الفنزويلية المسؤولة عن تسيير الرحلة الأسبوعية التي يطلق عليها "الإرهاب الجوي"، والتي تهدف إلى خرق العقوبات وتهريب الأسلحة والذهب والأشخاص.
وخارج فنزويلا، يتمتع حزب الله أيضاً بحضور قوي في النقطة الحدودية الثلاثية، التي تلتقي عندها حدود البرازيل، وباراغواي، والأرجنتين. وعلى مر السنين، زرع الحزب نفسه في الشبكات المربحة لتجارة المخدرات وتهريب الأسلحة وأصبح من أهم جهات غسل الأموال، وقُدِّرت أرباح هذه النشاطات عام 2003 بما بين 300 مليون و500 مليون دولار سنوياً لجميع الجماعات الإسلامية في المنطقة. (في عهد إدارة أوباما، أوقفت إدارة مكافحة المخدرات مشروع كاساندرا، وهو تحقيق في شبكة حزب الله المترامية الأطراف في أمريكا اللاتينية).
وتظهر جماعة "عشيرة بركات"، التي نفذت عمليات غسيل أموال من خلال نوادي القمار في النقطة الحدودية الثلاثية، والتي يُقال إن قائدها تربطه صلات بقيادة حزب الله، أنَّ شبكات الجريمة المنظمة متغلغلة الجذور في أمريكا اللاتينية والجماعات الإرهابية يمكن أن تتعاون مع بعضها بشكل مثمر. كما كانت النقطة الثلاثية الحدودية بمثابة التخطيط ونقطة الانطلاق لاثنين من أشد الهجمات المسلحة على أراضي أمريكا الجنوبية، التفجير المذكور أعلاه للسفارة الإسرائيلية في بوينس آيرس عام 1992، وتفجير جمعية المساعدة اليهودية الأرجنتينية (AMIA) عام 1994.
قلق أمريكي
مما يثير القلق إلى حد بعيد بالنسبة للأمريكيين، أن وزارة الخارجية الأمريكية سلطت الضوء على عدم تعاون كاراكاس مع واشنطن في جهود مكافحة الإرهاب، فيما أشارت أيضاً إلى أن فنزويلا توفر "بيئة شديدة التساهل مع الجماعات الإرهابية المعروفة". إذ إن مادورو سهّل الأنشطة المالية الإرهابية على الأراضي الفنزويلية. وحزب الله ليس هو التهديد الوحيد الذي يستحق الذكر في أمريكا اللاتينية. إذ اعتقلت كولومبيا مؤخراً ثلاثة أشخاص يشتبه بأنهم أعضاء في تنظيم القاعدة حاولوا دخول أراضيها من فنزويلا.
لقد تمكنت المؤتمرات الوزارية لمنظمة الدول الأمريكية من إثارة قضية الإرهاب في نصف الأرض الغربي ودفعت حكومات أمريكا اللاتينية إلى التعامل مع هذا التهديد بجدية أكبر. والعام الماضي، أصدر المؤتمر الوزاري الثاني لنصف الأرض الغربي حول الإرهاب بياناً تحذيرياً بشأن "أنشطة حزب الله في بعض مناطق نصف الأرض الغربي". واستضافت الأرجنتين المؤتمر- في الذكرى 25 لتفجيرات جمعية المساعدة اليهودية الأرجنتينية، وأعلنت بطريقة أن حزب الله منظمة إرهابية. وبعدها بوقت قصير، فعلت باراغواي المثل. وبعد المؤتمر الوزاري الأخير هذا العام، صنفت كولومبيا وهندوراس وغواتيمالا حزب الله جماعة إرهابية.
ولما كان من الصعب تنفيذ ضربة إيرانية على الأراضي الأمريكية رداً على ضربة سليماني -وستؤدي إلى انتقام أمريكي قاس- يتوقع معظم المراقبين أن تستعين إيران بشبكة وكلائها عميقة الجذور لتنفيذ سلسلة من الهجمات غير المتكافئة على المصالح الأمريكية وحلفائها في الخارج، وربما تنتشر على امتداد الزمان واختلاف المكان.
وإذا جاز لنا أن نسترشد بالتاريخ، ففي السعي لمواصلة الانتقام لموت سليماني، ستكون إيران على استعداد لدراسة تنفيذ هجوم في أمريكا اللاتينية باعتباره وسيلة لإرسال إشارة لا يمكن إغفالها إلى الولايات المتحدة، بقدرتها المستمرة على التصعيد بضربة في المصالح الأمريكية الحيوية.