عقدت إيران انتخاباتها التشريعية الحادية عشرة في أواخر الشهر الماضي، والتي انتهت بفوز ساحق للقوى المحافظة والمتشددة، في فترة ربما تكون الأكثر اضطراباً منذ مظاهرات الحركة الخضراء في إيران.
وعُقِدَت الانتخابات بعد أشهر من الكساد الناجم عن العقوبات الاقتصادية وقمع الحكومة الوحشي لمظاهرات نوفمبر/تشرين الثاني 2019، والذي خلَّف مئات القتلى، والحرب التي أوشكت على الاندلاع مع الولايات المتحدة بعدما قتلت واشنطن الجنرال قاسم سليماني، والغضب الشعبي من محاولة الحكومة التعتيم على تورطها في إسقاط طائرة مدنية.
وما زاد من مصاعب الدولة سوءاً، انتشار أنباء عشية الانتخابات بأنَّ فيروس كورونا المستجد "كوفيد-19" تفشى في مدينة قُم المقدسة. وعلى الرغم من جهود احتواء الفيروس، زادت شكوك الإيرانيين في قدرة الحكومة على الاستجابة للأزمة واحتواء الفيروس.
المحافظون يستفيدون من الأزمات
خلاصة القول، بحسب موقع Responsible Statecraft الأمريكي للدراسات الاستراتيجية، كان عام 2020 حتى الآن سلسلة من الكوارث للشعب الإيراني. وما زاد الطين بلّة أنَّ تعاقب الأزمات أتاح للمحافظين والمؤسسات الإيرانية غير المُنتخَبة فرصة مثالية لتهميش أصوات المعارضة؛ وهو ما يمهد الطريق أمام المحافظين للوصول إلى السلطة من خلال الانتخابات الرئاسية لعام 2021، والتحكم في اختيار القائد الأعلى الإيراني المقبل.
ويشير إقصاء جمهور المعتدلين والإصلاحيين، وانخفاض نسبة المشاركة في انتخابات الجمعة 6 فبراير/شباط، إلى خيبة أمل واسعة النطاق في قدرة الحكومة على حل سيل المشكلات التي تعانيها الدولة. ونظراً إلى أنَّ قوى المؤسسة تسعى لتعزيز فرص المتشددين في الانتخابات، ينبغي للإيرانيين الاستعداد لمستوى جديد من الاستبداد تحت ذريعة الحفاظ على الأمن القومي للبلاد، حيث تبدو المؤسسات غير المنتخبة عازمة على تنفيذ أجندتها المحافظة من دون عراقيل في السنوات القادمة.
فوز ساحق للمتشددين وتحطيم الإصلاحيين
وفقاً لبيانات وزارة الداخلية الإيرانية، فاز المحافظون بـ221 مقعداً من أصل 290 مقعداً في مجلس الشورى الإيراني، بارتفاع من 83 مقعداً في الانتخابات الأخيرة في عام 2016. ولن ينضم إلى المجلس الجديد سوى 20 إصلاحياً، بانخفاض من 121 مقعداً في عام 2016. وانتُخِب كذلك 35 مرشحاً مستقلاً، في حين سيُطرَح 11 مقعداً بجولة الإعادة في أبريل/نيسان، أما المقاعد الخمسة الأخيرة فهي مكفولة للأقليات الدينية في البلاد.
وعلى الرغم من فشل المحافظين في الحصول على مقعد واحد بطهران في عام 2016، استطاعوا الفوز بمقاعد العاصمة الثلاثين في هذه الانتخابات، ويتصدر القائمة العمدة السابق وقائد القوة الجوية في الحرس الثوري الإسلامي محمد باقر قاليباف. وسيطر المتشددون أيضاً على المحافظات الرئيسية، مثل أصفهان وخوزستان ومازندران وعدة مناطق أخرى. ومن المتوقع الآن أن يكون قاليباف هو رئيس البرلمان المقبل، وسيستخدم نفوذه الجديد لإحباط أجندة الرئيس روحاني الأكثر اعتدالاً.
ومن المرجح أن يؤدي صعود القوى المتشددة بمجلس الشورى إلى سلب نفوذ الرئيس روحاني خلال عامه الأخير في السلطة. وربما يفتقر المجلس الإيراني إلى أدوات جوهرية للتأثير في السياسة الخارجية لإيران، لكن المحافظين سيستخدمون منبر المجلس لانتقاد ما يعتقدون أنها إدارة سيئة للعلاقات الدبلوماسية للبلاد من جانب الرئيس روحاني ووزير خارجيته جواد ظريف. ومن ناحية أخرى، ستتمكن الأغلبية المحافظة الجديدة من عرقلة جدول أعمال روحاني المحلي، وضمن ذلك جميع تشريعاته وميزانياته السنوية.
ويمثل هذا التحول الكبير لصالح المحافظين تناقضاً صارخاً مع انتخابات 2016. ففي عام 2015 وقَّع الرئيس روحاني الصفقة النووية الإيرانية، التي وعدت بتخفيف العقوبات مقابل تقييد البرنامج النووي الإيراني. لذا، سطع نجم ائتلاف روحاني من المعتدلين والإصلاحيين؛ وهو ما أدى من ثم إلى انتخاب برلمان معتدل في عام 2016، يتماشى مع جدول أعمال روحاني.
