يبدو أن رئيس الوزراء الهندي القومي الهندوسي أساء تقدير رد الفعل بين الملايين من قاعدته الانتخابية، حيث طالت الاحتجاجات ضد قراره الأخير بشأن الجنسية وتسجيل المواطنين معاقله الهندوسية، ولم تعد مقتصرة على مناطق المسلمين المستهدفين بالقانون المثير للجدل.
صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية رصدت التحول في المشهد في تقرير بعنوان: "الاحتجاجات تندلع في الهند، ومودي يتخذ وضعاً جديداً: الدفاع".
"كنت أراه قائداًً قوياًً، لكنني أراه الآن وحشاًً"
نيدي تيواري، هندوسية من الطبقة العليا، وقد صوَّتت لصالح رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في الانتخابات الأخيرة. وهي تعيش في دائرة مودي الانتخابية، مدينة فاراناسي (أحياناً يُطلق عليها مدينة "بنارس")، وهي مدينة هندوسية مقدسة، وكانت السيدة حتى الأسبوع الماضي واحدة من بين ملايين المؤمنين به في قاعدته الانتخابية.
لكنَّ تيواري، وهي طالبة جامعية، انقلبت على مودي، فانضمت إلى الاحتجاجات المتنامية التي تجتاح البلاد بعدما أقرَّ هذا الأخير قانون جنسية مثيراً للجدل، ينظر إليه المزيد والمزيد من الهنود باعتباره معادياً للمسلمين، ويُسدد ضربة لأساس التسامح والعلمانية في الهند.
قالت تيواري: "اعتدتُ النظر إلى مودي باعتباره قائداً قوياً، باعتباره الشخص الذي كانت الهند تنتظره منذ زمنٍ طويل. لكنَّني الآن أراه وحشاً".
تهديد وجودي للمسلمين
كان مودي يبدو كما لو أنَّه لا يمكن إيقافه، إلى أن تدفق هذا الغضب، فكان الرجل الذي يركب موجة من الشعبوية يدفع بخططٍ تجعل الهند أقرب لكونها وطناً للهندوس، وهو حلم مثير للانقسام يتبناه حزبه السياسي الذي تضرب جذوره بعمق في رؤية للعالم تتسم بمركزية الهندوسية فيها وتُشكِّل تهديداً وجودياً للأقلية المسلمة الكبيرة في الهند.
وبدأ بعض الدعم الذي يتمتع به في التصدع الآن، حتى في مناطق معاقله مثل فاراناسي. إذ يقف الهنود للمرة الأولى في وجه مودي على نحوٍ واسع وقوي. والطريقة التي سيمضي بها هذا الأمر في الأسابيع القليلة الماضية قد يكون لها تأثير مزلزل على الهند.
تَثِب الاحتجاجات من مدينة إلى مدينة. وباتت تستقطب مجموعة واسعة وعلى نحوٍ متزايد في المجتمع الهندي، بما في ذلك أنصار سابقون لمودي والكثير من غير المسلمين.
أكبر حركة احتجاجية تواجه مودي
إذا ما نجحوا في إبطائه أو تغيير مساره فقد يكون ذلك انتصاراً دائماً للنسخة العلمانية من الهند التي تصوَّرها المؤسسون باعتبارها بلداً متعدد الثقافات، يضم تنوعاً مذهلاً من اللغات والأديان والهُويات الجغرافية، لكن إذا ما تبدّدت الاحتجاجات فإنَّ رؤية مودي لدولة هندوسية قد تقترب أكثر.
قال ميلان فايشناف، مدير برنامج جنوب آسيا بمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي: "هذه بلا شك أكبر حركة مقاومة يواجهها مودي من المجتمع المدني منذ وصوله للسلطة عام 2014".
تعكس مدينة فاراناسي، وهي مدينة من المعابد على ضفاف نهر الغانج يلجأ إليها مودي بصورة متكررة للحصول على القوة الروحية -وأصوات الناخبين- هذا التحدي. فلا يزال لديه كثير من الدعم، لكنَّ مناطق من المدينة انفجرت تحت قدميه.
إذ تدفّق المسلمون والطلبة والمهنيون ذوو الميول اليسارية والهندوس من الطبقتين الدنيا والعليا إلى الأزقة الضيقة المُسوَّرة بالطوب يهتفون: "يسقط مودي".
ردَّت الشرطة بضرب الناس، ودفع الأبواب، وقطع الإنترنت، واعتقال العشرات، وفي إحدى المناسبات الاندفاع بسرعة لمهاجمة حشد ما تسبب في تدافع أدَّى إلى سحق صبي يبلغ من العمر 9 سنوات كان بالخارج يقود دراجته الهوائية الحمراء.
ومع تزايد الاحتجاجات في أنحاء البلاد، التحق بها مئات الآلاف. وتعرَّض الآلاف للاعتقال وقُتِل أكثر من 20 آخرين، ولا تزال التظاهرات مقتصرة على الاحتجاج على قانون الجنسية الجديد الذي يُسرِّع مسار منح الجنسية للمهاجرين من البلدان المجاورة الذين يدينون بالهندوسية والبوذية والمسيحية والسيخية والديانة البارسية (زرادشتيون إيرانيون بالأساس هاجروا إلى الهند منذ زمنٍ بعيد)، والديانة الجاينية (ديانة هندية قديمة)، وهذه تمثل كل الأديان الرئيسية في جنوب آسيا باستثناء دين واحد: الإسلام.
