هل يصبح الشعب الروسي أقلية في بلاده؟ إذ إن روسيا تواجه أزمة نقص سكان خطيرة، في وقت تمتلك فيه مساحة هي الأكبر في العالم، وهي الأزمة التي دفعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لاقتراح رفع المخصصات التي تقدمها الدولة للأسر في حالة الإنجاب لنحو عشرة آلاف دولار في بعض الحالات.
بدا تصفيق الحضور على مقترحات بوتين ليس مجرد مجاملة للزعيم الملهم، بل هو تعبير عن مخاوف النخبة الروسية من احتمال أن يصبحوا أقلية في بلادهم، وهي مخاوف يروّجها بعض الباحثين، ويتلقّفها اليمين المتطرف.
فأزمة نقص عدد السكان في روسيا ذات وجهين، إذ إنها بدأت تؤدي إلى مشكلة اقتصادية كبيرة جرّاء نقص العمالة، وفي الوقت ذاته فإنها أزمة من شأنها تغيير هوية البلاد.
إذ إن استقطاب المهاجرين من الخارج من شأنه تغيير التركيبة السكانية للبلاد الشاسعة المساحة، وأن يجعل الروس يقلقون من تدفق جيرانهم لبلادهم، خاصة المسلمين والصينيين.
وفقاً للبيانات الصادرة عن وكالة Rosstat الحكومية، فإنه في عام 2018 كان هناك انخفاض في عدد المواليد الجدد بمقدار 90,600 مقارنة بعام 2017.
ولم يواكب هذا الانخفاض تدفق المهاجرين كما كان الحال في الماضي، نتيجة لذلك انخفض عدد السكان بمقدار 93,500 (من بين 146.8 مليون شخص)، خاصة أن المزيد من الروس يغادرون بلادهم.
جذور الأزمة
شهدت روسيا اتجاهاً مقلقاً منذ سنوات، يتمثل في انخفاض عدد السكان على المدى الطويل منذ منتصف التسعينيات، مع إحصائيات مثيرة للقلق بشأن معدل الوفيات، وانخفاض معدلات الخصوبة، وموجات من الهجرة تستنزف أفضل وألمع عقول البلاد.
بدأت الأزمة في عهد الاتحاد السوفييتي، ولكن وصلت إلى ذروتها بعد انهياره، وتحديداً عام 1999، حينما شهدت البلاد أسوأ انحدار ديموغرافي لها.
ولقد ركزت الحكومة الروسية بشكل كبير على القضية الديموغرافية. من منتصف الستينيات إلى أواخر الثمانينيات، ارتفع عدد السكان الروس بشكل مطرد، ولكن انهيار الاتحاد السوفييتي أدى إلى أزمة سكانية تضاعفت بسبب تأخر الأجور، والبطالة الجماعية، وإدمان الكحول.
لماذا يختلف وضع روسيا عن باقي الدول المتقدمة؟.. الرجال يموتون
رغم أن مشكلة قلة المواليد شائعة في الدول المتقدمة، فإنها في روسيا ازدادت سوءاً بالأساس بسبب معدل الوفيات المرتفع مقارنة بهذه الدول.
إذ يبلغ متوسط العمر المتوقع لروسيا لكل من الذكور والإناث أقل بكثير من متوسطه في البلدان المتقدمة، وعلى الرغم من أن معدل وفيات الرضع قد انخفض في روسيا، فإنه لم يواكب انخفاضات سريعة في بلدان أخرى في أوروبا.
كما أن ارتفاع معدلات الوفيات، خاصة بين الرجال، يجعل الوضع في روسيا مقلقاً بشكل خاص. في عام 2018، استمرت الوفيات في تجاوز عدد المواليد. وفقاً للبيانات الصادرة عن الوكالة الحكومية Rosstat، في عام 2018، كان هناك انخفاض في عدد المواليد الجدد بمقدار 90,600، مقارنة بعام 2017. ولم يواكب هذا تدفق المهاجرين كما كان الحال في الماضي.
وفي عام 2017، وصف وزير الاقتصاد الروسي مكسيم أوريشكين الوضع الديموغرافي في روسيا بأنه "واحد من أصعب الظروف في العالم"، قائلاً إنه خلال السنوات الخمس إلى الست المقبلة "سنخسر حوالي 800 ألف شخص في سن العمل من الهيكل الديموغرافي كل عام".
ويمكن أن نُجمل أسباب الأزمة في التالي: زيادة معدلات الوفيات، والتغيرات في الهيكل العمري للسكان، والشيخوخة، والنقص في عدد النساء اللاتي في سن الخصوبة، والسياسات غير المناسبة، مثل تقليل عدد أسرّة المستشفيات، وموانع موسكو ضد الأدوية المستوردة من الخارج، وعدم كفاية سياسات الهجرة.
