الطعام هو أحد الأشياء القليلة "المقدسة" بإيطاليا. وحين استضاف البابا فرانسيس مأدبة غداء لفقراء روما في 17 نوفمبر/تشرين الثاني، أصبحت قائمة الطعام، وليس البادرة نفسها، حديث الصحف. إذ تعرَّض البابا، الذي لا يتمتع بشعبية كبيرة بالفعل بين أتباع تيار اليمين، لهجوم من إعلام المحافظين، لأنَّ اللازانيا التي قدَّمها كانت خالية من لحم الخنزير. فقد تبيَّن الفاتيكان أنَّ بعض ضيوف المأدبة سيكونون من المسلمين؛ لذا وفَّر لهم وجباتٍ حلالاً.
لكن اليمين الإيطالي اعتبرها "إهانة مزدوجة"؛ فلم يكتفِ البابا بإظهار تعاطفه مع المهاجرين فحسب؛ بل تسبب في سبيل ذلك بتخريب وصفة من المطبخ الإيطالي التقليدي، يتطلب صنعها مزيجاً من لحم البقر ولحم الخنزير، تقول مجلة Foreign policy الأمريكية.
"مصدر فخر قومي مقدس"
وفي حديث تلفزيوني مؤخراً، هاجم ماتيو سالفيني، رئيس حزب "الرابطة" اليميني المتطرف، الاتحاد الأوروبي، لأنَّ أحد تشريعاته التي تشترط قابلية تتبُّع الطعام، تضع العراقيل أمام السيدات العجائز الإيطاليات اللاتي يبعن المعكرونة المصنوعة منزلياً في جنوب مدينة باري. وقال سالفيني: "إذا أتيت إلى باري ولم تعجبك سانت نيكولا ولا الفوكاشيا، فعُد إلى بلدك"، مشيراً إلى كنيسة القديس الراعي للمدينة وأحد أطباقها الشهيرة. ولم تُثَر أية مشكلة بخصوص خبز الفوكاشيا، لكن دفاع سالفيني كان استباقياً، ليوضح أنهم "غير مضطرين إلى تغيير تقاليدهم".
وبهذا، أصبح الطعام في إيطاليا محور حرب ثقافية تشنها أحزاب تيار اليمين ووسائل الإعلام المؤيدة ضد التعددية الثقافية والبيروقراطيين الأوروبيين. فبالنسبة لتيار اليمين، أصبح المطبخ الإيطالي التقليدي مصدراً للفخر القومي ورمزاً للهوية الوطنية، التي يُعتقد أنها في خطر بسبب الصواب السياسي والتعددية الثقافية.
ويتعهد اليمينيون الإيطاليون بحماية اللازانيا ومعكرونة التورتليني -التي تحتوي وصفتهما الأصلية على خليط من لحم الخنزير ولحالبقر، ومزيج من لحم الخنزير وشرائح الخنزير المقددة، على التوالي- للسبب نفسه الذي يدافعون من أجله عن تمثيل مشاهد ميلاد المسيح وتعليق الصُّلبان في المدارس العامة؛ ألا وهو إقصاء المواطنين المسلمين بإيطاليا، الذين تشمل معتقداتهم الدينية تجنُّب أكل لحم الخنزير، من ثقافة الدولة.
أما اليهود، الذين يحرِّم دينهم أيضاً أكل لحم الخنزير، فهم ببساطة ليسوا جزءاً من المعادلة في خطاب سالفيني؛ إذ "لا يوجد الكثير من اليهود في إيطاليا، أما الموجود منهم هناك فأغلبهم لا يلتزمون تعاليم دينهم، ونادراً ما يلتحقون بالمدارس العامة؛ لذا ليس من الشائع أن تجد يهودياً إيطالياً يحتج على تقديم لحم الخنزير في مطعم المدرسة".
"لازانيا لحم الخنزير العمود الفقري للحضارة الإيطالية"
وعقب تقديم البابا لازانيا خالية من لحم الخنزير، كتب أنطونيو سوتشي، مؤلف كاثوليكي محافظ، مقال رأي في صحيفة Libero اليمينية الإيطالية، اتهم فيه البابا فرانسيس بالاشتراك في "أيديولوجية تعددية ثقافية انتحارية تؤدي إلى رفض كل ما هو مسيحي وغربي". واحتج سوتشي بأنَّ اللازانيا المكونة من لحم الخنزير هي العمود الفقري لـ "الحضارة الإيطالية، مثلها مثل النبيذ وجبن البارميزان".