لكن بعد انسحاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الصفقة النووية وفرض عقوبات ساحقة من جانب واحد، تغيرت حظوظ المعتدلين والإصلاحيين تماماً. إذ شعر المتشددون الإيرانيون بأنَّ تحذيراتهم من أنَّ الغرب لا يمكن الوثوق به ثبتت صحتها، بعد قرار الرئيس ترامب ومقتل الجنرال قاسم سليماني، وهو ما جعل روحاني كبش فداء لسياسة بدأت تنتشر الآن داخل النخبة السياسية في إيران.
النفوذ المتزايد للمؤسسة غير المُنتخَبة
ويُعزى النصر الشامل لتيار المحافظين جزئياً إلى التخطيط الانتخابي الذي وضعته المؤسسات الإيرانية غير المُنتخَبة. إذ منع مجلس صيانة الدستور 90 من أعضاء البرلمان الحاليين من إعادة الترشح، أي أكثر من ثلث أعضاء المجلس الحالي الذين كانوا يسعون إلى الترشح لولاية أخرى. وشملت عمليات الإقصاء هذه ثلاثة أرباع الائتلاف المعتدل الذي دعم روحاني، بالإضافة إلى 6 نساء من بين 15 مرشحة يسعين إلى إعادة انتخابهن.
وإلى جانب الأشهر القليلة المضطربة في البلاد، فضل عديد من الناخبين البقاء بمنازلهم في يوم الانتخابات، بسبب إقصاء هؤلاء المرشحين. وعلى الرغم من الجهود المكثفة التي بذلتها المؤسسة الإيرانية لزيادة إقبال الناخبين، بلغت نسبة إقبال الناخبين في جميع أنحاء البلاد 42.5%، وهو أدنى معدل منذ الثورة في 1997. وفي طهران، عاصمة إيران وكبرى مدنها، بالكاد بلغت نسبة المشاركة 25%، مقارنة بمتوسط معدل مشاركة وصل إلى 50% في الانتخابات السابقة. وعلى الرغم من كونها المعقل التقليدي للحركة الإصلاحية، سقطت طهران الآن في قبضة النواب المحافظين.
ولم ينخفض عدد الناخبين المشاركين في الانتخابات البرلمانية إلى أقل من 60% سوى مرتين منذ عام 1980: الأولى في عام 2004، عندما بقي عديد من الناخبين الإصلاحيين في منازلهم، وسط حملة قمع الحركة الإصلاحية ورئيس إصلاحي ضعيف، وهوما مكَّن النواب المحافظين من الفوز بأغلبية كبيرة. أما المرة الثانية فكانت في عام 2008، في أعقاب الانتخابات الرئاسية لعام 2005 والتي أوصلت المتشدد محمود أحمدي نجاد إلى السلطة. وفي كلتا الحالتين، ساعدت المشاركة المتدنية المحافظين على الاستمرار في السلطة؛ وهوما تسبب في تفاقم العزلة الدولية لإيران، وقمع مظاهرات الحركة الخضراء في عام 2009، وزيادة الفساد المستشري بالبلاد.
نحو رئاسيات 2021
يبدو أنَّ التاريخ يعيد نفسه. فعلى الأرجح سيدعم البرلمان المحافظ المُنتخَب حديثاً المتشددين بالسباق الرئاسي في 2021، وسيؤثر في مناقشات السياسة العامة، ليثنيها عن تأييد الانخراط مع الولايات المتحدة. وإذا استمرت القضايا الاقتصادية والركود السياسي في البلاد، فسيشعر الإيرانيون بأنَّ لديهم ما يبرر الامتناع عن التصويت لصالح التيار نفسه الذي نجح في الانتخابات السابقة؛ وهو ما يعزز فكرة أنَّ النظام لم يعد يعمل لصالحهم.
يمكن أن يتغير الكثير في إيران من الآن وحتى ذلك الحين. لكن إحساس إيران العام بخيبة الأمل واليأس سيساعد على الأرجح، في جلب متشددين إلى السلطة يكونون أكثر ميلاً إلى استخدام القوة منهم إلى الدبلوماسية، وسيعطي الضوء الأخضر لمؤسسات إيران غير المُنتخَبة للتذرُّع بالأمن القومي لتشديد قبضتها على المجالين السياسي والثقافي في إيران.
ومن شأن توطيد هذه المؤسسات الإيرانية نفوذها لأوسع من ذلك، وضمن ذلك داخل مكتب المرشد الأعلى، أن يسمح لعلي خامنئي بالتحضير بشكل أفضل لموته وخليفته في نهاية المطاف. ومع تهميش عديد من الأصوات المعارضة، ستسنح لخامنئي وجماعته الصغيرة من رجال الدين والمؤيدين فرصةٌ أفضل من أي وقت مضى، لزرع خليفة من اختيارهم من دون أي بديل أو معارضة شرعية.
لطالما تعاقبت على نِسب الإقبال في الانتخابات فترات ذروة وأخرى هبوط، على مدار تاريخ الجمهورية الإسلامية. لكن هذه المرة تبدو مختلفة. إذ يتضح أنَّ انتخابات يوم الجمعة جزء من اتجاه أكبر قد يؤدي إلى نهاية النظام شبه الانتخابي في إيران، ويُجسِّد تحوُّل البلاد إلى شكل من أشكال الاستبداد التام، وهو ما من شأنه تقويض فرص السلام مع الغرب وتأجيج معاناة الإيرانيين العاديين.