يرى خبراء أن نجاحاً سياسياً حققته حركة النهضة التونسية من أزمة تشكيل الحكومة الجديدة، منحها أدوات الإفلات من عزلة أرادتها لها بعض الأطراف، لتخرج منتصرة في معركة معقدة كادت تعصف بالمشهد السياسي بالبلاد.
وحتى آخر لحظة من مساء الأربعاء، ظلت الساحة التونسية تنتظر موقف الحركة الإسلامية (54 نائباً من 217) من حكومة رئيس الوزراء المكلف حينها إلياس الفخفاخ، لمعرفة حظوظ التشكيلة في نيل ثقة البرلمان من عدمها.
ماراثون مفاوضات عسيرة جرى بين الفخفاخ والنهضة، بعد أن أجبر موقف مجلس شورى الحركة، السبت الماضي، برفض التصويت لحكومة معلنة في حينه، على فتح جولة جديدة من المفاوضات للوصول إلى حلّ يضمن تصويت النهضة، باعتبار امتلاكها لأكبر كتلة نيابية بالبرلمان.
مسار تفاوضي "إيجابي"
الباحث التونسي في الفلسفة السياسية المعاصرة، رياض الشعبي، اعتبر أن "النهضة حققت أهدافاً جزئية" من خلال زيادة نصيبها من الحقائب الوزارية بتشكيلة الفخفاخ (7 حقائب وزارية) التي أعلنها ليل الأربعاء، مقابل 6 في التشكيلة المعلنة السبت الماضي.
واستدرك الشعيبي، في حديث للأناضول، قائلاً إنه "من الواضح أن النهضة على مستوى الرؤية السياسية لم تستطِع فرض قناعاتها، ولا أن تستعيد دورها المحدد والأساسي بتشكيل الحكومة، وبات من الواضح من إعلان الحزام السياسي لحكومة الفخفاخ أن الأخير لم يقتنع بفكرة حكومة الوحدة التي دعت لها النهضة، وأصرّ على رفضه تشريك حزب "قلب تونس" (ليبرالي/ 38 نائبًا)، وهو السبب الرئيسي الذي من أجله رفضت الحركة في البداية التصويت لحكومة الفخفاخ".
وبحسب الشعيبي، فإن "إصرار الفخفاخ على التمسك ببعض الوزراء رغم (فيتو) النهضة يبيّن بوضوح محدودية تأثير الحركة على التشكيلة الحكومية".
من جانبه، بدا الباحث في العلوم الاجتماعية هشام الحاجي، أكثر قناعة بنجاح النهضة في مفاوضات تشكيل الحكومة. وقال الحاجي، للأناضول، إن "الأداء التفاوضي للحركة في مسار تشكيل الحكومة كان إيجابياً بمجمله"، لافتاً إلى أنه "لا يجب أن ننسى أن هذه المفاوضات جرت بمناخ سياسي متشنج، ومناكفات وحسابات ذاتية لعديد من الأطراف، ونشطت الكواليس بشكل جيّد"، على حد قوله.
واعتبر أن "النهضة أحسنت التفاوض ومارست، حين يجب، الضغط وكذلك عندما فتحت الباب أمام التوافق"، مردفاً: "في وقت من الأوقات، كان الهدف من العوائق التي وُضِعت أمام النهضة تعميق الخلافات الداخلية التي وقع امتصاصها مؤخراً".
خيار "قلب تونس"
وفيما يتعلق بمحاولات النهضة فرض حزب "قلب تونس" ضمن الائتلاف الحاكم باعتباره –إلى آخر لحظة- شرطاً للتصويت لحكومة الفخفاخ، قال الشعيبي إن "النهضة اعتبرت أن الحزب هو الحليف الموثوق به، والذي تستطيع أن تشكل معه حكومة مستقرة، وتضمن استقرار عمل البرلمان".
موقف لفت إلى أن الحركة "توصلت إليه، خصوصاً بعد سقوط حكومة الحبيب الجملي، وحصول شرخ بينها وبين الكتلة الديمقراطية (مكونة بين حزب التيار الديمقراطي/ اجتماعي ديمقراطي/ 22 نائباً، وحركة الشعب/ قومي ناصري/ 15 نائباً) و4 نواب آخرين)".
