الاغتيالات السياسية ليست أمراً غريباً على الولايات المتحدة الأمريكية، فتلك الاستراتيجية التي توصف بأنها "غير أخلاقية ولا قانونية"، ترجع إلى ستينيات القرن الماضي، لكنَّ قتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، يمثل سابقة خطيرة من الناحية القانونية تحديداً.
صحيفة الغارديان البريطانية نشرت تقريراً، بعنوان: "قتل سليماني هو الأحدث في سلسلةٍ طويلة من محاولات الاغتيال الأمريكية"، رصدت فيه أبرز حلقات تلك السلسلة وناقشت الأبعاد القانونية لاغتيال سليماني.
فيدل كاسترو وباتريس لومومبا
يمكن القول إنَّ حكومة الولايات المتحدة ليست بغريبةٍ على فنون الاغتيالات السياسية الخبيثة. فعلى مرِّ العقود الماضية، استخدمت تقنياتٍ معقدة ضد خصومها، بدءاً من إرسال خبيرٍ كيميائي مُسلَّح بسمومٍ قاتلة؛ لمحاولة قتل الرئيس الكونغولي الراحل باتريس لومومبا، في الستينيات من القرن العشرين، إلى دس أقراصٍ سامة في طعام الزعيم الكوبي الراحل فيدل كاسترو، وتجدر الإشارة إلى أنَّ كلتا المحاولتين كانت فاشلة.
لكنَّ قتل اللواء قاسم سليماني، قائد وحدة فيلق القدس الخاصة في الحرس الثوري الإيراني، كان في فئةٍ خاصة به. غير أنَّ الجزء الأكبر من تفرُّد تلك العملية لا يكمن في طريقة تنفيذها، -فما الفرق الذي سيشعر به القتيل إذا اغتيل بطائرةٍ من دون طيار مثل سليماني، أو أُعدِم في أعقاب انقلاب دعمته وكالة الاستخبارات المركزية مثل عبدالكريم القاسم حاكم العراق في عام 1963؟- بل يكمن في وقاحة تنفيذها وتجاهلها التام والواضح لأيٍّ من التفاصيل القانونية الدقيقة أو العواقب الإنسانية.
طريقة غير معتادة في الاغتيالات
وفي هذا الصدد، قال تشارلز ليستر الزميل البارز بمعهد الشرق الأوسط في واشنطن: "الولايات المتحدة ليس من المعتاد أن تمارس اغتيال المسؤولين الرسميين البارزين علانيةً بهذه الطريقة. صحيحٌ أنَّ سليماني كان شخصية وحشية مسؤولة عن كثير من المعاناة، وأنَّ الولايات المتحدة أدرجت فيلق القدس، الذي كان يرأسه، ضِمن قائمة التنظيمات الإرهابية، ولكن لا شكَّ في أنَّه قد يكون ثاني أكثر الأشخاص نفوذاً في إيران بعد المرشد الأعلى".
هذا وأسفرت تغريدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي يتباهى فيها بالاغتيال الأخير ويبتهج به، إلى جانب جهودٍ متفرقة لإيجاد مبرراتٍ للعملية في القانون الأمريكي أو الدولي، عن اتهام الولايات المتحدة بارتكاب نوعية الجرائم نفسها التي عادةً ما تتهم بها أعداءها. إذ ندَّد وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، بالاغتيال، واصفاً إيَّاه بأنَّه "عملٌ إرهابي دولي".
في حين قال فيبين نارانغ، أستاذ العلوم السياسية بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، إنَّ القتل "لم يكن ردعاً، بل كان بمنزلة قطع رأس".
"ليست صورة جميلة"
وتجدر الإشارة هنا إلى كثرة التدخلات الأمريكية خلال الأعوام الخمسين الماضية والتي حاولت -ونجحت أحياناً في- القضاء على خصومٍ أجانب بوسائل مشكوك فيها للغاية من الناحيتين الأخلاقية والقانونية. إذ اعترفت الدولة بأنَّها نفَّذت ما لا يقل عن 8 محاولاتٍ لاغتيال كاسترو، مع أنَّ الرقم الحقيقي ربما يكون أعلى من ذلك بكثير.
وفي هذا الصدد، يتحدث ويليام بلوم، مؤلف كتاب Killing Hope: US Military and CIA Interventions Since World War II، عن مجموعةٍ من الخطايا الأمريكية بدءاً من عمليات الغزو والتفجيرات وإطاحة الحكومات والاغتيالات إلى فرق التعذيب والقتل. ويصف تلك الخطايا في استنتاجه غير الحاد، قائلاً: "هذه ليست صورةً جميلة".