ضربات موجعة لديمقراطية عريقة
لكنَّ السياق الأوسع هو وجود هند لم يعد نجمها يلمع كما كان قبل سنواتٍ قليلة مضت، فالتذمر يزداد بشأن الاقتصاد الضعيف، والاحتجاجات لا تساعد في علاج هذه المشكلة. كان مودي قد تعهَّد بتوفير ملايين من فرص العمل الجديدة، لكنَّه لم يفعل. وفي أرجاء معقل الصناعة بشمال الهند، يشعر الناس بضيق ذات اليد.
قد تكون فاراناسي مدينة مقدسة تُحرَق فيها جثثٌ لا تُحصى على طول ضفاف نهر الغانج، لكنَّها كذلك مدينة حديثة يُنتَج في مصانعها عدد لا يُحصى من أزياء الساري الهندية.
قال فيشوامبار ناث ميشرا، وهو أستاذ في الهندسة الكهربية ورئيس أحد المعابد المهمة: "أسمع ذلك في كل مكان بالمدينة: الناس ضاقوا ذرعاً بهذا النظام. لماذا دفع بهذا (القانون)؟ هل كان هذا هو حقاً ما نحتاجه في هذا الوقت؟".
لكن حتى في هذه اللحظة المضطربة والمثيرة للانقسام يقف جزء كبير من الهند بصلابة خلف مودي. فهو يتمتع بدعمٍ أعمق وأوسع من أي شخصية هندية أخرى منذ عقود، وهو ما مكَّنه من المضي قدماً بأجندته التي تستعدي الأقليات وتخفيف التقدميين.
إذ راحت حكومته وحلفاؤه يغيرون أسماء المناطق من الأسماء الإسلامية إلى أخرى هندوسية، وحذفوا الشخصيات الإسلامية التاريخية من الكتب المدرسية ويحتفون بتجمعات الغوغاء الذين يقتلون المسلمين.
حمى شعبوية مقلقة
وبعد إعادة انتخاب مودي بأغلبية ساحقة، في مايو/أيار الماضي، بلغت الحملة القومية الهندوسية حد الحُمّى، فجرَّدت حكومته ولاية كشمير، وهي الولاية الهندية الوحيدة ذات الغالبية المسلمة، من صفة الولاية، ثُمَّ مررت قانون الجنسية الجديد.
لا يمكن الحكم على شعبية مودي لمجرد حقيقة أنَّ الأيديولوجيا القومية الهندوسية تبلي حسناً في بلدٍ يمثل الهندوس 80% منه. فإدارة مودي أدَّت أداءً أفضل من الحكومات السابقة في الدفع بالمبادرات الكبيرة لمكافحة الفقر، مثل بناء 100 مليون مرحاض للمساعدة في وقف ظاهرة التبرز في العراء وانتشار الأمراض المميتة.
ويسيطر حزبه، بهاراتيا جاناتا (أو حزب الشعب الهندي)، وحلفاؤه تقريباً على ثلثي الغرفة الأدنى بالبرلمان. وفي هذه الأسابيع الماضية، أظهر ساسة المعارضة مجدداً مدى تشظِّيهم، من خلال عدم الاستفادة من الاحتجاجات.
فلم يكن هناك أي شيء حتى يمكن وصفه بأنَّه استراتيجية مُنسَّقة، وفيما كانت الشرطة تلقي القبض على الطلبة والمثقفين، كان الكثير من قادة المعارضة يحتفون بالمحتجين، لكن من حساباتهم بموقع تويتر.
تهديد الأجندة الأيديولوجية
يقول المحللون إنَّ مودي في أمان من الناحية السياسية، لكنَّ هذه الاحتجاجات تشكل تهديداً لأجندته الأيديولوجية، فقالت كانشان شاندرا، أستاذة العلوم السياسية بجامعة نيويورك الأمريكية: "مودي ليس سياسياً عادياً يقيس نجاحه بعدد الأصوات فقط. إنَّه يرى نفسه مهندساً للهند الجديدة، التي تُبنى على أساس من القوة التكنولوجية والثقافية والاقتصادية والعسكرية، وبدعمٍ من أيديولوجية قومية هندوسية".
بدأ الشعور بتأثيرات هذا بالفعل. إذ خسر حزب مودي انتخابات الولاية في جهارخند هذا الأسبوع. وأرجأ هو وقيادات حزبه خططاً للمضي قدماً بإجراء عملية مراجعة وطنية للجنسية.
وقد تُجبر تلك العملية كل الهنود على تقديم دليل موثق يثبت أنَّهم مواطنون، وهو أمر صعب في بلدٍ نامٍ يوجد فيه عدد لا يُحصى من الأشخاص الذين لا يملكون مثل تلك السجلات. وكان الشك واسع النطاق هو أنَّ الحكومة تدفع بهذه المراجعة، فضلاً عن قانون الجنسية، بغرض حرمان المسلمين من حقوقهم، ولو أنَّ مودي ينفي ذلك بشدة.