ولم تكن حادثة لازانيا البابا فردية؛ فحين استضاف ماتيو زوبي، رئيس أساقفة بولونيا، مأدبة عشاء للفقراء في أكتوبر/تشرين الأول، في يوم القديس الراعي لمدينة بولونيا، انهالت عليه الانتقادات للسبب نفسه. إذ قدَّم رئيس الأساقفة طبق التورتليني المشهور، المكون من معكرونة دائرية الشكل محشوة بلحم الخنزير المُقدّد أو العادي. لكن ليجعله صالحاً للضيوف المسلمين، أمر زوبي بحشو بعضها بالدجاج وليس الخنزير. وأثار هذا الخيار غضب سالفيني، الذي اتهم زوبي بـ "طمس تاريخ إيطاليا".
ومن بين الذين أغضبهم طبق تورتليني الدجاج أيضاً، أندريا إنديني، المحرر في الصحيفة المحافظة Il Giornale الإيطالية والذي كتب مقالاً بعنوان "دفاعاً عن التورتليني (والتقاليد)". وفي لقاء مع إنديني، قال إنَّ الخروج عن الوصفة التقليدية للتورتليني خطير؛ لأنه "قد يتسبب في تشويه مجتمعنا، حتى أكثر مما تفعله العولمة". واعترض إنديني تحديداً على تغيير الوصفة الأصلية لتناسب ثقافة أخرى: "فكرة تغيير التورتليني لعدم إزعاج المسلمين استفزازية… التقاليد مهمة، وتبدأ من صغائر الأمور".
وبينما يتعهد اليمين الشعبوي بالدفاع عن التقاليد ضد ثقافات المهاجرين والعولمة بكل مكان تقريباً، هناك لمسة إيطالية استثنائية في قضية التركيز على الطعام هذه.
ويرجع ذلك جزئياً إلى حقيقة أنَّ الطعام له مكانة خاصة في الثقافة الإيطالية: فعديد من الإيطاليين، بغضّ النظر عن توجههم السياسي، يمتعضون من فكرة بيتزا هاواي؛ لأنهم يعتبرون أنَّ إضافة الأناناس إلى البيتزا جريمة في حق الطهي، ويمكنك أن تشاهد على الإنترنت عديداً من مقاطع الفيديو لجدّات إيطاليات يعبرن فيها عن صدمتهن من كيف تُشوه الدول الأخرى وصفاتهن التقليدية.
اللازانيا تتحول إلى سلاح بيد اليمين
من جانبه، يعتقد دافيد ماريا دي لوكا، مراسل سياسي من موقع الأخبار Il Post، أنَّ هناك تفسيراً آخر لذلك؛ وهو أنَّ "معدل الانتماء الوطني في إيطاليا متدنٍّ للغاية؛ لذا فهم (تيار اليمين) يحوّلون وصفة التورتليني أو اللازانيا إلى سلاح". والشيء ذاته يحدث في فرنسا؛ حيث تحوّل الطعام إلى سلاح ضد المهاجرين المسلمين، بعد أن شن أعضاء من حزب مارين لوبان، السياسي اليميني، حملة ضد محلات الكباب، ونظمت حركة Bloc Identitaire nationalist (حركة الهوية القومية) مهرجانات مخصصة للنقانق الفرنسية (السوسيسون) والنبيذ الأحمر.
وبدأ الخطاب اليميني الداعي إلى نقاء الطعام بإيطاليا في أواخر التسعينيات، تزامناً مع أول موجة هجرة كبيرة من شمال إفريقيا وصعود حزب "الرابطة" اليميني.
وفي ذلك الوقت، كان "الرابطة" حزباً انفصالياً يرتكز في الشمال الغني (وكان يُسمَّى حينها "رابطة الشمال")، لكنه كان معارضاً للهجرة أيضاً. ومع الجمع بين هاتين الأجندتين، توصل الحزب إلى شعار "نعم للبولينتا ولا للكسكسي". (البولينتا هي طبق عصيدة مشهور في جبال الألب الإيطالية الشمالية يُصنَع من دقيق الذرة).