وفي السياق نفسه، يُعتقد أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية كانت مسعورةً بشدة في تنفيذ عمليات الاغتيال بالستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، لدرجة أنَّ لجنة تشيرش حقَّقت في عام 1975 في عديد من محاولات الاغتيال التي نفَّذتها الوكالة ضد زعماء أجانب من بينهم لومومبا، ورافائيل تروخيو رئيس جمهورية الدومينيكان الأسبق، ونغو دينه ديم رئيس الوزراء الفيتنامي الراحل، وكاسترو بالطبع. وفي تداعيات ذلك التحقيق، حظر جيرالد فورد، الرئيس الأمريكي آنذاك، تدخُّل الولايات المتحدة في الاغتيالات السياسية الأجنبية.
غير أنَّ هذا الحظر لم يدُم طويلاً. فمنذ عام 1976، تواصل الولايات المتحدة الانخراط في محاولاتٍ للقضاء على قادة أجانب، أو تواجه اتهاماتٍ بذلك.
إذ شنَّ الرئيس الأمريكي الأسبق، رونالد ريجان، غارات في عام 1986، استهدفت الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي. وفي الآونة الأخيرة، وتحديداً قبل عامين، زعمت كوريا الشمالية أنَّ وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية حاولت اغتيال زعيمها كيم جونغ أون.
لكنَّ معظم المحاولات في العصر الحديث كانت سريةً، وأجريت بعيداً عن أعين المراقبة ودون لفت الانتباه. وحتى العمليات التي أعلنت الولايات المتحدة مسؤوليتها عنها، كانت تستهدف قادة ميليشيات أو جماعات مسلحة مثل تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش).
إذ حقَّق الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما وترامب انتصارين كبيرين في تحسين صورتهما حين أشرفا على مقتل أسامة بن لادن، وأبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم داعش، على التوالي.
رفض اغتيال سليماني من قبل
وعلى النقيض من ذلك، فحتى عهد إدارة ترامب الحالي، كانت الولايات المتحدة تحاول تفادي إجراء محاولات اغتيال علنية ضد مسؤولين رسميين بارزين مرتبطين بأنظمةٍ سيادية. وهو ما ينطبق على سليماني نفسه.
ففي عام 2008، عملت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بالتعاون مع جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد) لاغتيال عماد مغنية، الذي كان أحد كبار قادة حزب الله. وفي أثناء ترتيبهم للعملية، كانت لديهم فرصة لقتل سليماني كذلك مع مغنية في غارةٍ جوية واحدة بطائرةٍ من دون طيار. ولكن في النهاية، أُلغيت العملية، لأنَّ الحكومة الأمريكية منعتها بداعي أنَّها يمكن أن تزعزع استقرار المنطقة بصورةٍ خطرة.
وعلى الرغم من هذا التحفظ، ربطت ماري إيلين أوكونيل، أستاذة القانون الدولي بجامعة نوتردام، ربطاً مباشراً بين أفعال الإدارات الأمريكية السابقة وتصرُّفات ترامب الحالية التي لا يُمكن التنبؤ بها وتُحطِّم كل الأعراف والتقاليد. إذ قالت إنَّ ظهور الطائرات من دون طيار في عام 2000، وضع الولايات المتحدة على منحدرٍ زلق نحو الأزمة الحالية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ أول استخدام لطائرةٍ من دون طيار في محاولات الاغتيال جاء بأوامر من الرئيس الأمريكي الأسبق، بيل كلينتون، للقضاء على بن لادن. ثم تمت أول "عملية قتل مستهدف" ناجحة، كما يُطلق عليها الآن، بعد ذلك بفترةٍ وجيزة، ونفذتها إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش الابن، في اليمن.
ثم ورث أوباما من بوش الاستخدام الغزير للطائرات من دون طيار في عمليات الاغتيال، وزاد تكرار استخدامها لهذا الغرض عشرة أضعاف، في حين كان يسعى إلى إضفاء طابعٍ من صفة احترام القانون عليها في "مذكرات القتل المستهدف" السرية الداخلية. إذ أكَّدت تلك الوثائق أن عمليات الاغتيال بطائرات من دون طيار لها مبرراتها في القانون الدولي باعتبارها دفاعاً عن النفس ضد الهجمات الإرهابية المستقبلية، لكنَّ هذا الأساس المنطقي واجه تشكيكاً كبيراً، ووُصِف بأنَّه سوء تفسير لميثاق الأمم المتحدة.
وفي هذا الصدد، قالت ماري أوكونيل: "منذ عهد أوباما، هناك تخفيفٌ مستمر لبنود القانون الدولي. واغتيال سليماني يُمثِّل أحدث مراحل ذلك التخفيف، لذا فنحن نتحرك في اتجاهٍ منحدر نحو وضعٍ سينعدم فيه القانون تماماً"
وأضافت أنَّ الولايات المتحدة أمامها خطوةٌ واحدة لـ "تتجاهل القانون تماماً". وقالت: "بصراحة، أعتقد أن الرئيس ترامب وصل إلى تلك المرحلة بالفعل، إذ كانت حجته الوحيدة هي أنَّ سليماني كان رجلاً سيئاً، وأنَّ قتله كان ضرورياً لذلك".