مرَّ وقتٌ طويل منذ اضطر مودي (69 عاماً) للعب دور الدفاع. إذ بدأ مسيرته من جذورٍ متواضعة، فكان يتجول في البداية وحيداً في الهمالايا كواعظٍ في شبابه، ثُمَّ أصبح ناشطاً حزبياً على الأرض، ثُمَّ رئيساً لوزراء إحدى الولايات، ثُمَّ رئيساً لوزراء البلاد بأكملها.
وهو يعرف جيداً مخاطر التوترات بين الهندوس والمسلمين. ففي عام 2002، حين كان رئيساً لوزراء ولاية غوجارات، اتُّهِم بالسماح بذبح أكثر من ألف شخص، معظمهم من المسلمين، في أحداث عنف طائفية. لم تُوجَّه له اتهامات قط، ولو أنَّ الشكوك استمرت.
يُشِعُّ مودي قوةً، لكنَّه مؤخراً يبدو أقل ثقةً بالنفس
ففي تجمُّع خارجي ضخم من أنصاره بعد ظهيرة يوم الأحد 22 ديسمبر/كانون الأول، في برد الشتاء وأمام حشد يهتفون "مودي مودي مودي"، بدا الرجل مشدوداً ومُشتتاً، بل وغاضباً حتى.
هاجم مودي ما وصفها بـ "المؤامرة" من جانب ساسة المعارضة، ولم يُعرب عن حزنٍ يُذكَر، أو حتى يعترف بأولئك الذين قُتِلوا. وأعطى الانطباع أنَّه يزدهر في المواقف الجدلية والصعبة، فقال: "كلما كرهوني ينهمر المزيد من حب شعب هذه البلاد عليّ".
في الوقت نفسه، كان مودي يحاول التصرف كما لو أنّ كل شيء، بطريقة ما، طبيعي. فذهب إلى لقاء على نهر الغانج في يوم وتحدث في أحد مؤتمرات الاستثمار في يومٍ آخر. وداخل حكومته، عبَّر عن ثقته في أنَّ العاصفة ستنجلي قريباً. ويعتقد أنَّ السخط هو مجرد غضب من الرافضين بسبب السرعة التي يمضي فيها بسياساته التي عانى الساسة الهنود السابقون لتنفيذها.
ومع أنَّ الاحتجاجات اندلعت في كل ولاية هندية تقريباً، كان العنف أشد وطأةً -وقُتِل معظم الناس- في الولايات التي يسيطر عليها حزب مودي السياسي، مثل ولاية أوتار براديش.
إذ يقول الشهود إنَّ قوات الشرطة تحت قيادة يوغي أديتياناث، رئيس وزراء الولاية، وهو راهب هندوسي وأحد المقربين من مودي، اجتاحت بصورة ممنهجة أحياء المسلمين، فاقتحمت المنازل، واعتقلوا الرجال المسلمين، ودمّروا ممتلكات العائلات المسلمة، واتُّهِمَت شرطة أديتياناث على نطاق واسع بإطلاق الرصاص الحي على الحشود.
"تهديد لروح الهند"
وفي فاراناسي، الواقعة في ولاية أوتار براديش، يشعر الحي المسلم بأنَّه تحت الاحتلال. فالحياة تمضي، الأطفال يطيِّرون طائراتهم الورقية من فوق أسطح المنازل، ويقلي الناس كرات العجين في المقليات الساخنة للغاية، ونصف الأسواق مفتوحة، لكن كل هذا يحدث وسط توتر كثيف يكتنفه العنف.
يجوب ضباط الشرطة الذين يرتدون زي وخوذة مكافحة الشغب الأزقة، ويحمل بعضهم أسلحة رشاشة خفيفة. ويحملق السكان فيهم.
قال وكيل أحمد، الذي كان نجله واحداً ممَّن تعرضوا للدهس الأسبوع الماضي: "ماذا عساي أقول للسيد مودي؟ سأسأله: (لماذا تلحق بنا تلك الفظائع؟)".
عادةً ما تسير الحشود في الاحتجاجات مكونة من آلاف الأشخاص، وسيتعين عليها استقطاب مجموعات أخرى كي تتوسع. فطبقة "المنبوذين" وأفراد الطبقات الأدنى على سبيل المثال ظلت تشكو لسنوات من التمييز في ظل حكم مودي.
كان الكثير من المحتجين صغار تقدميون، مثل تيواري، وهي طالبة علوم سياسية تبلغ من العمر 20 عاماً وكانت أسرتها داعمة منذ فترة طويلة لمودي. وتعتقد أنَّ خطوات مودي الأخيرة تهدد "روح" الهند، وقالت: "في كل مرة أتجادل مع والدي"، وتقول تيواري مع أنَّ والدها لا يقدم لها حججاً منطقية، فإنَّه لا يزال يدعم مودي.