لكن لم تتحول ما تسمى "السيادة الغذائية" إلى قضية سياسية كبرى إلا بالسنوات الأخيرة. وفي عام 2017، حظرت حكومة مدينة ترييستي الإيطالية اليمينية الطعام "الإثني" من مطاعم المدارس العامة؛ "لحماية تقاليدها". وفي عام 2018، حظر عمدة مدينة جنوة الإيطالية المحافظ فتح مطاعم عالمية في بعض شوارع وسط المدينة، بحجة حماية "التقاليد الأوروبية". وقبلها بسنوات قليلة، أعلن عمدة مدينة بيزييه الفرنسية، روبير مينار، أنه سيمنع افتتاح محلات كباب جديدة؛ لأنها "غريبة تماماً عن ثقافتنا".
"ثوابت غير قابلة للمساس"
ويسعى السياسيون ذوو الميول اليمينية جاهدين إلى أن يظهروا في صورة عشاق للطعام. فمن جانبها، نشرت جيورجيا ميلوني، زعيمة حزب الفاشية الجديدة "أشقاء إيطاليا"، سلسلة من مقاطع الفيديو الخاصة بالطهي على الإنترنت: ميلوني، التي فاقت شعبيتها مؤخراً شعبية سالفيني، تعد سلطة كابريزي (وهي ليست مهمة شاقة؛ كل ما عليك فعله هو وضع طبقات من الموزاريلا والطماطم والريحان وزيت الزيتون)، في حين تنتقد الاتحاد الأوروبي.
وبالمثل، يتمحور تفاعل سالفيني عبر الإنترنت حول الطعام بقدر ما يدور حول السياسة: زعيم "الرابطة" ينشر صور غدائه -أو العشاء أو وجبة خفيفة بعد الظهر- وعندما يسافر إلى أي مكان في الدولة، يحرص دوماً على نشر صور الأطعمة المحلية الشهية في المنطقة التي يزورها.
لكن كثيراً من الأطعمة الإيطالية ليست من أصول إيطالية!
وعلى الرغم من تركيز اليمين الإيطالي على الأطباق التقليدية كما لو لم يطرأ عليها أي تغيُّر عبر التاريخ؛ ومن ثم فهي ثوابت غير قابلة للمساس، فإنَّ الأطعمة المنزلية الإيطالية غالباً ما يكون لها أصل أو تأثير أجنبي. وقد تغيرت وصفاتها عبر الزمن.
وفي هذا الصدد، قال ماركو إيم، عالم الأنثروبولوجيا في جامعة جنوة الإيطالية: "يعتقد الجميع أنَّ الطعام الذي يتناولونه نموذج للمكان الذي يعيشون فيه، لكن الحقيقة أنَّ معظمه جاء من الخارج في أوقات من التاريخ قديمة نوعاً ما. فعلى سبيل المثال، السباغيتي من أصل صيني، وتعرفت إيطاليا على الطماطم عن طريق أمريكا".
ودخلت البولينتا كذلك إلى إيطاليا من الأمريكيتين. إضافة إلى ذلك، فعديد من الوصفات الصقلية، وضمن ذلك المعكرونة بالسردين والكسكسي (نعم، الكسكسي الصقلي)، أدخلها العرب إلى إيطاليا خلال حكم المسلمين للجزيرة في القرن التاسع. وكذلك الشربات، الذي لا غنى عنه في المطبخ الإيطالي، يعود لأصول عربية.
من جانبه، علَّق ماسيمو مونتناري، مؤرخ طعام في جامعة بولونيا، قائلاً إنَّ "أي تقليد مؤقت ومولود من ابتكار الماضي"؛ فمثلاً ابتُكِرَت التورتليني في العصور الوسطى و "حشوُها بالدجاج أو الرومي اعتُبِر أمراً عادياً حتى القرن التاسع عشر". ولم تُستحدَث قاعدة لحم الخنزير فقط المزعومة إلا لاحقاً (إذ كان لحم الخنزير رخيصاً، وكان بالإمكان صنع المعكرونة المحشوة، من البقايا في محلات الجزارة".
وقد يكون اعتقاد عدم قابلية تغيير تقاليد الطهي في الدولة؛ ومن ثم وجوب حمايتها من التأثير الأجنبي، فكرة خاطئة تاريخياً، إلا أنها ترسخت في خطاب إيطاليا اليميني. فعندما تصدَّر أحد معلمي المدارس الثانوية عناوين الصحف في شهر نوفمبر/تشرين الثاني؛ لتهديده بعض طلابه علناً بعدم منحهم درجات النجاح؛ لأنهم شاركوا في مظاهرة مناهضة للقومية، سارعت وسائل الإعلام الإيطالية بالإشارة إلى أنَّ المعلم، جيانكارلو تالاميني، لديه موقع شخصي على الإنترنت يعلن فيه بفخرٍ أنه عنصري، "لأنني أحب البولينتا والتورتليني".