كما أن البلاد تشهد هجرة هائلة إلى الخارج.
ويزعم تقرير صادر عن المجلس الأطلسي أنه منذ صعود الرئيس فلاديمير بوتين إلى الرئاسة، وخاصة منذ عام 2012 غادر ما بين 1.6 و2 مليون روسي إلى الدول الغربية، ما يؤكد المخاوف من هجرة العقول.
وأظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة غالوب عام 2019، أن 20% من الروس في سن العمل قالوا إنهم سيغادرون روسيا إذا أمكنهم ذلك، بزيادة ثلاثة أضعاف عن خمس سنوات مضت.
قلة النساء
الركود الحالي مرتبط جزئياً أيضاُ بانخفاض عدد النساء في سن الإنجاب، المولودات أثناء الركود المتسارع للسكان الذي حدث في التسعينيات، حسبما قالت نائبة رئيس الوزراء الروسي تاتيانا جوليكوفا.
وتحاول روسيا معالجة هذه المشكلات، مثل تحسين مرافق المستشفيات المتاحة، وتعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وإنفاق الروس على الرعاية الصحية الخاصة قد زاد بالفعل عشرة أضعاف خلال السنوات الـ15 الماضية، ويسافر أكثر من 500 ألف روسي إلى الخارج كل عام للعلاج الطبي أو الجراحي.
كما يستمر استيراد التكنولوجيا الطبية الجديدة بنشاط.
ولكن التدابير التي تعزز العادات الفاضلة بين السكان، مثل اتباع نظام غذائي أكثر صحة، هي أيضاً حاسمة في معالجة الأزمة.
ولكن تظل هناك مشكلة كبرى تتسبب في الانهيار الديموغرافي في روسيا
الكحوليات.. كارثة الفودكا
ألقت دراسة أُجريت في عام 2009 باللوم على الكحول، في أكثر من نصف الوفيات (52 %) بين الروس، الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و54 عاماً في التسعينيات، هذا يقارن بـ 4% من الوفيات لبقية العالم.
وفقاً لمؤسسة Demoscope كان ارتفاع معدل الوفيات بين الذكور اتجاهاً طويل الأمد من عام 1960 إلى عام 2005. وكان الانحدار الكبير الوحيد في هذا الاتجاه سببه حملة ميخائيل غورباتشوف لمكافحة الكحول، ولكن تأثيره كان مؤقتاً فقط.
وفقاً للمؤسسة كان الارتفاع الحاد في معدلات الوفيات في أوائل التسعينيات ناتجاً عن استنفاد تأثير حملة مكافحة الكحول، بينما كانت تداعيات إصلاحات السوق ذات أهمية ثانوية فقط (عادة تتهم بأنها مسؤولة عن زيادة نسبة الوفيات).
كان الكحول سبباً تقليدياً لارتفاع معدلات الوفيات بين الرجال الروس، وشهدت السنوات العشر الماضية أطول حملة لمكافحة الكحول في التاريخ الروسي، مع اتخاذ تدابير تشمل فرض حظر على الإعلان عن الكحوليات القوية، وخطط لخفض الاستهلاك الإجمالي إلى النصف بحلول عام 2020.
الحرية تؤدي للوفاة والحل في النبيذ
وفقاً للتقارير التي تم إعدادها لمائدة مستديرة لمجلس الاتحاد حول السياسة الاجتماعية، من المحتمل أن يموت الرجال الروس الذين يُفرج عنهم في وقت مبكر من السجون، بمعدل أكثر من نظرائهم الذين ظلّوا معتقلين، ويعتبر الكحول هو السبب الرئيسي.
وقام ألكساندر تكاخيوف، وزير الزراعة، بترويج النبيذ مؤخراً كبديل للمشروبات الكحولية القوية مثل الفودكا.
ووفقاً لتكاخيوف، فإن الاهتمام بنوعية النبيذ يتزايد، ومن خلال شرب المزيد من النبيذ يمكن للروس أن يروا أن الأوضاع الصحية والديموغرافية في البلاد تتغير إلى الأفضل، وهو ما يُفرح المنتجين الإيطاليين، وهم أكبر مصدري النبيذ في الوقت الحالي لروسيا.
نأسف لا يوجد موظفون
لا تجد روسيا بشراً لشغل الكثير من الأعمال الشاغرة في البلاد بسبب الأزمة الديموغرافية.
في الدول المتقدمة هناك مخاوف من أن تترك التطورات التكنولوجية قطاعات كاملة من السكان عاطلين عن العمل، لكن في روسيا تفكر الحكومة في كيفية ملء الوظائف بقوة عاملة تتقلص إلى حد كبير.