واستبعد الشعيبي أن يكون طرح النهضة ورقة "قلب تونس" في مفاوضات تشكيل الحكومة تمّ لمجرد الضغط لتحصيل مزيد من الوزارات".
وبشأن ما إن كان موقف النهضة الأخير من "قلب تونس" خياراً ظرفياً أم توجهاً استراتيجياً جديداً للحركة يقطع مع ما ذهبت إليه منذ الانتخابات التشريعية الأخيرة من اختيار صف "الثورة" لبناء التحالفات الحكومية، بدا الحاجي حذراً: "سيتضح في قادم الأيام، إن كان تحالفاً ظرفياً أم استراتيجياً جديداً للنهضة بعد فشل العمل مع الأحزاب المحسوبة على الثورة".
"ولكن في مفاوضات تشكيل حكومة الفخفاخ، لاحظنا من خلال حوارات قادة الحركة وخاصة رئيسها (راشد الغنوشي) وجود إصرار على مفهوم الوحدة الوطنية". واعتبر الحاجي أن النهضة بذلك "عادت إلى مربع بعض القيم والمفاهيم (الوحدة) التي هي مدعوة لمزيد للدفاع عنها وبلورتها".
التعويل على "خط الثورة"
عماد الخميري، الناطق باسم النهضة، أقر بأن من أسباب تمسك الحركة بحكومة حزام سياسي واسع، هو فشل تشكيل حكومة الجملي على أساس الخط الثوري والخط المناقض له.
وقال للأناضول: "انطلقنا من تجربة خُضناها في تشكيل الحكومة في فصلها الأول المتعلق بتشكيل حكومة الحزب الفائز، ورأينا أن المنحى السياسي في تشكيل الحكومة فشل لعدم جدية بعض الأطراف السياسية (لم يذكرها)، ولأن الانتخابات لم تعطِ للأحزاب أحجاماً كبيرة تسمح لها بتشكيل حكومة على قاعدة مريحة".
وأضاف: "دعوتنا للفخفاخ لتشكيل حكومة وحدة وطنية مبنية أيضاً على قراءة ترى أن الحزام السياسي الناجح هو الواسع الذي يشمل الأطراف والأحزاب التي لها تمثيلية كبيرة في البرلمان". وأردف: "نرى في وعود الفخفاخ لنا بأن يعمل مستقبلاً على هذا المعنى، وهو ما قرب بيننا وبينه وجعلنا نقبل بالمشاركة بالحكومة".
تجنُّب العزلة
وحول ما ظهر من محاولات عزل النهضة سياسياً من خلال ما تمّ تداوله من محاولات أحزاب مساندة للفخفاخ التواصل مع "قلب تونس" لكسب مساندته وترك النهضة منفردة، لم يستبعد الخميري ذلك. وقال: "لا نستبعد محاولات عزل النهضة خلال مفاوضات تشكيل الحكومة"، مشيراً إلى أن "المحاولات تفشل بكل مرة".
وأشار إلى وجود "جهات وأطراف سياسية (لم يسمّها) تبني مسارها في العمل السياسي على إبعاد النهضة، واعتبارها مكوناً لا يُبْنى معه، وهناك محاولات بهذا الاتجاه، ولكن كل محاولة لا تقرأ في الواقع وفي الأحجام السياسية، وتحاول أن تتجاوز المكونات الأصيلة بالمسار السياسي، مآلها الفشل".
أما الحاجي، فأكد وقوع محاولة لعزل النهضة خلال مسار تشكيل الحكومة، و "في وقت من الأوقات، وجدت الحركة نفسها في ما يشبه عملية العزل التي أرادت بعض الأطراف توظيف الفخفاخ في تطبيقها عليها".
واعتبر أن "أحزاباً رفعت السقف عالياً أثناء مفاوضات تشكيل حكومة الحبيب الجملي التي لم تنَل الثقة، ثم تراجعت في شروطها مع الفخفاخ من باب التسهيل"، في إشارة إلى شروط حزبي التيار الديمقراطي وحركة الشعب.
وتابع: "أعتقد أن النهضة وقلب تونس سيتقاربان أكثر، لقد بيّن رئيس الحزب للقروي أن من مصلحته أن يبني علاقة توافق تُبقي على الخلافات والخصوصيات، ولكن توافق بمضمون أعمق وأشمل من ذلك الذي كان بين نداء تونس والنهضة".