عقب انهيار الاتحاد السوفييتي عملت استخبارات الدولة العميقة خلف الكواليس لإعادة سيطرة الجيش على مقاليد الأمور، وهو ما تحقق على أيدي فلاديمير بوتين، والأمر نفسه حدث في مصر، والمؤشرات تقول إن هذا ما يفعله الحرس الثوري في إيران، فما قصة هذا التحول الاستراتيجي؟ وما تداعياته المنتظرة؟
مجلة ذا ناشيونال إنتريست الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "كيف يمكن للحرس الثوري إعادة تشكيل إيران"، أعده إيلان بيرمان، نائب رئيس مجلس السياسة الخارجية الأمريكي في واشنطن، تناول فيه التحول الجذري الذي تشهده إيران في السنوات الأخيرة.
نظرية توازن القوى في إيران
قبل ما يربو على العقد بقليل، طرح علي الوفنه، وهو باحث بمعهد إنتربرايز الأمريكي، وهو أحد أبرز مراكز الأبحاث في واشنطن، نظرية مثيرة للجدل بشأن توازن القوى في إيران. افترضت الفكرة، التي صِيغت أولاً في سلسلة من المقالات ثم نُشِرَت لاحقاً في كتاب، أنَّ نظام الحكم في إيران خضع لتحول جذري مُبتعِداً عن النظام الديني الذي أسسه آية الله روح الله الخميني في 1979 ونحى باتجاه ديكتاتورية عسكرية. حاجج الوفنه عملياً بأنَّ إيران شهدت ما يرقى إلى انقلاب تدريجي، بات بموجبه الجيش الديني للبلاد، أي الحرس الثوري الإيراني، يتولى الآن زمام المسؤولية.
حظيت هذه الفكرة بتأثير كبير لبعض الوقت، فباتت أساس النهج الذي صاغته هيلاري كلينتون خلال حقبتها على رأس وزارة الخارجية الأمريكية إبَّان إدارة أوباما، إذ أشارت السيدة الأولى السابقة مراراً إلى أنَّ السيطرة العسكرية "تحل محل" المرشد الإيراني الأعلى، وبالمثل، توصَّل كثيرون آخرون إلى الاعتقاد بأنَّ آيات الله الإيرانيين لم يعودوا عملياً يتخذون القرارات في طهران، مع أنَّهم لا يزالون في مواقع السلطة السياسية.
كيف استفاد الحرس الثوري من الاتفاق النووي؟
لكن تبيَّن أنَّ الواقع مختلف عن ذلك، فصحيح أنَّ الحرس الثوري وسَّع بلا شك سلطاته داخل النظام الإيراني الديني في السنوات الأخيرة، لأسبابٍ ليس أقلها العوائد التي نتجت عن الاتفاق النووي عام 2015 الذي تصدَّرت إدارة أوباما جهود التوصل إليه. لكنَّ الحرس الثوري أظهر بشكل قاطع، في الوقت الراهن على الأقل، أنَّه يظل وفياً للتراتبية الدينية في البلاد والرجل الذي يجلس على قمة هرم هذه التراتبية: المرشد الأعلى علي خامنئي.
لكنَّ فكرة الوفنه الرئيسية، وهي أنَّ الحرس الثوري يُشكِّل فاعلاً استراتيجياً قوياً على نحوٍ فريد، وربما متغيراً كذلك، هي بلا شك فكرة صحيحة. واليوم، في الوقت الذي تواجه فيه الجمهورية الإسلامية ضغوطاً داخلية وخارجية متصاعدة، قد تكون حجّته بأنَّ الجيش الديني للبلاد ربما يتحرك للإمساك بزمام الأمور في يديه، وثيقة الصلة أكثر من أي وقتٍ مضى.
ومن أجل فهم السبب بالضبط، من الضروري إدراك الدور الفريد الذي اضطلع به الحرس الثوري في السياسة الإيرانية على مدار العقود الأربعة الماضية، إذ تأسس الحرس منذ بداية الثورة الإسلامية، واعتُبِر منذ البداية الذراع العسكرية الخارجية لرؤية الإسلام السياسي المتشددة التي تبنَّاها الخميني. ولهذا، لا تُكلِّف ديباجة الدستور الأصلي للجمهورية الإسلامية الحرس الثوري بحفظ النظام داخل البلاد وحسب، بل وتعهَد إليه كذلك بتصدير الثورة الإيرانية "في مختلف أنحاء العالم". وعلى مدار السنوات، سمح هذا التفويض الشامل للحرس الثوري بتولي موقع الصدارة في السياسة الخارجية والشؤون السياسية الإيرانية.
هكذا سيطر عسكرياً
ومن الناحية العسكرية، طغى الحرس الثوري منذ زمنٍ بعيد على الجيش النظامي الإيراني، المعروف باسم "ارتش"، ليصبح الأداة الإستراتيجية المفضلة لدى النظام. ويمثل الحرس الآن الوصيّ على ترسانة الصواريخ الباليستية المتنامية في البلاد، وكذلك على البرنامج النووي الوليد (الذي لا يزال نشطاً). وهو المسؤول كذلك عن أكثر الأصول قيمة لدى النظام: شبكة الوكلاء الإقليميين الواسعة.