"الشعبوية المَعِديّة"
ويُطلِق فابيو باراسكولي، أستاذ دراسات الأغذية بجامعة نيويورك الأمريكية، على هذا اسم gastropopulismo (الشعبوية المَعِديّة). ويقول إنَّ الغذاء أصبح وكيلاً لوصف الهوية الوطنية، وهو أمر ينطبق على الجميع. وأضاف: "الغذاء هو ما أنت عليه. وهو أداة سهلة في خطاب الحفاظ على السيادة؛ لأنه يضرب على أوتار حساسة. فالغذاء يُدخِل القضايا العالمية الكبرى إلى الحياة اليومية".
وأوضح باراسكولي أنَّ "الشعبوية المَعِديّة" نشأت من تيار اليسار "مع ظهور حركات مثل Slow Food وإحياء المثقفين اليساريين ثقافة الأطعمة المحلية في المناطق التي تراجعت فيها الأنشطة الصناعية". واليوم، صار هذا النوع من الخطاب أكثر شيوعاً بين أفراد تيار اليمين، لكن تظل شعبيته هي الأكبر في المناطق غير الصناعية.
من جانبه، أشار دافيد دي لوكا، الصحفي السياسي، إلى أنَّ الحنين إلى المطبخ التقليدي يسيطر بقوة على شمال شرقي البلاد، مقر حزب "الرابطة". وقال: "إنَّ مقاطعة فينيتو، التي كانت ذات يومٍ المحرك الاقتصادي لإيطاليا، ترى الآن شبابها يهجرونها إلى ميلانو أو إلى الخارج". وفي ضوء ذلك، أصبح التمسك بالطعام التقليدي مصدراً للراحة.
الطعام والهوية
ويثير هذا الإصرار على أنَّ الطعام من التقاليد سؤالاً هو: في بلدٍ مثل إيطاليا، من الذي يقرر ما هو التقليد وما هو غير ذلك؟ فعلى مدار ما يقرب من 3000 عام من التاريخ، شهدت شبه الجزيرة الإيطالية مجموعة واسعة من التأثيرات والغزوات؛ بدايةً بالفينيقيين من بلاد الشام، ثم الرومان الذين أدخلوا معهم على المطبخ الإيطالي تأثيرات من جميع أنحاء إمبراطوريتهم الواسعة. وبعد انهيار الإمبراطورية الرومانية، تناوبت القبائل الجرمانية والعرب على غزو أجزاء مختلفة من شبه الجزيرة الإيطالية، في حين استعمرت النمسا وإسبانيا أجزاء منها في أزمنة لاحقة.
وجلب العرب إلى إيطاليا الكسكسي، والنمساويون طبق الشنيتزل (شرائح لحم أو دجاج مقلية)، الذي يُطلَق عليه في إيطاليا cotoletta alla Milanese (شرائح الميلانيز). أما شيكولاتة موديكا الشهيرة، التي سُميت بهذا الاسم نسبة إلى بلدة موديكا في صقلية المعروفة بها، فيرجع أصلها إلى الفترة التي سيطرت فيها إسبانيا على أجزاء من إيطاليا إلى أن توحدت هذه الأخيرة، في أواخر القرن التاسع عشر تحت حكم ملك يتحدث الفرنسية.
وبالنظر إلى المسألة ضمن هذا السياق، يمكن القول إنَّ المطبخ التقليدي بناء سياسي. إذ يقول باراسكولي، مؤرخ جامعة نيويورك، إنه "الوجه المبتكر من التقاليد". لكن سواء اختُرِع أم لم يُخترع، يمكن أن يصبح هذا التقليد سلاحاً بلاغياً قوياً: "فهو يحدد هويتك، ويشكّل دعامة وحصناً يمكنك من خلاله طرد الغرباء".
والطعام، على وجه الخصوص، يضرب وتراً حساس؛ لأنه غالباً ما يرتبط بالذكريات وتاريخنا الشخصي وإحساسنا العميق بالهوية. فالشعور بأنَّ الطعام بمكوناته التي نشأنا عليها يمكن أن تسلبها منّا قوى العولمة، نقطة قوية يمكن استغلالها في الخطابات السياسية، حتى لو كانت غير دقيقة.