إذ إن أدنى معدل للولادة في البلاد حدث في عام 1999، وهذا الجيل بلغ سن الرشد حالياً، ويدخلون قوة العمل، ولكنه جيل صغير جداً، فإن عدد السكان في سن العمل سينكمش بمقدار 4.8 مليون خلال السنوات الست المقبلة.و
ويتزايد عدم التناسب بين المناطق الشاسعة وتقلص عدد السكان، ومن المستحيل تحقيق نمو مطرد للاقتصاد الروسي من دون ترقيات هيكلية، وعائدات أعلى بشكل كبير على رأس المال البشري، وزيادة في الهجرة.
وقال ديمتري كوليكوف، الخبير في وكالة التصنيف الائتماني التحليلي، لوكالة الأنباء الرسمية ريا نوفوستي، إن انخفاض قوة العمل جنباً إلى جنب مع انخفاض تدفقات الهجرة يمكن أن يقلل النمو المحتمل بنسبة 0.4% من الاقتصاد الروسي كل عام.
الحل في اجتذاب المهاجرين
قامت الحكومة بمبادرات لرفع سن التقاعد، ومع ذلك لا يعتقد أناتولي فيشنفسكي، مدير معهد الديموغرافيا، في المدرسة العليا للاقتصاد بموسكو، أن رفع سن التقاعد من شأنه أن يُخفف من المشكلة، إذ لا يمكن للمسنين في أي ظرف من الظروف أن يحلوا محل الشباب، إنهم ليسوا فاعلين، كما لا يمكنهم إتقان التكنولوجيا الجديدة.
المفارقة أنه رغم علاقة بوتين الوثيقة بجماعات اليمين الأبيض المعادية للهجرة من العالم الإسلامي، فإن الرئيس الروسي يسمح باستقطاب المهاجرين من الخارج لمعالجة الأزمة الديموغرافية.
وسبق أن وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمراً تنفيذياً بشأن مفهوم سياسة الهجرة للدولة في روسيا، للفترة من 2019-2025. ويقال إن الخطة تتمثل في منح الجنسية إلى ما يتراوح بين 5 و10 ملايين مهاجر.
ولكن تظل الهجرة قاصرة عن معالجة الأزمة، وهو ما تبيّن خلال السنوات الماضية.
وقال أناتولي فيشنفسكي، مدير معهد الديمغرافيا بموسكو "التحدي خطير بالطبع، لكن السؤال هو كيفية الرد على هذا التحدي. بشكل ما قد يتطلب الأمر تدفقاً أكبر من المهاجرين لسد العجز في سوق العمل، والنوع الثاني من الإجابة هو إنتاجية العمل، وهي ليست عالية جداً في روسيا".
كما أشار إلى أن سياسة اجتذاب العمال المهاجرين من آسيا الوسطى أو أي مكان آخر قد تخاطر بإثارة المشاعر القومية. وقال "إن روسيا ليست مضيافة للغاية تجاه المهاجرين. وهناك شعور قوي إلى حدّ ما ضد المهاجرين، لذلك من الصعب تحديد كيف سيتطور الوضع".
وهناك أكثر من 10 ملايين عامل مهاجر يعملون في روسيا.
هل يصبح الروس أقلية في وطنهم؟
المشكلة أن التوسع في اجتذاب المهاجرين يدق ناقوس خطر كبير بالنسبة للروس، قد تكون روسيا بلداً كبيراً سكانياً (نحو 140 مليون نسمة)، ولكن هذا العدد يبدو ضئيلاً مقارنة بمساحة البلاد التي تزيد عن 17 مليون كيلومتر مربع.
إذ تبلغ الكثافة السكانية في روسيا 8.4 نسمة لكل كيلومتر مربع (22 لكل ميل مربع)، ما يجعلها واحدة من أدنى الدول في الكثافة السكانية في العالم. والسكان يتركزون في الجزء الأوروبي.
والأهم أن روسيا بلد متنوع، ويوجد بها أقليات بنسب ليست قليلة، إذ يمثل أبناء العرقية الروسية نحو 81% من إجمالي السكان، ونسبة كبيرة من الأقليات من المسلمين (التتار يمثلون 3.9 من السكان)، ويقدر إجمالي المسلمين في البلاد بما يتراوح بين 10 إلى 15 %.
كما أن جزءاً من هجرة العمالة إلى روسيا تأتي من الجمهوريات الإسلامية التي كانت في الاتحاد السوفييتي، (إضافة إلى بعض الجمهوريات غير الإسلامية مثل أوكرانيا).
ويعتقد عدد من الباحثين أن معدل انخفاض السكان بين الإثنية الروسية أكبر من الشعوب الأخرى التي تعيش في روسيا.