ومنذ الهزيمة في حرب الثماني سنوات الطاحنة مع العراق في عهد صدام حسين، تتجنَّب الجمهورية الإسلامية المواجهة العسكرية المباشرة لصالح الحرب غير المباشرة، ولهذا، عملت بجد طوال عقود من أجل إنشاء شبكة واسعة من مجموعات الوكلاء والمسلحين التابعين لها في مختلف أرجاء الشرق الأوسط وخارجه. اضطلعت هذه المجموعات، ومن بينها حزب الله اللبناني والمتمردون الحوثيون اليمنيون والميليشيات الشيعية المتنوعة، بدور رئيسي في تعزيز مصالح إيران وأهدافها الاستراتيجية من خلال الوسائل غير التقليدية. وكان يقود هذه الشبكة اكثر قادة إيران العسكريين نفوذاً، الجنرال قاسم سليماني، حتى مصرعه هذا العام على يد إدارة ترامب.
شبكة اقتصادية متشعبة وعميقة
ومن الناحية الاقتصادية، تنامى الحرس الثوري في الوقت ذاته ليصبح مركز قوة حقيقياً يسيطر على الكثير من الشركات والكيانات التجارية المنخرطة في كل شيء، بدءاً من المواصلات والطاقة وحتى البناء والتشييد. وتتغلغل الكيانات التي يسيطر عليها الحرس الثوري أو التابعة له الآن في كل قطاع من قطاعات الاقتصاد الإيراني الرسمي، وتتمتع بنفوذ واسع على أنشطة الأسواق الرمادية والسوداء في البلاد (بما في ذلك التهريب، والتحويلات المالية غير المشروعة، والانتشار النووي). وفي المجمل، تشير التقديرات إلى سيطرة الحرس الثوري على ثلث إجمالي الاقتصاد الإيراني أو أكثر.
كل هذا جعل الحرس الثوري قوة لا غنى عنها بحق في السياسة الإيرانية، ورمزاً رئيسياً لمكانة البلاد الدولية. وعلى حد وصف نادر أوسكوي، وهو زميل أقدم غير مقيم بمركز أبحاث المجلس الأطلسي ومستشار القيادة المركزية للجيش الأمريكي: "يحتاج النظام الإيراني إلى الحرس الثوري حتى يمكنه التفاوض مع العالم ومع أمريكا من موقف قوة".
لكن هل لدى الحرس الرغبة؟ عانت الولايات المتحدة طيلة عقود مع سؤال أي صور التعامل يمكن أن تكون ممكنة مع الجيش الديني لإيران، إن كان هناك صورة ممكنة بالأساس. يقول جاي سولومون من معهد واشنطن، والذي يتتبَّع أنشطة الحرس الثوري منذ قرابة عقدين من الزمن: "هناك انفصام في السياسة الأمريكية منذ زمنٍ طويل. ففي نفس الوقت الذي نشعر فيه بالانزعاج من طبيعة وسلطة الحرس الثوري، أردنا أن نعمل معه" لحل مشكلات إقليمية عدة. من جانبها، استغلت إيران ببراعة هذه الدوافع المتنافسة لمصلحتها، فوسَّعت أنشطتها في أرجاء المنطقة خلف ستار من الإنكار القابل للتصديق ظاهرياً.
وحتى الآن، يرقى قتل إدارة ترامب في الثالث من يناير/كانون الثاني الماضي للجنرال سليماني –وهي العملية التي جاءت رداً على تصعيد الاستفزازات ضد القوات والأصول الأمريكية من جانب وكلاء إيران- إلى كونه ضربة قاسية لقدرات إيران الاستراتيجية. يوضح أوسكوي أنَّ "الجمهورية الإسلامية تأثرت بشدة بموت سليماني. فبدون سليماني، تواجه إيران صعوبات لتنفيذ استراتيجية وكلائها الإقليميين بكفاءة. ويُرجَّح أن يكون هذا، على الأقل، هو الوضع في ظل توازن القوى الحالي داخل الجمهورية الإسلامية.
لكنَّ طهران تواجه أيضاً مشكلات خطيرة في الداخل. فمنذ ديسمبر/كانون الأول 2017، تصدت البلاد لاحتجاجات مستمرة مناهضة للنظام، والتي اختبرت على نحوٍ خطير شرعية النظام الديني الحاكم. وعقب مصرع سليماني وإسقاط الحكومة الإيرانية خطأً لطائرة ركاب أوكرانية، اندلعت هذه الاحتجاجات من جديد في ما يصفه الكثير من المراقبين بصدعٍ جوهري بين الإيرانيين العاديين نظامٍ ديني يُنظَر إليه على نحوٍ متزايد باعتباره فاسداً، وقابلاً للارتشاء، وخطراً على سلامة شعبه.
الانقلاب قد يكون الخطوة الأخيرة
وقد يقرر الجيش الديني لإيران، بعد مواجهة تلك التحديات، أنَّ القيام بعملية تحول داخلية هي أفضل جواب، ومن ثَمَّ يتحرك لإزاحة (أو على الأقل لإخضاع) النخبة الدينية الحالية في البلاد. ففي نهاية المطاف، خطوة كهذه من شأنها أن تسمح للحرس الثوري بالحفاظ على قبضته الحالية الواسعة على السلطة الوطنية والعمل في الوقت نفسه على تخفيف الضغط الاقتصادي من الولايات المتحدة وإعادة دمج البلاد في المجتمع الدولي.
والفكرة ليست بعيدة المنال، فهذا النوع من التحول في السلطة الداخلية على وجه التحديد حدث عديد المرات في الذاكرة الحديثة. إذ حدث في روسيا في التسعينيات، حين استغلت استخبارات "الدولة العميقة" اضطرابات ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي لبسط سيطرتها وتحويل نفسها إلى مؤسسة اقتصادية وسياسية هائلة مستمرة حتى يومنا هذا. وفي الآونة الأخيرة، حدث في مصر، حين تحرك الجيش للإطاحة بحكومة الرئيس محمد مرسي التي سيطر عليها الإخوان المسلمون عام 2013، وأعاد تأسيس وضع قائم سياسي واقتصادي كانت سياسات مرسي الدينية المثيرة للجدل قد أخلَّت به.
لكن هل سترحب أمريكا بتغيُّرٍ كهذا في حال حدث في إيران؟ هذا وارد جداً. ففي نهاية المطاف، قال الرئيس ترامب مراراً إنَّ هدف استراتيجية "أقصى درجات الضغط" التي يتبعها هي إعادة إيران إلى طاولة التفاوض الدولية وإبرام اتفاق جديد أكثر شمولاً يحل محل الاتفاق النووي لعام 2015. ويمكن أن تجعل سيطرة الحرس الثوري على الحكومة الإيرانية مثل هذا التطور أكثر احتمالاً من خلال تنصيب فاعل استراتيجي ينظر إليه الكثيرون في واشنطن باعتباره أكثر براغماتية وعقلانية.
لكنَّ خبراء يقولون إنَّ هذا سيكون أقل كثيراً من حدوث تغيير حقيقي في النظام. فيشير جوناثان شانزر من مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، وهي مؤسسة بحثية نافذة: "يمثل الحرس الثوري أكبر عنصر أيديولوجي في النظام. ولا يجب أن نرحب بأي مقاربة تعزز قوته".
مع ذلك، قد ينتهي المطاف بحدوث هذا بالضبط، حتى لو كان بغير قصد. والسبب أنَّه في حين تركت حملة "أقصى درجات الضغط" التي تنتهجها إدارة ترامب تأثيراً عميقاً بلا شك على الجمهورية الإسلامية منذ بدايتها في مارس/آذار 2018، لم يتأثر كل الفاعلين الاستراتيجيين داخل البلد بنفس القدر. ويحذر أوسكوي قائلاً: "ربما كان الاقتصاد الإيراني الإجمالي يسير بقوة الدفع، لكنَّ هذا لا يعني أنَّ الحرس الثوري نفسه كذلك". في الواقع، يضيف أوسكوي، تشير التقديرات إلى أنَّ الحرس الثوري اليوم يسيطر على نحو 500 شركة، 200 منها على الأقل لديها فروع في الخارج. وهذا بدوره يمنح الجيش الديني لإيران "صمام أمان" لا يملك النظام ككل واحداً مثله.
يستعد الحرس الثوري كذلك للحصول على سلطة سياسية أكبر. فعقب الاحتجاجات الأخيرة، تزايد اعتماد النخبة الدينية الإيرانية على حرسها البريتوري أكثر من أي وقتٍ مضى، ومنحت عملياً القوى الأمنية في البلاد "شيكاً على بياض" لتطهير صفوفها وتقوية قبضتها على المجتمع. ومن المحتمل جداً أن يخرج الحرس الثوري من هذه العملية أقوى بكثير وذا قدرة أكبر من أي وقتٍ مضى.
وإذا ما حدث ذلك، قد يتبين أنَّ الوفنه كان مُصيباً في نهاية المطاف. وفي الوقت الراهن، قد لا يتمثَّل السيناريو الأكثر احتمالاً لـ "تغيير النظام" في إيران في ظهور مجموعة معارضة تطيح بالملالي وتؤسس لنظام حكم جديد جذرياً، بل أن يُمسِك أقوى الفاعلين الاستراتيجيين في البلاد (الحرس الثوري) بالمقاليد السياسية للنظام الحالي. ويجب على أمريكا، على أقل تقدير، أن تستعد لهذه الاحتمالية.