ويعتقد أنه بحلول عام 2025 سيكون 85-90% من التراجع السكاني في روسيا بسبب الروس، وفي غضون العشرين عاماً القادمة ستنخفض النسبة المئوية للروس كتقدير تقريبي إلى حوالي 60 إلى 70%.
ويبالغ البعض قائلين إن نسبة الروس في روسيا في عام 2050 ستصل إلى 46.5%.
ويركز هؤلاء مخاوفهم على المسلمين، إذ سيكون واحد من كل 5 أشخاص في روسيا مسلماً بحلول عام 2030.
وتتحدث تقارير عن الجانب العرقي للأزمة الديموغرافية، الآن ثلث الولادات في موسكو يكون من المهاجرين، الأمر الذي من شأنه أن يغير التكوين العرقي والديني لسكان موسكو في المستقبل القريب.
لكن الصين هي الخطر الأكبر
قد يؤدي تراجع نسبة السكان الأصليين من خلال زيادة حصة المهاجرين، في رأي بعض الباحثين، إلى فقدان السلامة الإقليمية لروسيا في المستقبل.
وهناك احتمالات بأن الخسائر الإقليمية الأكبر ستكون في سيبيريا والشرق الأقصى الروسي.
هذا يرجع إلى انخفاض عدد السكان في هذه الأراضي بسبب انخفاض معدلات المواليد والهجرة الداخلية إلى الجزء الأوروبي من روسيا، والضغط الديموغرافي من البلدان الآسيوية (وخاصة الصين). لأول مرة في تاريخ سيبيريا الروسية يتراجع عدد سكانها بشكل مطرد.
واللافت أن الهجرة الصينية إلى الشرق الأقصى الروسي مفيدة جداً للسيبيريين.
إذ يعاني سكان الشرق الأقصى الروسي بشدة من آثار انهيار الاتحاد السوفييتي، ويحتاجون إلى منتجات متنوعة وعمالة رخيصة لإجراء أعمال تجديد، بالإضافة إلى منافسة لخفض الأسعار، وكل ما سبق ذكره تقدمه الهجرة الصينية.
ومع ذلك، هناك جوانب سلبية لوجود المهاجرين الصينيين. فهناك تجارة غير مشروعة مهمة عبر الحدود، إضافة إلى الفساد والجريمة المنظمة، وهناك مشكلة ملحوظة تتمثل في الجودة المنخفضة للمنتجات التي يقدمها المهاجرون الصينيون.
كما يخاف الروس المحليون من التغييرات المفاجئة والهجرة والمنافسة، علاوة على ذلك فإن النقص الواضح في الأمن (بسبب تزايُد الجريمة المنظمة الصينية)، ونقص الوظائف (حيث إن العمالة الصينية الرخيصة تملأ العديد من المواقع التي يمكن اعتبارها مهينة للغاية للروس المحليين)، والشعور بالحرمان النسبي (نظراً لأن المهاجرين الصينيين أكثر ثراءً بشكل أسرع، ولكن من نقطة بداية منخفضة). كل هذا يخلق التوتر والقلق بين السيبيريين. علاوة على ذلك، كان لروسيا تاريخ صعب مع الآسيويين الشرقيين من غزوات المغول إلى الهزيمة المهينة بالحرب الروسية اليابانية.
وزادت المخاوف جراء ادعاءات الكرملين الهائلة ووسائل الإعلام الجماهيرية بأن هناك ما بين مليونين إلى خمسة ملايين مهاجر صيني في سيبيريا وحدها، في حين تشير التقديرات من المختصين إلى أن هناك 500 ألف شخص.
كل ما سبق يولّد مشاعر قوية مناهضة للصين، ليس فقط في سيبيريا، ولكن في مدن أوروبية بعيدة مثل موسكو وسانت بطرسبرغ أيضاً.
يبدو أن هناك من يحاول أن يستفيد من الأزمة الديموغرافية الروسية لأسباب سياسية، لتأجيج النزعات المعادية للمهاجرين، الذين تحتاجهم البلاد بشدة، ولكن حتى لو تم التسامح مع الهجرة فإن روسيا الدولة العظمى التي ترسل طائراتها للشرق الأوسط تحتاج قبل كل شيء إلى معالجة مشكلة الزيادة السكانية، وكذلك تحفيز المواطنين على البقاء في بلادهم، وهي مشكلات مرتبطة بمشكلات النموذج الاجتماعي والاقتصادي الروسي، الذي أصبح رأسماليته أكثر وحشية من نظرائه الغربيين.
تحتاج روسيا إلى أن تكون جذابة للروس قبل أن تكون جذابة لغيرهم.